سيد درويش عبر بالموسيقى من القرن 19 إلى 20 وأضاف التعبير والطرب

حجم الخط
0

بيروت – «القدس العربي»: صدر عن دار «نلسن» في بيروت، ودار «ريشة» في القاهرة، كتاب «سيد درويش … المؤسس»، للكاتب الدكتور فكتور سحّاب. في 319 صفحة تناول سحّاب عبقرية فنان من الشرق، عبر سريعاً في هذا الكون وترك أثراً بليغاً ومؤثراً، في مسار النغم العربي وتطوره، والفن ومقاصده إلى جانب كونه متعة سمعية بالطبع.
ولد سيّد درويش في 17 آذار/مارس 1892، ورحل في 23 أيلول/سبتمبر 1923. نحن إذاً في مئوية رحيل فنان عبقري أسرع في الرحيل، لكنه ترك مقداراً من الإبداع الفني يصعب تصديقه. فقد لحن الشيخ سيد درويش، حسب سحّاب «مئتين وثلاثا وثلاثين أغنية مسرحية على الأقل، في ثلاثين تمثيلية غنائية واستعراضاً وأوبرا».
يقول المؤلف «وربّ سائل: كيف سنح له من الوقت ما يكفي لوضع كل هذه الألحان؟ والحق أن معاصري الشيخ سيد تساءلوا أيضاً، بل شك العاملون معه في أن يضع هذا الفيض من الألحان في هذا الزمن القصير، فأبدل مسيو كاسيو، قائد فرقته الموسيقيّة علامة موسيقيّة في إحدى أغنياته المسرحية، ليختبر علم الشيخ سيّد بما وضعه من ألحان كثيرة في أيام قلائل. وفاجأه الشيخ سيد وفاجأ الموسيقيين، حين استوقفهم وأمرهم أن يؤدوا اللحن، كما وضعه لهم…».
في كتابه «سيد درويش المؤسس» يذكر فكتور سحّاب أن «الشيخ سيّد هو أول من استعمل آلات الأوركسترا الغربية في الموسيقى العربية. ويبدو أن موسيقاه المسرحية تأثرت بهذا أكثر مما تأثرت أغنياته الأخرى، فاستخدم الكمان الجهير – الفيولونسيل، الذي استخدمه عبد الوهاب بعده في أغنيته الخالدة: في الليل لما خلي. واستخدم البيانو في الكثير من محاوراته مع حياة صبري. سأله زكي طليمات: لماذا تركت التخت يا سيد فردّ قائلاً: مثلما خلعت الجبّة والقفطان ولبست البذلة».
وعُرف سيد درويش بأغنيات خصّ بها الطوائف وأصحاب المهن، والتي احتشدت جميعها بالمعاني الوطنية. وفي هذا السياق يتحدّت المؤرخ الموسيقي فكتور سحّاب عن لحن «القُلل القِناوي» أي بياعي الجرار، وفيها حضّ على شراء السلع الوطنية إذ يقول «خُسارة قرشك وحياة ولادك على اللي ماهوش من طين بلادك». إلى أغنيته التي انتقد فيها الإستعمار البريطاني على قطع التلفونات
والتلغرافات، والأغنية تُعرف بلحن الشيّالين «شد الحزام على وسطك»، وهي التي يختمها بالقول «قرّب شيِّلني شيِّل، عمر الشدّة ما تطوّل، لا تقول كتير وقُليّل، بكرا نهيص زي الأول». إلى لحن وضعه خصيصاً للموظفين حين أعلنوا الإضراب العام بوجه الإنكليز. إلى لحن عن المجنّدين من العمّال الفلاحين، الذين كانوا يساقون قسراً إلى الحرب ويعرف بـ «سالمة يا سلامة… رحنا وجينا بالسلامة». وألحان عدّة وضعها في نبذ الطائفية والتفرقة بين المصريين.
في كتابه أفرد الباحث الدكتور فكتور سحاب عدة صفحات للحديث عن فن الشيخ سيد، وما أسماه «المبالغة في تصوره كائناً سياسياً. وإذ تبدو المبالغة نوعاً من أنواع الإعراب عن محبة الرجل، ويبدو الإحجام عنها وكأنه تحقير له. محبة الشيخ سيد وفنّه تقضي أن نعرف حقيقته بلا زيادة ولا نقصان. والشيخ سيد كان عربياً متحمساً ووطنياً مصرياً مؤمناً (بلادي بلادي. قوم يا مصري. مصرنا وطننا وغيرها الكثير) وكان إلهامه شعبياً خالصاً في حبه للفقراء. وكانت الأسباب التي تحدو الملك فؤاد الأول وبلاطه على مناهضة الشيخ سيد كثيرة».
نستنتج مما كتبه سحّاب أن جماعة البلاط حاربوه بعد مسرحية «العشرة الطيبة»، التي تروي انتصار حب الفلاحين على عبث السلاطين الأتراك والألبان الحاكمين، فجرى التضييق على موسيقاه من قبل مصطفى بيك رضا، مدير معهد فؤاد الأول للموسيقى، ومساعده صَفَر على، وهما من أبناء عائلات تركية. ولم يُرفع الحصار عن فن الشيخ سيّد تماماً، إلا بعد ثورة 1952 التي أكرمته وأحيت تراثه.
وفي السيرة الفنية له أنه أسهم «في حسر حصّة الارتجال في الغناء، وإلزام المغني بما وضعه الملحن دون تصرّف أو تبديل». وفي ما يعتبر فكتور سحّاب أن محمد عبد الوهاب، من أنجب تلاميذ الشيخ سيد، وينقل عنه قوله: إن الشيخ سيّد هو الذي فصل الموسيقى العربية عن الموسيقى التركية، وأبرز الملامح المستقلّة في الموسيقى العربية. وهو الذي أنشأ في الموسيقى العربيّة التعبير والتمثيل الموسيقي والتصوير بالموسيقى والغناء. وإن دور «أنا هويت وانتهيت» هو مبتدأ التعبير التمثيلي الإنفعالي الدرامي في الغناء العربي».
وقد صرّح عبد الوهاب مرّة بقوله «أنا درويشي حتى العظم».
في مئويته لا بد من ذكر الروافد الخمسة التي اجتمعت لتكوّن وجدانه وفكره الموسيقى، كما ذكرها فكتور سحّاب وهي: تجويد القرآن، والغناء القومي، والمسرح الغنائي، والموسيقى الشامية، والفن الأوبرالي الإيطالي. وهو الذي انتقل بالموسيقى المدنية العربية من مدرسة القرن التاسع عشر إلى مدرسة القرن العشرين، التي أضافت في الفلسفة الجمالية الموسيقية العربية، عنصر التعبير، إلى جانب عنصر الطرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية