وصل إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية أواسط الشهر الماضي قرابة العشرة آلاف مهاجر عبر المتوسط. الجزيرة الصغيرة، التي اعتاد سكانها استقبال المهاجرين، كان عدد «ضيوفها» هذه المرة يفوق قدرتها على الاستيعاب. إزاء هذه الأزمة المفاجئة بدت ردود الأفعال الأوروبية منحصرة في التردد حول «تقاسم الأعباء»، فيما كانت دولة مهمة مثل ألمانيا تعلن رفضها استقبال أي شخص.
في الفضاءات الأوروبية طرحت أسئلة من قبيل: كيف وصلت هذه الأعداد، وما هو مستقبل التعاون مع دول شمال ووسط افريقيا إن كانت لا تلتزم بدورها في حماية الحدود؟ لكن بالنسبة للسلطات الإيطالية، فإن الوقت لم يكن وقت أسئلة أو لوم، بقدر ما كان وقت إيجاد حل سريع للمشكلة المتفاقمة. بوجود أطفال ونساء ومرضى بين العابرين، كان السؤال الأخلاقي يتردد أكثر، فأوروبا التي تكترث لحياة الحيوان والنبات، لا يمكنها أن تكتفي بتجاهل هؤلاء الناس. مساحات التحرك الإيطالية الضيقة لا يمكن أن يكون من بينها التجاهل، أو التفكير بإغراق المهاجرين، أو حتى منعهم من الوصول. مجرد التجرؤ على طرح هذه الأفكار سيكون أشبه بالانتحار السياسي.
قضية المهاجرين تأتي في زمن تسيطر فيه على أوروبا الأفكار اليمينية، التي تحذر من اختطاف القارة بواسطة الوافدين من أصحاب الثقافات المختلفة والمتناقضة مع «القيم الأوروبية»
في حال إصرار دول الجوار الأوروبي على رفض المشاركة في استقبال الواصلين، على اعتبار أنهم يقعون تحت مسؤولية إيطاليا، التي قدموا إليها أولاً، فإن إيطاليا ربما تقوم باتباع سياسة «دعه يمر»، التي تغض بموجبها الطرف عن عبور أعداد من المهاجرين إلى دول أخرى. تتهم إيطاليا بأنها تفعل ذلك بالفعل، خاصة أنها لا تبادر إلى أخذ البصمات، ووضعها في النظام الأوروبي، ما يجعل الشخص محتفظاً بحقه في تقديم طلب لجوء في أي دولة أخرى. تؤكد هذا الاتهام الاحصائيات، التي تشير إلى أن أعداد اللاجئين في إيطاليا تظل قليلة مقارنة بغيرها. المشكلة هي أن توسع إيطاليا في هذه السياسة، التي تتمسك بها كحل وحيد في مقابل «الأنانية» الأوروبية، يعني أن تكثف دول الجوار من الإجراءات الأمنية على الحدود معها، وهو ما قامت به بالفعل كل من فرنسا وسويسرا، ذلك يعني فشل الأوروبيين في مواجهة المشكلة، كما سيعني أن اتفاقية حرية الحركة بين بلدان «شنغن» الأوروبية باتت قيد المراجعة، وهو ما سيتناقض في الحالة الفرنسية مع السياسة الماكرونية، المبنية على تعزيز الوحدة والتضامن الأوروبي. بهذا تجد إيطاليا نفسها في موقف صعب تجبر فيه على الاختيار، ما بين تحمل تبعات اللاجئين وحيدة، أو العمل على دفعهم بشكل غير مباشر للانتقال إلى أماكن أخرى داخل الاتحاد، وتحمل ما سوف يثيره ذلك عليها من سخط. مسألة اللاجئين وعقدة الجغرافيا تفسران لماذا تتسم النظرة الإيطالية لافريقيا بالكثير من الحذر مقارنة بدول أخرى كفرنسا أو ألمانيا، وهي تفسر كذلك لماذا لا يتحمس الإيطاليون للتدخلات العسكرية في القارة الافريقية تحت أي مسوغ. كانت تجربة الحرب الأطلسية على ليبيا أنموذجاً لا تفضل إيطاليا تكراره، فبسبب تلك الحرب، التي كانت شعارات براقة مثل «الديمقراطية» و»حماية المدنيين» من دوافعها، غرقت المنطقة في سلسلة من الأزمات، التي ما تزال تعاني منها حتى اليوم، والتي وصلت آثارها إلى القارة الأوروبية، عبر أفواج من اللاجئين الهاربين من أتون الفوضى. مؤخراً لم تكن إيطاليا مقتنعة بالمنطق الفرنسي الملوح بالحرب في النيجر، فقد كانت تدرك إن حرباً في الساحل الافريقي، تعني مزيدا من الفوضى وعدم الاستقرار والإرهاب، وهي جميعها عوامل ناجحة لدفع الآلاف، بل الملايين للتفكير في أوروبا، وفي السواحل الإيطالية، كملجأ.
قضية المهاجرين تأتي في زمن تسيطر فيه على أوروبا الأفكار اليمينية، التي تحذر من اختطاف القارة بواسطة الوافدين من أصحاب الثقافات المختلفة والمتناقضة مع «القيم الأوروبية»، خير مثال لانتعاش تلك الأفكار هو ألمانيا، التي أصبح فيها الحزب المتطرف «البديل لأجل ألمانيا» ثاني أهم الأحزاب. لا مكان في بلادنا للمهاجرين أصبحت عبارة ألمانية، كما كانت من قبل مقولة سياسية شائعة في كل من بولندا والمجر، اللتين تسيطر عليهما حكومات ترفض فكرة توزيع اللاجئين. الأمر لا يقتصر على المستوى الوطني، حيث يتوقع أن يحظى اليمينيون بعدد غير مسبوق من مقاعد البرلمان الأوروبي في الانتخابات التي ستعقد في يونيو/ حزيران من العام المقبل. هكذا تنقسم البلدان الأوروبية ما بين دول يسيطر عليها اليمين بالفعل، وأخرى يتزايد فيها نفوذه وشعبيته، كما يحدث حاليا في بلجيكا مع حزب «مصلحة الفلامش»، الذي ينادي بانفصال الجزء الناطق بالهولندية والمهدد ثقافيا، وفق خطاب الحزب، بغزو المهاجرين وتمدد الفرانكفونية.
في أحوال كثيرة تجد الأنظمة السياسية نفسها مجبرة على مسايرة هذه الموجة وإرضاء ملايين الناخبين المقتنعين بها. يفسر هذا ما يحدث حالياً من مزايدة في فرنسا على الأطروحات اليمينية، فرنسا تبتكر بين يوم وآخر قوانين أكثر صرامة ضد المهاجرين، وخاصة الأقلية المسلمة، كما ظهر مؤخراً في قضية منع ارتداء «العباءة» في المدارس. اليمين لم يسيطر بعد على فرنسا، لكن من غير المستبعد أن تتصدر شخصية متطرفة مثل مارين لوبان انتخابات العام 2027. في الساحة السياسية الأوروبية ما يزال هناك يسار نشيط وأحزاب تحاول خلق مبادرات في سبيل التعايش المشترك ونقد منطق الكراهية، الذي تقوده شخصيات مثل ماكسميليان كراه من حزب «البديل» الألماني، الذي صرح مؤخراً بأن «التعدد الثقافي هو تعدد الإجرام». مقابل مثل هذه التصريحات المظلمة تنطلق أصوات من مبدأ حاجة أوروبا الاقتصادية للمهاجرين، يركز المدافعون عن المهاجرين على دورهم الإيجابي في المجتمع ويقومون في سبيل ذلك بمبادرات على غرار المبادرة، التي قامت بها بعض الأحزاب الفرنسية داعية من خلالها منح العمال المقيمين بشكل غير قانوني الحق في الإقامة والتجنس. للأسف فإن الصعود السريع لأحزاب مثل «البديل» الألماني أو «الحرية» النمساوي، وهما حزبان لم يكن لها أي ثقل حتى بداية هذا القرن، يجعل الرهان على مثل هذه الأصوات المعتدلة صعباً. في إيطاليا يسيطر اليمين على الحكومة منذ العام الماضي عبر تحالف تقوده جورجيا ميلوني أول رئيسة وزراء لحزب متهم بالفاشية في أوروبا منذ الحروب العالمية. حالة ميلوني، التي طالما انتقدت العملة الأوروبية الموحدة ومؤسسة الاتحاد، والتي كانت تدعو لعمل حاجز عبر البحر لمنع الهجرة، تقدم مثالاً على أن الأحزاب المتطرفة لا تنفذ بالضرورة كل ما كانت تدعو إليه بعد وصولها إلى السلطة. تخفف هذه الحقيقة، التي تعززها أمثلة أخرى لسياسيين يمينيين وصلوا للحكم في كل من السويد وفنلندا، من حالة الهلع حول تصدر اليمين. يمكن القول إن فشل «البريكست» البريطاني، في تحقيق النمو المطلوب، وفي منع دخول المهاجرين، قدم درسا مهما للأحزاب اليمينية، التي أدركت أن الحل لا يكمن في الابتعاد عن المجموعة. السياسيون المتحمسون السابقون مثل ميلوني بدؤوا في تبني خطاب عقلاني قائم على أهمية التضامن الأوروبي والحلول الجماعية للأزمات. ربما لن يتخلى المتطرفون عن عدائهم للمهاجرين بشكل كامل، إن وصلوا إلى الحكم، لكن المهم أن فرص قيامهم بإجراءات راديكالية مثل إلغاء اللجوء أو طرد الأجانب تظل مستبعدة. هذا لن يمنع أولئك للأسف من تنفيذ سياسات فيها تضييق متزايد على الأقليات.
كاتب سوداني