قراءة متأخرة قليلا لـ«ماكيت القاهرة»: عن عالم حقيقي ينبغي عدم تصديقه

حجم الخط
0

في روايته «أمريكا» يبالغ فرانز كافكا في تضخيم الأبنية من بيوت ومسارح ومواقع بناء. كان ذلك يتعدّى العبث بالمساحات والأجسام، للوصول إلى ما يشبه التنبّؤ بما ستتميّز به تلك البلاد، وما تسعى إلى أن تكونه. تحضر مشاهد من ذلك عند قراءة رواية طارق إمام، فمن بدايتها حتى نهايتها، تعمل الشخصيات جميعها على اللعب بالأحجام، وذلك يطال البيوت والساحات والسيارات والبشر، في إطار إعادة بناء القاهرة في مجسّم في غاية الصغر، وهذا يصير في منتهى الكبر حين تتسلل إحدى الشخصيات الثلاث من ثقوب في ذلك المجسّم – الماكيت إلى الخارج.
وإذ يُعمل على بناء مجسم المدينة بكدّ يجعل المشتغلين فيه شبيهين بما نتخيّله من معسكرات العمل الشاقة، وإن كان كل من هؤلاء يعمل بمفرده وممنوع عليه أن يَرى، أو يُرى، من أحد. وطارق إمام، الروائي، لا يكتفي باللعب بالمكان وحده، فها هو يتنقل بين المراحل، تقديما وتأخيرا، فيدعو من يسمّيه أوريجا إلى أن يبني، بتفاصيل حيّة، ما كانته المدينة في 2020، هو الذي يعيش في سنة 2044 مثلا.
ومما يدلّ إلى ذلك اللعب بالزمن، هو أن يعمل الأب والأم، ومن بعدها ابنهما أوريجا، وهو في عمر يماثل عمريهما، في مشروع واحد. أما زمن الرواية السردي فشأنه شأن بشر الماكيت، الذين لا تثبت أجسامهم على شكل، فهو عيش رجراج متقلّب لا نكاد نعرف، نحن قرّاءه، في أي من الأزمنة نحن.
والرواية لا تريد أن تخلق شخصياتها على سوية طبيعية فهم ذوو أشكال ناقصة مثل المرأة مديرة المشروع، التي تدعى المسز، هكذا دون إضافة، التي نعلم في صفحات متأخّرة من الرواية، أنها دون ساقين وهي، إذ تجلس، فإنما على قاعدتها الأسطوانية على نحو ما توضع التماثيل النصفية في المتاحف. ناهيك عن هيئتها الواحدة التي لا يبدّلها الزمن ولا الانفعال ولا الموت. ومثلما هناك أجسام ناقصة، هناك أجسام زائدة عما نعرف. من هذه إصبع أوريجا الذي، إذ يُمدّ مثل الفوهة، يمكن استخدامه كمسدّس، للقتل، وها إن أوريجا أودى، بطلقة منه: «بووووم» بحياة أبيه البلياردو.
أما الأم «نود» فعاشقة لرجل لا يظهر إلا لها، وفي المرآة، سواء كانت هذه مرآة البيت، أو مرآة الحقيبة الصغيرة والمستديرة. وهذا الرجل، رجل المرآة، لا يكتفي، أو لا يُكتفى منه، بمجرّد الظهور، فهو عشيق نود ومجامعها، فعليا وليس استمنائيا، إلى حدّ أننا سنعلم لاحقا أن نود أنجبت أوريجا منه وليس من أبيه بلياردو.
«ماكيت القاهرة» المولعة بإخراج الأشكال عن سويتها وعاديتها، لا تقصّر، أيضا، حين تبني مشاهد غير قابلة للتصوّر. تلك المداعبات أو المجامعات بين نود ومرآتها، جرى تصويرها في حالات وأوضاع كما لو كانت علاقة عادية بين عاشقة ومعشوقها. وهو يظلّ متابعا إيّاها على نحو ما يتابع الروائي مراحل عيش شخصياته. لا يبقي طارق إمام الفكرة الجانحة، التي خطرت له في بداية الكتابة، في تكوينها الأوّل. إنه يستمرّ فيها كما لو كانت أفعالا قابلة لأن تنمو وتُستكمل بما بعدها. أعني هنا كل ما جرى رسمه أو خلقه مشوها بالنقصان أو بالزيادة. ما قرأناه في الصفحة الأولى عن إطلاق أوريجا النار من إصبعه كان، في أعمال روائية أخرى، سيبقى في موضعه، خاطرة هوَسية سريعا ما ينتهي حدوثها، وكذلك حال العين التي عثر عليها بلياردو في الميدان، حية وضخمة، هو الفاقد إحدى عينيه في الأصل.
طارق إمام يواصل مسيرة الفكرة «المجنونة» التي خطرت له. لا يعمل على تخفيفها أو تبريرها، أو حتى التقليل من جموحها. إنها، الفكرة المجنونة تلك، بداية لمشهد خلقه، وعليه أن يستمرّ في استنطاقه وخلقه. وفيما هو يفعل نراه، بالتدريج، ينحّي جانبا المنطق المعتاد لانتظام الأشياء ليرسي في مكانه منطقا بديلا تجتمع متماسكة حوله الأشياء والعناصر التي، بدورها، تؤكد أصالته وفرادته معا. كما تؤكد حيويته وجماليته أيضا حين، مثلا، لا تكتفي مجسمات السيارات الصغيرة بأن تكون مجرد إضافة شكلية لماكيت القاهرة، بل ينبغي لها، لشدة ما ينبغي أن تكون الماكيت حيّة مثلما هي المدينة، أن تسير حين تزوّد بالوقود ويطلع صوت محرّكاتها قويا وتطلع دفعات دخان أسود من عوادمها.
كي يكون هذا المنطق البديل شاملا لكل ما يتناوله، كما لما لا يتناوله، ينبغي له أن يتعدّى العوالم التي يرويها. فعلى أطراف ما يُروى هناك التعليق والتحليل اللذان يبلغان كل شيء، سواء كان وهميا أو عاديا (بحسب الأعراف المتفق عليها). من ذلك مثلا أن الرواية المدوِّرة في فلكها عالم البصريات من ماكيتات وبوسترات عملاقة وأفلام فيديو اعتباطية، تناولت اللغة في مستوياتها الكتابية والشكلية والفقهية كأنها، في إطار العالم المتخيل ذاته، تطرح أسئلة حقيقية.
أعني أن ما كتب أعلاه لم يصل إلى الكلام على الرواية، موضوعها، وهو بناء ماكيت القاهرة وانهدامه لم تصل هذه السطور إليه بعد. كما أنها اكتفت بالتعريفات الأولية لحياة شخصياتها. وأيضا لم تصل تلك السطور إلى مآل الرواية، كما يحدث عادة في القراءات. من الأفضل ربما أن يجري تقسيم هذه الرواية قطعا قطعا، يتناول كل قارىء ما يحسن فهمه منها والتعليق عليه.
«ماكيت القاهرة» لطارق إمام صدرت عن دار المتوسط في 405 صفحات في 2022.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية