القاهرة ـ «القدس العربي»: حلت الذكرى الخمسون لحرب العبور المجيدة، بينما حلم التغيير الذي يداعب آمال المصريين يزداد ابتعادا، على الرغم من أن الرئيس السيسي أكد مؤخرا أنه بوسع التواقين للتغيير أن يحققوا حلمهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فيما أنصار المرشح المحتمل أحمد طنطاوي يحيط بهم التشاؤم بسبب فشل غالبيتهم في استخراج التوكيلات لنصرة الشاب الذي يراهنوان عليه في دعم حلمهم الكبير.
وضع غير مطمئن بالتأكيد للسلطة الحاكمة في القاهرة، بسبب الأنباء الواردة من واشنطن، التي تحمل تردي العلاقات بين البلدين، إذ أعلن السيناتور بن كاردين، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، أنه قرر منع التمويل العسكري المقدم إلى مصر، وحجب المعونة الأخيرة، ووقف المعونة وصفقات بيع السلاح للنظام المصري مستقبلا، حتى تتخذ الحكومة أربع خطوات جادة لتحسين ظروف حقوق الإنسان: أولها يتمثل في ضرورة تصحيح وإنهاء قرارات “الحبس الاحتياطي” التعسفية، قبل المحاكمات. كما طالب بن كاردين بسرعة إطلاق سراح السجناء السياسيين، وفك الحصار عن الجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان، فضلا عن ضرورة توفير مساحة كافية للمعارضة السياسية والمجتمع المدني والإعلام المستقل في مصر. وبدورها كرّمت القوات المسلحة، عددا من أبناء الشهداء ومصابي العمليات الحربية في بداية العام الدراسي الجديد، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لانتصارات أكتوبر/تشرين الأول المجيدة، كما نظمت عددا من الزيارات المنزلية لأسرهم في نطاق الجيوش الميدانية، والمناطق العسكرية في مختلف محافظات الجمهورية، وفاء لذكرى أبطال القوات المسلحة، الذين ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، لتظل سيرتهم العطرة مبعث فخر في سجلات التاريخ.. وفي القاهرة وغيرها من المدن والقرى استقبل الطلاب عامهم الدراسي بخبر لا يلوح بالخير، إذ كشفت مصادر محلية أن استمرار انقطاع التيار الكهربائي، وفق ما يعرف “خطة تخفيف تحميل الكهرباء” مستمر، بهدف مواجهة النقص الحاد في المازوت والغاز اللازمين لتشغيل محطات إنتاج الكهرباء، وهو ما عزز حالة الغضب في صفوف العائلات التي تشعر بالخطر على مستقبل أولادها التعليمي.
ومن أخبارالماراثون الرئاسي: أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات، التشكيل الجديد لمجلس إدارتها برئاسة المستشار حازم بدوي نائب رئيس محكمة النقض، الذي سيتولى مهام منصبه بدلا من المستشار وليد حمزة، الذي كان قد عُين في شهر يونيو/حزيران الماضي رئيسا للهيئة استكمالا لمدة رئيس الهيئة الراحل المستشار لاشين إبراهيم والمحددة بـ 6 سنوات. ومن أخبار البرلمان: أسفرت نتائج انتخابات هيئات مكاتب اللجان النوعية في مجلس الشيوخ عن فوز النائب خالد محمد سعيد بمقعد رئيس لجنة الإسكان والإدارة المحلية والنقل. كما فاز النائبان فايز إبراهيم محمد وأكمل الله فريد بمقعدي الوكيلين، والنائب أحمد صبور بمقعد أمين السر. وفاز النائب أحمد أبوهشيمة بمقعد رئيس لجنة الشباب والرياضة.
موتوا بغيظكم
تَربينا منذ نعومة أظفارنا على مبادئ ومُثل، كانت وستظل كما قال صبري الموجي في “المشهد” منهجَ حياة، ومعالمَ طريق. من تلك الأمثال: “المساواةُ في الظلم عدل، وأنه ليس للكذب رجلان”، إلا أن كذب الحكومة (سوبرمان) فله رجلان، ومفاصل، وركب، وأرداف مُكتنزة، تُمكنه من الجلوس بثبات، وإخراج لسانه للمواطنين وهو يقول لهم: موتوا بغيظكم. هذا ما لاحظناه في أكثرَ من ملف من ملفات الحكومة المصرية الحالية، ويأتي على رأسها ملفُ الكهرباء، فبعدما ظلَّ لسنوات مناطَ فخر، تتغنى به الحكومة، صار مؤخرا وصمة عار بعد الانقطاع المُتكرر والمُقنن، الذي مضى على بدايةِ حدوثه أكثرُ من شهرين ونصف الشهر، علما بأن تصريح الحكومة عقب تفاقم تلك الأزمة، أكد أنها مُشكلةٌ طارئة بسبب درجات الحرارة غير المسبوقة، وكثرة استهلاك الوقود، وأنه سيتمُ التغلبُ عليها خلال أيام، وصارت الأيام شهورا، وما زلنا محلك سر، ووعدُ الحكومة أضحى في خبر كان والمؤسفُ أنه لم تكن الحكومةُ وحدها هي من روجت ذلك الوعد الكاذب، بل أيدها إعلامٌ أتقن فنَّ التطبيل والهلوسة، وبرر الخطأ، وبدلا من أن يكون لافتا لأوجه الخلل والداء لعلاجها، لبس ثوب المحاماة، ودافع عن تقصير الحكومة كما لو كانت أمه وأباه، فتعالتْ أصواتُ بعض الإعلاميين الحنجورية في دفاع مُستميت عن الحكومة، وطالبت المواطنين بضرورة الانتظار والتحمل، مؤكدين أنه انتظارٌ لن يطول، ولكنه طال وسيطول؛ وهو ما يؤكد أن تصريحات هؤلاء الإعلاميين لم تكن عن دراية، بل وجَّه دفتها الهوى والمصلحة الشخصية، والدخولُ السنوية التي تزيد على الملايين لمجرد الطبل والزمر. حدوثُ الأزمات – يا سادة – في كلِّ دول العالم أمرٌ وارد، لكنَّ الحكومات الرشيدة سرعان ما تتعامل معها، وتتمكن من إزالة أسبابها، أما في مصر فالأمرُ مختلف، إذ إن التعايش مع الأزمة، وتبريرها هو السمة السائدة، وهو ما نلمسه مع انقطاع الكهرباء المُتكرر والمُقنن، والذي استمر حدوثه مع بداية الأزمة في قرى ومدن مصر، وبعدها تخلصت منه المدن، بينما ما زالت تُعاني القرى والأرياف ويلاته. والسؤال: إلى متي سيستمر هذا السواد الكالح، خاصة بعد بداية الدراسة في المدارس والجامعات، وحاجة الطلاب الماسة للكهرباء؟
لولاها لانهارت
كشف السفير أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدولة العربية، عن الدعم العسكري الذي قدمته الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل في محاولة لإنقاذ خسارتها أمام القوات المصرية في حرب أكتوبر/تشرين الأول المجيدة، وحسب محمد شعبان في “الشروق”، أشار أبوالغيط إلى استشعار وزارة الدفاع الأمريكية ضغوطا عسكرية إزاء إسرائيل خلال تلك الفترة؛ نتيجة إنهاك قواتها في الحرب في فيتنام، التي تزامنت مع حرب أكتوبر. وأضاف أن الولايات المتحدة كانت أمام التزامات عسكرية ليس من بينها تقديم الدعم العسكري ومد إسرائيل بالمدفعيات والدبابات، في ظل حاجتها إلى تسليح الجيش الأمريكي في فيتنام والبالغ قوامه آنذاك 250 ألف جندي، واستند أبوالغيط إلى شهادات مارتن إنديك السفير الأمريكي لدى إسرائيل خلال تلك الفترة في كتابه عن انتصار أكتوبر حين قال عن الدعم الأمريكي: “المساعدات العسكرية والمعدات العسكرية انهالت على إسرائيل إلى الحد الذي وصلت إسرائيل يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول؛ 250 صاروخا تاو- تاو المضاد للدبابات بالليزر”. ولفت إلى أسر القوات المصرية دبابات أمريكية الصنع من إسرائيل لم تقطع سوى 60 كيلومترا على الأرض، مضيفا أن الصواريخ الأمريكية مثلت تطورا في الهجوم على القوات المصرية، قائلا: “خسائرنا يوم 14 أكتوبر وصلت 250 وحدة عسكرية بين دبابات ومدرعات؛ نتيجة الدعم الأمريكي”. وأثنى على دور القائد العام للقوات المسلحة المشير أحمد إسماعيل خلال حرب أكتوبر 1973، مثمنا قيادته الحكيمة في إدارة الحرب والسيطرة على القوات حينها، قائلا: “استطاع أن يسيطر على القوات ولم ينجرف وراء إسرائيل؛ لأنه كان يعلم أن الجيش الذي بني على مدار 7 سنوات؛ لو فقد لن يعود مرة ثانية”. وأردف السفير أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، رصدنا الدبابات الإسرائيلية تنسحب للشرق، قائلا: الإسرائيليين بيقولوا انتصروا وأنا أقولهم في المشمش، أمال انسحبتوا لما أنتو انتصرتوا؟ وقال إن إسرائيل حفرت خندقا لمنع عملية عسكرية كانت مصر تعد لها، حيث كانت القاهرة لديها 1000 دبابة في الغرب تحاصر القوات الإسرائيلية في ثغرة الدفرسوار. واستطرد السفير أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية: كانت لدينا قوات مدرعة في الشرق ولم تكن محاصرة وكانت تطل على مدينة السويس ففكرة الترويج لحصارنا ليست صحيحة. وأوضح أن كيسنجر أدرك أنه لو نفذت عملية قادر المصرية ستدمر إسرائيل وجيشها، ولذا عرض سحب القوات المصرية والإسرائيلية ولكن السادات رفض.
لن ينسوها
إذا أردت أن تعرف ماذا فعلت حرب أكتوبر في إسرائيل من الداخل، ينصحك طارق تهامي في “الوفد” بأن تقرأ بعض ما كتبته الصحف الإسرائيلية، التي تتعامل مع هذه الحرب باعتبارها صدمة لم يكن يتوقعها قادة الحرب في تل أبيب. صحيفة «إسرائيل تايمز» كشفت عن بعض الصور التي نشرها «أرشيف إسرائيل» الحكومي الرسمي بمناسبة الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر/تشرين الأول، التي أطلقت عليها الصحيفة «حرب يوم الغفران». وقالت الصحيفة إن آلاف الوثائق والصور والتسجيلات ومقاطع الفيديو، التي تم توثيقها في الأرشيف توفر نظرة متعمقة على الطريقة التي تم بها التعامل مع الحرب والفشل الاستخباراتي (الإسرائيلي) الكبير الذي سبقها. من بين الصور التي حرصت الصحيفة الإسرائيلية على نشرها عبر موقعها الإلكتروني، صورة بألف صورة.. صورة قد تبدو عادية.. ولكنها في الواقع تُلخص مباراة كبيرة ومعركة خارج خطوط المواجهة.. نجحت فيها مصر في خداع إسرائيل، الصورة لجندى في البحرية الإسرائيلية يتزوج حبيبته في قاعدته العسكرية، قبل حرب أكتوبر 1973 بأيام قليلة (الصورة تنقل دلالة حالة الاطمئنان الإسرائيلي لعدم إقدام مصر على الهجوم، أو مجرد التفكير في الحرب، وهو ما يؤكد التجهيز الاستخباراتي المصري، وتعمد نقل صورة غير صحيحة للجانب الإسرائيلي بأن مصر غارقة في مشكلاتها، وأنها – خلال فترة زمنية طويلة – لن تهاجم القوات المُحتلة ناحية الضفة الغربية بأعداد كبيرة من الجيش المصري). الصورة التي تم نشرها بالأبيض والأسود، مكوناتها عبارة عن جنود في القوات البحرية في الجيش الإسرائيلي يحملون قاربا مطاطيا (من النوع الذي يصاحب السفن المتوسطة لاستعماله في التحرك لمسافات صغيرة) وكان يقف فوق هذا القارب الجندي الإسرائيلي وخطيبته، في احتفالية داخلية بزواج الجندي الذي اطمأن قلبه وقلوب قادته بأن مصر لن تهاجم.
عبقرية الخداع
الخداع الاستراتيجي الذي أدارته القيادة المصرية، في ذلك الوقت قبيل وخلال حرب العبور، كما أخبرنا طارق تهامي، تم بكل احترافية وقدرة وكفاءة عبر أجهزتها ومؤسساتها، كان سببا فاعلا في مُباغتة العدو الذي فقد توازنه، مثلما قال الرئيس السادات، في ست ساعات. وقالت المسؤولة عن الأرشيف روتي أبراموفيتش: «هذه نظرة شاملة على قصة الحرب، التي أثرت في جميع مناحي الحياة في إسرائيل». الصحيفة الإسرائيلية كشفت عن توفر بعض الوثائق والسجلات للمداولات التي جرت بين رئيسة الوزراء آنذاك غولدا مائير وقادة الأمن في الأيام والساعات التي سبقت شن سوريا ومصر الحرب المنسقة في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 بينما كانت إسرائيل تحيي يوم الغفران. وقالت الصحيفة من خلال تحليلها لمعلومات موقع الأرشيف الحكومي: «لم تتوقع إسرائيل تنفيذ الهجوم ضدها على الرغم من العلامات الصريحة التي أشارت إلى أن الجيشين يستعدان للغزو، معتقدة أنه في أعقاب هزيمة مصر قبل ست سنوات في حرب الأيام الستة، فإن القاهرة لن تهاجم إلا إذا اكتسبت أولا القدرة على شل سلاح الجو الإسرائيلي». وأضافت: «قبل يوم من بدء الحرب، قال رئيس المخابرات العسكرية إيلي زعيرا لرئيسة الوزراء غولدا مائير إن التقييم السائد هو أن جاهزية إسرائيل تنبع بشكل أساسي من الخوف منا، أعتقد أنهم ليسوا على وشك الهجوم، ليس لدينا دليل. من الناحية التقنية، هم قادرون على التحرك. وأفترض أنهم إذا كانوا على وشك الهجوم، فسنحصل على مؤشرات تنبهنا لذلك». (طبعا المؤشرات لم تظهر.. ولم تفق إسرائيل إلا بعد 48 ساعة). وفي تقييم آخر بعد ساعات، كرر زعيرا ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي دافيد إليعازر موقفهما القائل بأن «سوريا ومصر تخططان على الأرجح لعدوان محدود، أو حتى مجرد نشر قوات دفاعية».
في القلب
بمناسبة مرور 50 عاما على نصر أكتوبر/تشرين الأول قررت إسرائيل الإفراج عن مستندات ووثائق الحرب ونتائج التحقيقات التي أجريت بعدها. من المؤكد وفق ما قاله رفعت رشاد في “الوطن” إن هناك الكثير مما لم يعلن بعد، ومما لا يعرفه الرأي العام هنا وهناك، فإذا كانت هناك موانع قانونية لعدم نشر كل أسرار الحرب فيمكن تركيز الضوء على المذكرات المنشورة على مدى الخمسين عاما، لمن عايشوا ظروف الحرب أو اقتربوا منها بصورة أو أخرى، كأن يكونوا قد سمعوا تفاصيل وقائع معينة من رؤسائهم الذين كانوا في كواليس الحكم وقتها، مثل السفراء وكبار رجال الدولة، فلا شك أن هؤلاء سمعوا أو عرفوا الكثير من أسرار الحرب.قد يكون في تفاصيل الأحداث ما يفسر موضوعات أثارت جدلا لسنوات مثل موضوع الثغرة والخلاف بين السادات وسعد الشاذلي رئيس أركان الجيش وقت الحرب، أو لماذا لم يطور المصريون هجومهم، وكانت الفرصة سانحة ليس فقط لاسترداد سيناء كاملة، بل دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة من إسرائيل، وغير ذلك من كواليس الحرب التي لم تعلن هنا وهناك. تبقى المذكرات الشخصية لقادة أو مسؤولين واكبوا زمن الحرب شهادات مهمة تكشف عن تفاصيل الحياة اليومية للحرب ومشاعر الرجال وردات فعل القادة عند حدوث أمور غير متوقعة. من حق الأجيال الجديدة أن تعرف حجم النصر الذي حققه الجيش، الذي كان وراءه جهد مذهل بذله كل جندي وضابط وقائد، بذله في حرب الاستنزاف والاستعداد للحرب الرئيس جمال عبد الناصر وقادة الجيش والمجتمع كله، بذله كل مواطن تحمل وسدد ضريبة الحرب والدفاع عن الأرض واسترداد ما اغتصبه العدو. بذله كل متقدم فكرة لتذليل العبور إلى الضفة الشرقية للقناة وكل من قام بجهد في التغطية والتعمية على ما يدور من استعدادات للحرب. كل واحد ممن عاشوا تلك الفترة يمكنه أن يروي مذكراته، ولو من خلال الحكي لما عاصره وعايشه حتى لا يذهب هذا التاريخ هباء.
صناعة الخوف
أسوأ ما كان من آل «بونجو» الذين اهتم بما جرى في بلدهم الدكتور مصطفى حجازي في “المصري اليوم”، هو حصار الأهلية وتأثيم الإبداع.. هو ملاحقة معنى ملكية الوطن في النفوس لصالح زرع الخوف والجزع.. هو نزع الثقة من وجدان الشعب وتجريم الشعور بالتحقق والقدرة على خدمة الوطن من موقع الخبرة لصالح التزلف والتصنع والادعاء والزيف. أسوأ ما كان من آل بونجو هو العصف بأهل الخبرة لصالح أهل الثقة، بل العصف بأهل الثقة لصالح أهل الحظوة… أسوأ ما كان وما ظل منهم أنهم أنهكوا كل «رواحل» الوطن.. فكانوا «كالمُنبَت لا ظهرا أبقوا ولا أرضا قطعوا» كما جاء في الأثر.. فصارت دولة هي من أغنى دول القارة وأقل شعوبها عددا، يكاد أبناؤها يتكففون الناس.. تعصف بهم البطالة حتى رضوا بالدنية في كل شىء من أجل القوت والمأوى. إن كان البحث عن المؤهلين وتمكينهم، أمرا معضلا في كل زمان ومكان، حتى جاء في حديث الرسول الكريم (ص) «الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة».. فإن التحدي الحقيقي في الغابون عند وبعد زوال ما يحول دون بداية المسير نحو المستقبل، احتلالا كان أو استبدادا أو جهالة أو ضحالة فكر.. هو أولا إعادة تموضع كل مؤسسة تغولت على حق الأمة في إدارة شأن نفسها بدعوى جهل الأمة أو سذاجتها، أو قلة خبرتها، أو قلة حيلتها.. أو بترهات قصور الأمة عن الوعي باستحقاقات أمنها القومي…هو التنادى بين أبناء الأمة لإعادة الوعي بذاتها، والتئام جسدها وعقلها من المؤهلين من أبنائها.. وأن يوكل الأمر لأهله ما استطاعوا، دونما توهم أن الخطأ غير قابل للحدوث، ولكنه خطأ المجتهد الذي يرنو للصواب، ولا يمارى في غير الحق مراء المدعين. هو التنادي بين أبناء الأمة لإعادة بناء ما تهدم منها أو إنشائها من عدم.. وهذا ليس بمستغرب.. فما رواندا تلك الدويلة الافريقية التي مزقتها الحرب الأهلية منا ببعيد.
نشبههم تقريبا
لمن ما زال يسأل استفهاما أو استدراكا أو استنكارا: وما هي الأمة، التي صدعتم رؤوسنا بها، والتى ستحيى تلك الشعوب من رماد الذل والفقر والمهانة والتراجع؟ يجيب الدكتور مصطفى حجازي: الأمة ثقافة ووجدان.. تاريخ وعُرف.. حضارة وعلوم.. إبداع وفنون وآداب.. سياسة واقتصاد.. قدرة وسلطة.. كل ذلك مجسدٌ في «أصحاب الأهلية» من أبناء هذه الأمة، اختارتهم يد المقادير ليكونوا عنوانا لكل ملمح من ملامح الأمة، ووجها يحمل ذلك الملمح.. كلٌّ في مجاله. الأمة هي العقد الناظم الذي تلتئم فيه حبات قواها الحية.. من نخبة فكر، إلى نخبة علم، إلى نخبة مال، إلى نخبة فن، إلى نخبة قوة، إلى نخبة سلطة.. كل تلك الحلقات من النخب متصلة غير منفصلة تكون عصب الأمة وعضدها.. قوة الأمة مرتهنة بحال أضعف حلقاتها، ووجود الأمة مرتهن بوجود كل تلك الحلقات وباتصالها. إن غابت حلقة أو غُيّبت، غاب معها للأمة ضلع قدرة.. وإن جار ميزان العدل بين الحلقات، فقويت حلقة ووهن غيرها، وهنت الأمة كلها مهما قويت حلقة منها. والدولة العاقلة نتاج الأمة المؤهلة هي كنف الأمن ومظلة العدل والرعاية. بعد آل «بونجو» حُقَ للأمة في الغابون ألا تتعثر أو تفقد ثقتها في نفسها.. فليس لها إلا عضدها وعقلها.. ليس لها أن تنتظر رسلا أو خوارق.. عليها أن تؤسس كل منحى في حياتها من جديد.. أن تنشئ لسياستها واقتصادها وتعليمها وإعلامها تأسيسيات تعرف لكل مجال سبب وجوده وكُنهه.. أن تسأل نفسها: لماذا تسوس.. ولماذا تدير اقتصادا.. لماذا تعلم.. ولماذا تثقف.. ولماذا توجد بالأساس؟ تلك هي التحديات الحقيقية بعد آل «بونجو»، قبل وبعد الانتصار من آثام الماضي، لأنه انتصار للمستقبل.
حضرة الأثرياء
شنت سحر جعارة في “الوطن”، هجوما شديدا على شريحة من الأثرياء لأسباب معقولة، حضرة المواطن “المبهور” بشواطئ أوروبا وطرقها ومزاراتها السياحية، والذي يدفع نصف عمره إن كان فقيرا، أو آلاف اليوروهات إن كان غنيا ليلتقط صورة بجوار أبراجها أو داخل متاحفها.. المواطن «المفتون» بناطحات السحاب في دول شقيقة والذي يشقى بضع سنوات من عمره ليتسوق في متجر عالمي، ويتحمل «حرارة الصحراء» فقط ليعيش طقوسهم.. لماذا تبخس إنجازات بلدك حقها وتعتبرها عبئا على الاقتصاد؟ لماذا تتغرب بحثا عن شاطئ يشبه «العلمين» وهو ملكك في مصر، وتتباهى بالقطارات الكهربائية داخل الاتحاد الأوروبي، وتعتبر أن نمط الحياة العصرية يستحق أن تتغرب للدراسة أو السياحة أو الاستثمار وتنسى أنك «مصري»؟ «إوعى يكون حلمك لقمة».. هذه الجملة للرئيس عبدالفتاح السيسي، في مؤتمر «حكاية وطن.. الرؤية والإنجاز»، استدعت مشاهد متتالية في ذاكرتي من مختلف البلدان التي زرتها: «البائعة الصينية في بكين، التي تركت أكلها لتلبي طلبي، لتُعلي قيمة العمل. الشاب الجزائري الذي يعمل في مطعم في شارع الشانزلزيه في باريس، الميناء القديم في مارسيليا في فرنسا الذي ضاق بالسفن وتحول إلى مزار سياحي.. في كل هذه المشاهد كنت أرى «الإنسان» هو مَن يعمل ليجدد ويغير ملامح واقعه وموطنه، ويكتب تاريخا جديدا بيديه. بعض الخبثاء من المتربصين بمصر يسألون ما قيمة التنمية في «الصحراء»، وما جدوى «العاصمة الإدارية الجديدة» أو مشروع «هضبة الجلالة»، الذي أنشئ ليكون عاصمة لمدينة «العين السخنة» وتجمعا سياحيا وترفيهيا على أعلى المستويات العالمية، بالإضافة إلى تخطيط مدينة جبل الجلالة على مساحة 19 ألف فدان.
حلمك لقمة
الإجابة على سؤال: جدوى العاصمة الإدارية، الذي يتردد على لسان الكثيرين وفق رأي سحر جعارة: أن البلد الذي لا يتوسع يختنق حتى يموت جوعا حين تضيق فرص العمل بأهله، وتضيع إرادة شعبه في «البناء والتنمية» حتى تنعم أيادي الرجال، ويلعنون البطالة على مقاهي العاصمة التي تلتهم سكانها.. وتذكروا جيدا كيف كانت المدن الصناعية «العاشر من رمضان و6 أكتوبر» متنفسا للشباب من الغربة والضياع، وفرصا استثمارية لم تتكرر.. وكيف كانت المدن السياحية شرم الشيخ، الغردقة، جاذبة للمستثمرين من كل أنحاء العالم، ولشباب الخريجين الذين استقروا فيها.. وعلى من لا يفهم قيمة «التنمية المستدامة» أن يبتلع لسانه ويخرس تماما. خلف هذه المشروعات العملاقة كان قرار القيادة السياسية، حرص الرئيس السيسي أن يتابع كل المشروعات بنفسه وكان يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، كنا ننام لنصحو على طريق تم إنشاؤه في لمح البصر، دون أخطاء «من مقاول الباطن» أو حفر ومطبات ليعود «المرتشون» مرة أخرى لإصلاح الطريق. «إوعى يكون حلمك لقمة»: لأن عبقرية هذا البلد وحضارته القديمة هي في فن البناء.. نحن البناءون العظام، نحن الجيل الذي تعلم أن يعمل ليشتري شقة جديدة بالتقسيط، يعمل ليعلم أولاده في مدارس وجامعات أجنبية، وكنا نسدد أقساط المنزل والسيارة والتعليم من لقمتنا. إوعى يكون أقصى طموحك أن تحصل على شقة في حي الأسمرات وتحظى بمعاش «تكافل وكرامة».. هذه المشروعات صممها الرئيس للمهمّشين تحت خط الفقر فلا توجد دولة عصرية تسمح بوجود «أسر على هامش الحياة». تذكرت الآن كلمات الرئيس عن «إعادة إحياء الشخصية المصرية»: إنها الشخصية التي تبني وتعمر وتضيف قيما جديدة للوطن والحياة.. الميزة العظمى في السيسي أنه يحلم من أجل مصر: الجيش القوي وتنويع مصادر السلاح، أنفاق قناة السويس الجديدة، البنية الأساسية الجاذبة للاستثمار، التخلص من لعنة المصريين «فيروس سي»، العلاقات الدولية المتوازنة.. إلى آخر إنجازات دولة 30 يونيو/حزيران. السيسي يحلم بدولة لا تنتظر «المعونة»، وتسدد ما عليها من ديون وأقساط، وتتحرر باقتصاد قوي ودولة عصرية.. فلا تجعل حلمك «لقمة».
اصمتوا
مدرج على جدول أعمال مجلس النواب خلال دورة الانعقاد الحالي مشروعان بتعديل قانونين، الأول يتعلق بالتصالح في مخالفات البناء، والغرض منه كما أوضح صبري الديب في “فيتو” معروف، تهدف الحكومة من خلاله لضخ عدة مليارات لخزينتها. والثاني وهو الأهم، يتعلق بتعديل شروط البناء التي أوقفت بموجبها الحكومة لحركة المعمار في مصر منذ ما يقرب من 7 سنوات، وحرمت بموجبها البلاد من مليارات الجنيهات، كانت تضخ في دورة رأس المال في السوق المصري، وألقت بموجبه بنحو 15 مليون عامل بأسرهم في طابور البطالة. السادة نواب الشعب.. كونوا على قدر المسؤولية الوطنية والاجتماعية، وبسطوا شروط البناء، وامنحوا قبلة الحياة للسوق المصري، وللملايين من عمال البناء والمحارة والنجارة والكهرباء وغيرهم، ممن تحولوا بفعل قانون أعمى إلى متسولين وسائقي تكاتك. خلال حديثكم في مؤتمر حكاية وطن هذا الأسبوع، قلت نصا: “إن الاقتصاد المصري مرشح أن يكون من أكبر اقتصاديات العالم في عام 2030″، ورغم أنك لم تذكر الكيفية أو الوسيلة الني ستحصل بها حكومتكم على الفانوس السحري الذي سيهبط على مصر بمثل هذا الرخاء، إلا أنني لن أشكك، أو أكذب، أو أرصد أرقاما، لأن صعوبة المرحلة لا تحتمل. فقط أرجوكم، توقفوا عن إطلاق التصريحات العريضة، احتراما لعقلية ومشاعر المواطن البسيط الذي بات لا يعنيه في عهد حكومتكم سوى الستر، ويتألم لمجرد ارتفاع بأسعار البصل والطماطم.
مايدعو للتريث
يرى محمد بركات في “الأخبار”، أننا لا نتعدى الواقع في شيء إذا ما قلنا، إنه لا مجال للمقارنة بين ما هو قائم حاليا على أرض الواقع المصري، في طول وعرض الخريطة الجيوغرافية للبلاد من أسوان جنوبا حتى الإسكندرية شمالا، ومن سيناء شرقا إلى السلوم غربا، وبين ما كان موجودا وقائما على هذه الأرض منذ تسع سنوات. هذه المقارنة غير واردة، بل هي بحكم الواقع مقارنة ظالمة، وغير عادلة في ظل المعطيات والحقائق الثابتة، على كل مكان من أرض الكنانة الآن، في ضوء ما تموج به البلاد من جهود مكثفة، وحركة متسارعة للبناء والتنمية على كل المستويات وعلى جميع المحاور في مجالات الإعمار والبناء والتطوير. وفي الحقيقة والواقع، فإن ما نراه قائما على الأرض الآن يؤكد ذلك ويرسخه، في ظل الحجم الكبير من الإنجاز المستمر للمشروعات القومية العملاقة، التي جرت وتجري في طول البلاد وعرضها خلال السنوات التسع الماضية منذ 2014 وحتى اليوم. وكل من يتابع ويعيش ما جرى ويجري على أرض الواقع، يشاهد ويرى أن هذه المشروعات الضخمة أصبحت منتشرة في الصعيد، الذي كان منسيا ومهمشا طوال سنواتٍ وسنوات، ولم يعد كذلك حاليا، بل أصبح في قلب وجوهر خطط التنمية الشاملة للدولة المصرية. هذه الخطط التي تشمل نشر التنمية والتحديث والتطور في كل مكان على أرض مصر، بامتداد الدلتا والصعيد وسيناء والبحر الأحمر والصحراء الغربية والساحل الشمالي وغيرها. وبالتأكيد تُصعب المقارنة بين ما كان قائما قبل تسع سنوات، من عجز في الطاقة الكهربائية خلال أعوام 2011 و2012 و2013 وحتى 2014، وما أصبح موجودا الآن من فائض في الطاقة. وما نقوله عن الكهرباء نقوله أيضا عن الغاز وعن المواد البترولية والمحروقات بصفة عامة، ونقوله عما تم من القضاء على العشوائيات وبناء مئات الآلاف من المساكن، وإقامة عشرات المدن الجديدة، وشبكات المياه والصرف الصحى، ونقوله كذلك عن التطور والتحديث الهائل الذي تم في الطرق والمواصلات والاتصالات، وإصلاح واستزراع الأراضي الجديدة التي وصلت إلى «4» أربعة ملايين فدان، وغيرها وغيرها من المشروعات القومية الضخمة التي انتشرت في كل مكان من أرض مصر.
الحكاية ستبقى
موت الروائي السوري خالد خليفة أصبح رغما عنا جميعا شأنا عاما وليس شأنا شخصيا، على الأقل بحكم المكانة التي صنعها لنفسه كروائي بارز. تابع سيد محمود متألما في “الشروق”: تصدّر خبر موته وكالات الأنباء العالمية وأصبح رئيسيا في أغلب صفحات الأدب في العالم، فقد رشحت أعماله لجوائز كثيرة، تمكن عبر 15 عاما من نقل وجوه المأساة السورية إلى العالم، وقبل انفجار الأزمة هناك كتب روايته الشهيرة “مديح الكراهية” 2006 وكانت نبوءة كاشفة عن هشاشة الحالة السورية. نكأ الراحل بشجاعة تصل إلى حد التهور، جراح السوريين، وكشف عن الهويات القاتلة والأثمان المدفوعة ليبقى الوضع على ما هو عليه الآن. وعلى الرغم من قرار منعها الذي استمر لعدة سنوات، إلا أن شهرتها بين السوريين جعلت منها وثيقة دامغة عن سيرة الدم في عصب الألم السوري، وإنجيلا من أناجيل التبشير بالثورة، التي لم تتأخر كثيرا وواصل بعدها التأريخ لهذا الألم في عملين آخرين نالا شهرة أكبر وهما: “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” و”لم يصل عليهم أحد” اللذين تناولا سيرة المدن المعاقبة التي حاولت الخروج عن طاعة (البعث). وذهب مباشرة في روايته “الموت عمل شاق” إلى مقاربة الوضع الراهن مجسدا برهافة بالغة (شعرية المأساة) وهي حية تمشي بين الناس، بعد أن أصبحوا عاجزين عن إحصاء أعداد موتاهم، أو كما كتب: (تحول الموت في سوريا إلى أكثر الأشياء توزيعا بالعدل بين الناس، فالكل يقتل والكل يحتفل بموته بالطقوس نفسها، فقد تغيرت طقوس تلقي خبر الموت، بعد أن صار الموت خبزا يوميا لا دهشة فيه). تشيع في رواياته رائحة الموت، لكنه آمن بأنها دائما روايات عن قوة الحياة وعن الحب. وهذه مفارقة أولى في مسيرته أذهلت من عرفوه، فهو الناطق الرسمي باسم الحياة، ومع ذلك جازف بالكتابة عن الموت، مؤكدا أن «الحكاية ستبقى، وأي محاولة لطمسها ستعيد إشعالها من جديد». مات خالد خليفة وتحقق له ما أراد، لم يكن نائما حين قامت الثورة ولم يسأل نفسه من أي مكان خرجت الجموع. صار بينهم وقال كلمته بشجاعة تأذى منها وبعد أن كسروا ذراعه استمر مع الناس محتميا بشهرته، ودافع عن حقه في البقاء معهم واستمر داعما لكل أصوات الأمل ولعلها الأصوات ذاتها التي رافقته إلى مثواه الأخير. صار بإمكانه الآن أن يلتقى مع أبطاله المولعين بالموت في الحياة الأخرى، التي وهبها لهم، فقد شاعت في مناماته الأخيرة قصص كثيرة عن مسامرة الموتى والحديث مع غائبين أولهم أمه التي يضع صورتها في مدخل بيته، وكلما عبر أمامها يلقي التحية. لم يشعر أبدا أنها ماتت، يقف في مطبخه بالساعات يجلي الصحون والطناجر ويحدثها عن الأكلات التي يرغب في إعدادها بمهارة تعلمها منها ويقول «أخشى دائما منها إذا خابت الوصفة». هل مات خالد لأن وصفته خابت، ولم يعد هناك من مجال للحب؟ ما أعرفه جيدا أنه مات وأن أعزاء يقدمون لي العزاء فيه، أغفو غفوات قصيرة وأنتبه إلى أنني فقدت صديقا ترك لي ما هو أكثر من الحزن، وميراثا من الذكريات وأدركت أخيرا أنه لا معنى لحياة تفقد فيها أقرب الأصدقاء.
لم يكن غريبا أن تتوحد سوريا كلها عند تشييعه ويسير المئات خلف جثمانه يودعونه بوصاياه التي بثها في كتبه فهو القائل “الموت هو اكتمال الذكريات وليس غيابا أبديا”.