ما يحدث في أمريكا عرض لمرض، وليس اختناقا عابرا، فنحن بصدد بلد امبراطوري، تشيخ مؤسساته الظاهرة للعيان، وتعجز باطراد عن التصحيح وصنع البدائل، وتجديد شباب السياسة الأمريكية، فقد يقال لك، وهو صحيح، إن عزل كيفين مكارثي رئيس مجلس النواب يحدث لأول مرة في التاريخ الأمريكي، وقد صارت عبارة «لأول مرة» عنوانا على الحوادث الأمريكية الأحدث، فقبل نحو ثلاثة أعوام، جرى اقتحام مبنى الكونغرس (الكابيتول) لأول مرة في 6 يناير 2021، وكان المقتحمون من أنصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي أصر ولا يزال، على أن انتخاب الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن كان مزورا، وقيل وقتها، إن الديمقراطية الأمريكية قادرة على حماية نفسها، وجرت محاكمات وصدرت أحكام بالسجن المغلظ، لم تنجح في وقف الأقوال بتزوير الانتخابات وسرقة الأصوات، بل صار ترامب، رغم عشرات الاتهامات والقضايا والمحاكم المورط فيها، الشخصية الأشهر والأكثر شعبية اليوم في الداخل الأمريكي، ويطمح لمواصلة حملته الانتخابية لكسب الرئاسة الأمريكية مجددا في نوفمبر 2024، ولو وصل إلى أعتابها سالما، فمن المرجح أنه سيفوز، بينما العجوز بايدن يريد رئاسة ثانية، قد ينهيها إن طال به العمر، وهو في سن يفوق الخامسة والثمانين، ولكي تكتمل به صورة بلد شاخ دوره، ورئيس موغل في الشيخوخة.
كانت أمريكا تفتخر بأنها بلد مؤسسات راسخة، واليوم تضعف المؤسسات، وتضطرب طرق عملها، وتترك وراءها فجوات، لا يملؤها سوى قبض الريح، وسوى شخصيات شاخت على كراسيها
واللافت أن حزب بايدن الديمقراطي، لم ينجح في تقديم بديل رئاسي أكثر شبابا، ربما مثله مثل الحزب الجمهوري المنافس، الذي لا يزال ترامب يسيطر معنويا على جمهوره ويلهب مشاعره، رغم تقدمه هو الآخر في السن، وإن كان وضعه الصحي أفضل بكثير من صحة غريمه بايدن، ولا يكاد ترامب يلقي بالا إلى منافسيه السبعة على نيل ترشيح الحزب الجمهوري، ويترفع على المشاركة في مناظراتهم، رغم أنهم جميعا أصغر منه سنا، ولا تطاردهم المحاكمات الفيدرالية مثله، فهو ـ أي ترامب ـ أكثر شعبية بمراحل في استطلاعات الرأي، ويتفوق على بايدن بوضوح، وهو ما قد يعني ببساطة، أن قسما غالبا من الشعب الأمريكي، يصدق سردية ترامب، الزاعمة بفساد النظام الأمريكي كله، وبأنه لا فرصة لعودة «أمريكا عظيمة مرة أخرى» إلا في صحبة ترامب الملياردير المقاول، الذي يستثمر إعلاميا حتى في محاكماته، ويكسب تعاطفا أكبر مع مظلوميته المدعاة، وتعرضه ـ كما يقول ـ لاضطهاد سياسي، يتخفى وراء أقنعة العدالة الأمريكية، التي تطال ـ أيضا ـ أسرة بايدن، ونجله هانتر بالذات، المنسوبة إليه تهم فساد وتربح بمليارات الدولارات، استغل فيها نفوذ والده، حين كان الأخير نائبا للرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي كان بلون بشرته الداكن، آخر محطة وعلامة على حيوية باقية في النظام السياسي الأمريكي.
ومع عزل كيفين مكارثي، الذي أعلن امتناعه عن العودة للمنافسة على رئاسة مجلس النواب، بدت أصابع ترامب ظاهرة، فالحزب الجمهوري لا يحظى سوى بأغلبية محدودة في مجلس النواب الحالي، وليس له سوى 221 عضوا في مجلس مكون من 435 عضوا، لم ينجح مكارثي في الحصول على 218 صوتا منها قبل تسعة شهور، إلا بعد 15 جولة تصويت، جاءته النجدة بعدها، مع صفقة عقدها مع أكثر صقور النواب الجمهوريين تشددا، وهم لا يزيدون على العشرة نواب، يتماهون مع ترامب في كل أقواله، واشترطوا على مكارثي وقت انتخابه، أن يكون بوسع الواحد منهم، أن يطلب عزله في أي وقت، وقد فعلوها ونجحوا، بعد اتهامه بممالأة الرئيس الديمقراطي بايدن، والتساهل مع مطالبه في رفع سقف الدين، وفي صرف مخصصات مالية عاجلة لمنع الإغلاق الحكومي لمدة 45 يوما، فيما اعتبره «الترامبيون» خطيئة عظمى، رغم أن مكارثي تجاوب نسبيا مع مطالبهم، وامتنع عن تقديم تشريع جديد، يفتح الباب لدعم حرب أوكرانيا، ولو بمبلغ 6 مليارات دولار، بعد إعلان «البنتاغون»، أن أموال دعم أوكرانيا كادت تنفد، وأنه لم يتبق منها سوى 5.4 مليار دولار، لا تكفي سوى شهرين، بينما ذهبت الخطة الأصلية لبايدن في دعم كييف إلى مصير مجهول، فالرئيس الأمريكي يطلب من مجلس النواب موافقة على تخصيص 24 مليار دولار لأوكرانيا في عام 2024، ولا يعلم أحد بالضبط، من هو الرئيس التالي لمجلس النواب؟ وهل يكون أكثر ليونة مع بايدن أم لا؟ خصوصا مع تشقق رهان بايدن، وانكشاف تعثر الجيش الأوكراني في تحقيق تقدم محسوس على الأرض، مع اشتداد وطأة الدفاع الروسي «المرن»، الذي ربما يتحول إلى هجوم معاكس على جبهة الشتاء الزاحف، وبما يزيد من ورطة العجوز بايدن، الذي يخسر رهانه في أوكرانيا، وتطارده أشباح الخسارة في واشنطن نفسها، مع اضطراب المؤسسات الذي يحاصره، ومع ضيق متزايد في أوساط الرأي العام الأمريكي، وغضب من إنفاق مئات مليارات الدولارات على أوكرانيا، ودونما أمل ظاهر في هزيمة روسيا أو إضعافها، بينما الداخل الأمريكي في أشد الاحتياج للمليارات الضائعة، التي كانت كفيلة بتحسين مستويات المعيشة، أو حتى لصد موجات الهجرة غير الشرعية القادمة عبر المكسيك، وكلها أجواء احتقان، تعزز شعبية ترامب، الذي تطالب جماعته بوقف دعم أوكرانيا، وعقد اتفاق سلام مع روسيا، وعلى أساس تسويات الأمر الحربي الواقع، بينما الهلع يجتاح أوروبا، الشريكة مع أمريكا في حملة حلف «الناتو» لتحفيز أوكرانيا، ودفعها إلى مواصلة الحرب حتى آخر أوكراني، ودونما أمل في ضمها قريبا إلى «الاتحاد الأوروبي»، فرغم توافد أغلب وزراء خارجية دول «الاتحاد الأوروبي» مؤخرا إلى كييف، وعقدهم اجتماعا تضامنيا حاشدا، فإن أقرب أجل وضع لأوكرانيا هو نهاية العقد الجاري في 2030، لا يفكر أحد قبلها في ضم حكومة الرئيس الأوكراني زيلينسكي الموصومة بالفساد إلى التجمع الأوروبي، وكل ما وعد به الجمع الأوروبي، أن يواصل تقديم ما أمكن من السلاح والدعم المالي، ربما تعويضا عن غياب موقوت للدعم الأمريكي السخي، وهو ما راح بايدن يطالب به قادة أوروبا المنهكين، الذين تطاردهم كوابيس ترامب الداهسة لأعصاب الحكومات الأوروبية، مع احتمالات مطالبتهم ـ كما يقول ـ بدفع كل سنت قدمه بايدن لأوكرانيا، وإلزام الأوروبيين بنفقات لا يطيقونها في حلف «الناتو»، فترامب يرى أن معركة أمريكا الحقيقية مع الصين لا مع روسيا، وبايدن يمزج المعركة مع روسيا بالحرب ضد الصين، والأخيرة هي القوة الزاحفة بثبات إلى عرش العالم في الاقتصاد والتكنولوجيا، وتبني عالمها الجديد من حولها وبعيدا عنها، عبر توسع «البريكس» و»منظمة شنغهاي» وبنك التنمية الجديد وشبكات «الحزام والطريق»، بينما أمريكا تؤدي رقصتها الأخيرة على مسرح الكون، وتتصرف بهياج عصبي، وبحلاوة روح تخشى السقوط من فوق العرش، بعد أن بدأت فرص استعادة عزها العالمي تتوارى، وتنهشها عوارض الشيخوخة في الدور الكوني، وفى إدارة النظام الداخلي، الذي تتواضع إمكانيات تصحيحه وتجديده، ويدخل في دوامات تناحر المؤسسات، وقد كانت أمريكا تفتخر دائما بأنها بلد مؤسسات راسخة، واليوم تضعف المؤسسات، وتضطرب طرق عملها، وتترك من ورائها فجوات، لا يملؤها سوى قبض الريح، وسوى شخصيات شاخت على كراسيها، مع صيحات خبل وجنون واستهجان عنصري، ربما تعبر عنها شخصية «ترامب» الأكثر شعبية في الخواء الأمريكي الراهن.
ما نقوله، لا يعنى أن أمريكا تسقط داخليا، أو أنها مهددة بفناء وشيك، بل ربما تحتاج أمريكا اليوم، إلى إعادة خلق وتكوين عسيرة، لا تبدو الطرق سالكة إليها، مع معاناة الوضع الأمريكي من ظواهر شيخوخة، تركد فيها حيوية الاقتصاد الإنتاجي ومقدرته التنافسية، ويتراجع فيها التفكير العقلي وحسن التدبير، وتحتاج إلى كرسي اعتراف ومصارحة، تبدأ أولا بالتسليم بما جرى ويجري لنفوذها الكوني، فحشد السلاح ونشر القواعد العسكرية، لا يكفي وحده لافتراض دوام الهيمنة العالمية، ولا بد من إعادة تكييف الدور في وضع عالمي مختلف زاحف، لا تعود فيه سيرة أمريكا كقطب واحد مسيطر على شؤون العالم، وأقصى ما قد يصح أن تتطلع إليه واشنطن، أن تكون قوة عظمى بين متعددين، لن تكون أعظمهم سلاحا ولا اقتصادا بالتأكيد، ولن يقدر لها أن تفوز في حروبها ضد روسيا، ولا ضد الصين من باب أولى، فقد شاخت القوة الأمريكية، وتجاوزتها حوادث العالم الجديد.
كاتب مصري