إكليروس الشيعة

حجم الخط
7

ثمة ما يستوقف في كتاب بيار جان لويزار الأخير «التاريخ السياسي للإكليروس الشيعي». والمؤلّف باحثٌ فرنسيّ متخصص في تاريخ العراق المعاصر وهذا كتابه الرابع المركّز على العراق (أو هو الخامس إن تجاوزنا التردّد في ضمّ كتابٍ آخر له إلى هذه الفئة). وما يستوقف فيه ليس اتخاذ العراق وتكوّنِ دولته المعاصرة مداراً. فقد كان هذا دأب كثيرين قبله زادهم كثرةً عنفُ المحن التي تقلّب فيها الوطن العراقي وما يزال في ثلث القرن الذي انقضى على بدء الحرب الإيرانية العراقية. ليس البحث في أحوال الشيعة المعاصرين، في إيران والعراق، على الخصوص، وفي محيطهما، هو ما يستوقف أيضاً وقد ازدحمت رفوف المكتبات، في الحقبة نفسها، بكتب دعت إلى تكاثرها الثورة الإسلامية في إيران وما أعقبها من هزّات في بلادٍ قريبة إلى إيران أوّلها العراق وفي أخرى بعيدة عنها بُعدَ اليمن أو لبنان.
يستوقف أوّلاً جعلُ علماء الدين الشيعة – منذ العنوان! – مسمّىً لاسمٍ غير مألوف في المصطلح المكرّس للدلّ على تكاوين الجماعات المذهبية في الإسلام وهو «الإكليروس». فهذا مخالف لقول شائع ذائع مفاده أن «لا إكليروس في الإسلام». وهو قولٌ يمثّل توسّعاً في الحديث المشهور (ولو اختلف في وروده بهذا اللفظ) «لا رهبانية في الإسلام». وأما ما يحمل لويزار على اعتبار علماء الدين الشيعة متشكّلين في «إكليروس» (وهو ما يوحي باعتبار التشيع نوعاً من «كنيسة») فهو مسارُ تشكّلٍ تاريخي معقّد كان مسرحاه المتداخلان، على تنافس، الدولتين العثمانية والفارسية. وما يجعل علماء الدين الشيعة مستحقّين أن ينعتوا بالـ»إكليروس» إنما هو استقلالهم عن الدولة وأجهزتها بتنظيم خاصٍ بهم ذي مراتب وموارد.
ينفرد هذا التنظيم بمدارس يتولّى فيها العلماء ذوو الصفة تجديد السلك وبموارد تتمثّل، على الخصوص، في الخمس والزكاة وتضاف إليها موارد الأوقاف وغيرها… ويتميز التنظيم نفسه بتراتب يقع في قمّته «المرجع الأعلى» يليه ثلّة من المراجع الذين يتبعهم مجتهدون يتوزّعون حيث تظهر حاجةٌ إليهم وقد أخذ يطلق عليهم لقب «حجة الإسلام» بعد أن انفرد المراجع بلقب «آية الله» أو «آية الله العظمى»… وهذه كلّها صفاتٌ تخضع لاعتراف الأنداد ولإقبال المقلّدين وفقاً لنظامٍ يتّسم بمزايا الأنظمة العرفية وبعيوبها لجهة المرونة التي قد لا تكون سوى اسمٍ للنقص في دقّة المفهوم وفي قوّة الإلزام. ويتّصل هذا الهرم بجماعة المؤمنين بحكم مبدأ التقليد الذي يجعل الفرد الشيعي ملزماً باختيار مرجع له يقتديه في العبادات وفي المعاملات سواءً بسواء.
ولقد أمكن أن يتآزر في إتاحة الاستقلال لهذا السلك من علماء الدين أو الفقهاء وضعان متخالفان: فارسي وعثماني. فالتقت- على نحوٍ لا يخلو من المفارقة – «شيعية» الدولتين الصفوية والقاجارية في بلاد فارس و»سنّية» الدولة العثمانية (التي لم تعترف للشيعة بوضع «الملّة» الذي أسبغته على المذاهب المسيحية، مثلاً) على ترك جوانب ذات أهمّية من تدبير أمور الجماعة الشيعية لعلماء الدين. فأصبح منوطاً بهؤلاء تدبير شؤون حيوية لعامّة الشيعة في هذه المملكة وفي تلك. وأصبح لهم من الموارد المستقلّة ومن النفوذ ما يعادل نوعاً من الوصاية المعنوية- وإن تكن محلّ نزاع – على السلطة القائمة في بلاد فارس ونوعاً من السلطة البديلة في جنوب العراق العثماني. وهو ما لم يكن ممكناً أن يبقى بلا فاعليةٍ سياسية أو طموحٍ إلى الفاعلية حين تلوح الفرصة هنا أوهناك.
على أن بين ما يظهره كتاب لويزار – مما تنساه الذاكرة العامّة – ما تتّسم به ظاهرة الإكليروس الشيعي من جدّة نسبية في العراق الذي هو موئلها الأهمّ، العربي والفارسي، إذ كانت المدن الشيعية المقدّسة فيه تضمّ أبرز المراجع الشيعة من عرب وإيرانيين ومن منتمين إلى اقوامٍ أخرى أيضاً. وذاك أن الإرهاص بالمرجعية العليا في النجف (وهي التي تبدو اليوم وكأنها بنت قرونٍ لا تحصى) لا يرقى في الواقع إلى ما هو أبعد من أواخر القرن الثامن عشر. نقول «إرهاص» لأن السمات المميّزة للمرجعية العليا ولما يليها من هياكل لن يظهر مكتملاً، بحمولته السياسية الصريحة، إلا مع السيد حسن الشيرازي في الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر. وأمّا ما يعدّ سنداً عقدياً لهذه الصيغة التنظيمية فكان استظهار المدرسة «الأصولية» على منافستها «الأَخْبارية» في الفقه الشيعي. فإن هذا الاستظهار هو ما منح الاجتهاد موقعه في مزاولة الفقه وجعل للمجتهدين مكانة رفيعة في الجماعة إذ أملى على المؤمن اتّخاذ مرجعٍ يقلّده من بينهم في أمور دينه أو يقلّده توجيه هذه الأمورَ من غير حاجةٍ إلى حرف الجرّ.
هذا وليس الإكليروس الشيعي وحده هو الحديث الظهور أو الاكتمال بل الغلبة الشيعية على عشائر الفرات الأوسط وجنوب العراق جديدة نسبياً أيضاً. فإن منشأ هذه الغلبة كان ميل هذه العشائر إلى الاستقرار الحضري وتعرّضها من ثمّ لغزوات البدو الجمّالين من آهلي جزيرة العرب واحتياجها، في مواجهة هذا الخطر، إلى قيادةٍ توحّد صفّها وتتدبّر لوازم حمايتها. وقد وجدتها في العلماء الشيعة المتوطّنين في مدن الشيعة المقدّسة، وكان معظمهم من الفرس ذوي النفوذ في بلادهم وذوي الموارد. هذا التحوّل الواسع إلى التشيّع، وهو يوهم من يعاينه اليوم برقيّه إلى صدر الإسلام، لا يرقى في الغالب من حالاته، على ما يقرّره لويزار – بعد آخرين – إلا إلى قرنين من الزمن أو أزيد من ذلك بقليل.
أمرٌ آخر يتبدّى لقارئ لويزار هو تبادل الحماية والدعم ما بين الفرعين العراقي (أي العربي) والفارسي من الإكليروس إلى حدّ لا يصحّ اعتباره مبطلاً التمييز بين هذين الفرعين (الرئيسيين في وسطٍ متعدّد القوميات) ولكنه يجعل هذا التمييز ثانوياً في معظم المراحل ويحصر فاعليته في ظروفٍ استثنائية. وهو ما يشي بتغليب لوحدة المذهب على وحدة القومية يستوي قاعدةً على الرغم من خرقه في بعض الأحيان. فقد كانت المزارات العراقية ملجأً عثمانياً لمعارضة العلماء الفرس سلطة بلادهم الأصلية كلـّما اقتضى الأمر. وكانت هذه المزارات تتمتّع بنوع من الحصانة النسبية أقرّت لها بها السلطة العثمانية نفسها. وكانت إيران مستعدّة أيضاً لاستقبال اللاجئين من علماء العراق حين تدعو الحاجة إلى ذلك في العهد العثماني وبعده: أي أيضاً في عهد الدولة العراقية المعاصرة. وكان هؤلاء يجدون في بلاد فارس (وهي بلادهم الأصلية، في أكثر الحالات) أي في مشهد أو في قمّ، مثلاً، ملاذاً معنوياً وبنى استقبال مادية تأذن لهم بمواصلة نشاط قريب الشبه بذاك الذي ألفوا مزاولته في المدن العراقية.
هذا كله يوجب على الدارس الوقوف عند أمرين: أوّلهما العمق الذي أصبح عليه الانتماء المذهبي على الرغم من حداثة عهده، وهو عمق لا تفسير له سوى حدّة الصراع بين أهله ومخالفيهم، وثانيهما حداثة الرابطة الوطنية التي تجعل تعايش الفئتين الفارسية والعربية في الوسط العلمائي، على الخصوص، أمراً ميسوراً، على الإجمال، وإن لم يخلُ من احتكاكٍ عارضٍ وتوليد شرر.
ذاك أظهرُ ما يدعو إلى التأمل في كتاب لويزار. وهذا مع أن الكتاب يتناول مسائل أخرى كثيرة: من ثورة التبغ ثم الثورة الدستورية في إيران إلى الجهاد المواجه للاحتلال البريطاني ثم إلى ثورة العشرين في العراق… وهذا إلى مضيه قدماً في تناول ما شهده كلّ من العراق وإيران، في عشايا الثورة الإيرانية وبعدها، من حربٍ ومن سلم، وفي رصد سياسة المراجع الشيعة حيال مبدأ «ولاية الفقيه» ونكوص الثورة الإيرانية عن مثالها الديني بعد الخميني، وفي بروز مرجعيات شيعية وتكوّن قوى سياسية ممثّلة للشيعة في بلاد مختلفة تنتشر بين لبنان والدول العربية الحافّة بالخليج، إلخ. وفي هذا كلّه تبدو الحواضر الشيعية في العراق مقارّ قيادة رئيسة أو رديفة لحركات سياسية كبرى شهدتها إيران ولنظائر لها شهدها العراق وتبدو أدوارها هذه متآزرة وأدوار المدن الإيرانية.
ينمّ الكتاب بمتابعة دقيقة لهذا كلّه، وإن اعتورتها هنا وهناك هناتٌ هيّنات. وهي متابعةٌ تفضي بنا إلى الراهن من أوضاع الانتشار الشيعي، في مختلف أقطاره، وتجعل من الكتاب مدخلاً إلى هذا الراهن. ولكن العراق وتشيّع شيعته وتشكّل «إكليروسه» الشيعي وأدواره وأطوار محنه المتناسلة تبقى في موقع القلب من هذا الكتاب الذي أراده مؤلّفه جامعاً إلى الدقة في المتابعة بعداً عن التمحّل الأكاديمي أثمر بساطة في العرض وسهولة في القراءة.

كاتب لبناني

أحمد بيضون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد حسن. امريكا:

    ومن يهتم من المسلمين الموحدين المؤمنين بهرطقة او ميليشيات مسلحة تنهب اموال العامة وتدفع منها الخمس؟؟ كيف يصح ذلك؟؟

  2. يقول غاندي حنا ناصر - كوريا الجنوبيه -سوول:

    أستاد أحمد صباح الخير

    استوقفني بالأمس رسم كريكاتور لشهيد ناجي العلي يسأله أحدهم عن دينه
    هل أنت مسلم أم مسيحي سني ام شيعي علوي ام درزي ماروني ام قبطي روم كاثوليك ام روم ارثودوكس .. سؤالي سيدي لمادا غاب المثقف العربي عن المشهد الحالي من هده الترجيديا وهده الملهاه والكوميديا اللاهيه سيدي هده النار الطائفيه والمدهبيه التى تشتعل باسم الدين والحزب والمدهب والطائفه سيدي ماهو قادم هو الأسوأ على مادا سنربي أبنائنا أي حقد أسود ستتوارثه الأجيال القادمه المثقف العربي يتحمل المسؤليه كامله عن هدا التيه وهده الرده من المحيط الى الخليج أستاد أحمد تعالو نبنى غدآ مشرق لأبنائنا والأجيال القادمه أنظر سيدي
    دوله عظمى مثل ماليزيا كل هدا التنوع الثقافي والديني , هناك رجل واحد عظيم اسمه مهاتير محمد باني ومؤسس ماليزيا الحديثه . سيدي تبآ لدالك الأعلام القدر التي ينفث سمومه بأسم الدين والطائفه والمدهب والحزب ؟ الدين لله والوطن للجميع . سيدي نناشدكم كمثقفون عرب ونناشد كل مثقفي الأمه العربيه وصوتهمامسموع في المحافل تعالو نصنع شيئآ للأجيال القادمه قبل أنت تحرق هده النار الجميع التي لم ولن يخرج منها أحد منتصر . تبآ لكل أشكال الطائفيه والمدهبيه تعالو نصنع غدآ مشرق ..

    العائد الى يافا
    لاجىء فلسطيني

    1. يقول kamal-italia:

      dear MR, ghandy nasser,,,congratulation for your comment it’s perfect..but when the arabs will understand this trap and be caught….best regards,,,kamal darwish-italy

  3. يقول حاتم بابكر عوض الكريم ماهل- الخرطوم - السودان:

    الحقيقة عرض الكتاب متماسك وعميق وشيق للدرجة التي تدعونا لمراجعته والاستفاة منه في فهم الراهن وتحولاته الرهيبة___شكرا الاستاذ احمد بيضون شكرا للقدس العربي

  4. يقول ادم ادريس-فقوع:

    بحث يستحق الاهتمام

  5. يقول Salam Adel:

    الإكليروس الشيعي ليس حديث الولادة كما هي وجهة نظر الكاتب بل يمكن ان تكون بداياته مع موت الامام الثاني عشر او غيبته الاولى او الثانية كما يعتقد الشيعة الاثني عشرية وهو المهدي المنتظر٠فعندما كان غائبا كان له وكلاء يقومون باخبار مريديه الشيعة باوامره ووصاياه٠اما بالنسبة لغزوات البدو الجمّالين من آهلي جزيرة العرب فهناك لوي للحقيقة فمن كان يغزو كربلاء والنجف هم الوهابيون لانهم كانوا يريدون تدمير المراقد المقدسة عند الشيعة في المدينتين وكان من يتصدى لهم هم عشائر المنتفك (السعدون)وهم غالبية سنية ومن مدن الفرات الاوسط في العراق٠للتنويه فقط

  6. يقول غاندي حنا ناصر - كوريا الجنوبيه -سوول:

    Dear Kamal
    Good Day

    Still we can do something for tomorrow we can do bright Hap-pennies for the coming Generations our childhood we are the children we are the world why Dear kmal should cry and cry we are living only once for what we are eating each others who is harvesting our straggling! the Arabic human being is the mean loser of this complicated formula this blood shedding or blood bath nobody can stop it the academic peoples Drs .collage students the cultural human being only can do that by our knowledge by our Faithful for each others the loyalty for our home land Relay Kamal what going on is the worse Lets go hand by hand to build the brightening future otherwise the Hell will burn the all at the end no Benefit of the crying totally

    Respectfully

    Coming Back To Yaffa
    Palestinian Refuge

إشترك في قائمتنا البريدية