الملف الحقوقي سيلقي بظلاله على العلاقات الثنائية خاصة وأن النواب الأوروبيين الذين منعوا من زيارة تونس قالوا بصريح العبارة أنهم كانوا ينوون فهم الوضع السياسي الحالي بشكل أفضل وتقييمه.
تونس ـ «القدس العربي»: يلقي ملف الاعتقالات السياسية بثقله على الوضع العام في البلاد خاصة بعد الجدل الواسع الذي أثاره إصدار قاضي التحقيق في تونس مذكرة إيداع بالسجن في حق رئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي، والتي تعتبر من أبرز الوجوه المعارضة للرئيس قيس سعيّد. وبالموازاة فإن هناك47 قضية «يلاحق فيها صحافيون بسبب آرائهم» وفق ما أكد رئيس النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، محمد ياسين الجلاصي.
كما ان هناك دعوات عديدة تم إطلاقها من قبل بعض قادة جبهة الخلاص وفي مقدمتهم أحمد نجيب الشابي والذي دعا الى إطلاق سراح رئيسة حزب الدستوري الحر. وشدد المعارض السياسي التونسي على ضرورة احترام حقها في العمل السياسي السلمي بقطع النظر عن التحفظات إزاء مشروعها وأهدافها وخياراتها.
وفي خضم المعركة القضائية والحقوقية المتواصلة فإن العلاقات الخارجية بين تونس وبلدان الاتحاد الأوروبي لا تبدو بأفضل حال في الآونة الأخيرة وذلك بعد رفض تونس استقبال وفد برلماني أوروبي كان من المقرر أن يحلّ بتونس «لفهم الوضع السياسي الحالي بشكل أفضل وتقييمه» على حد تعبير الوفد، وذلك بعد توقيع الخضراء لاتفاقية مع وفد أوروبي لاتفاقية تتعلق بالهجرة. واعتبر النواب الممنوعون من زيارة تونس أن هذا الموقف غير مسبوق منذ الثورة الديمقراطية عام 2011 على حد تعبيرهم، ودعت بعض الكتل في البرلمان الأوروبي إلى التعليق الفوري لهذه الشراكة حول الهجرة وعبر البعض عن دهشته واعتبرا أن القرار مفاجئ وغير عادي.
المسألة الحقوقية
وترى الإعلامية التونسية منى بن قمرة في حديثها لـ«القدس العربي» أنه حتى في حال تم التوصل إلى تفاهم بين تونس والأوروبيين متعلق بتنفيذ ما جاء في اتفاقية التعاون والشراكة فإن الملف الحقوقي سيلقي بظلاله على العلاقات الثنائية خاصة وأن النواب الأوروبيين الذين منعوا من زيارة تونس قالوا بصريح العبارة أنهم كانوا ينوون زيارة تونس «لفهم الوضع السياسي الحالي بشكل أفضل وتقييمه». لقد كانوا ينوون، وحسب محدثتنا، لقاء أحزاب معارضة ومنظمات والاستماع إليهم لتقييم الأوضاع باعتبار أن الجانب الأوروبي كثيرا ما ربط الدعم للاقتصاد التونسي بمسألة الحقوق والحريات وذلك منذ أن كان الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في الحكم»
وتضيف بن قمرة قائلة: «هناك أسئلة عديدة تطرح اليوم بشأن التعاون التونسي الأوروبي وذلك بعد إيداع رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي بالسجن ليصبح كل معارضي الرئيس قيس سعيد تقريبا وراء القضبان. هل سيدعم الأوروبيون تونس بعد الذي حصل مؤخرا؟ وهل لدى الساسة الأوروبيين القدرة على تحمل ضغوط معارضي حكمهم والمنظمات الحقوقية الأوروبية التي قد تتحرك في المستقبل القريب بكثافة مع دخول تونس في هذا المنعرج الذي اكتمل فيه مشهد ملاحقة المعارضة مع هذه التتبعات التي طالت رئيسة الحزب الدستوري الحر؟» وفق قولها.
احتقان غير مسبوق
وتشهد العلاقات بين تونس وبلدان الاتحاد الأوروبي مؤخرا احتقانا غير مسبوق بعد ان كان هناك تعاون مستمر شمل جميع المجالات دون استثناء فرضه الانتماء إلى نفس الفضاء الجيوستراتيجي. بالمقابل عرفت العلاقات مع فرنسا، وهي إحدى أهم دول الاتحاد الأوروبي الكثير من المد والجزر في الماضي خصوصا في زمن حكم كل من الرئيسين الحبيب بورقيبة ووزين العابدين بن علي ولم تكن دائما في أفضل حالاتها.
وكان الرئيس قيس سعيد قد أعلن رفض العرض الذي قدمه الاتحاد الأوروبي لدعم ميزانية تونس لمقاومة الهجرة غير النظامية. كما اعتبر أن تونس ترفض ما تم الإعلان عنه في الأيام القليلة الماضية من قبل الاتحاد الأوروبي، لا لزُهد المبلغ، بل لأن هذا المقترح يتعارض مع مذكرة التفاهم التي تم توقيعها في تونس ومع الروح التي سادت أثناء مؤتمر روما في شهر حزيران/يوليو الماضي والذي كان بمبادرة تونسية إيطالية. واليوم هناك ضبابية حول قدرة تونس على الصمود وتحمل النتائج المترتبة عن أي خلاف مع الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي والتجاري الأول للبلاد في ظل تخلي صندوق النقد الدولي عن دعمه للاقتصاد التونسي من خلال التلكؤ من قبل مجلس إدارته في الموافقة النهائية على القرض الذي وافق خبراؤه مبدئيا على منحه لتونس. ويبدو ان رفض التعامل مع الأوروبيين من قبل رئيس الجمهورية التونسية رهين بما سيقوم به الاتحاد الأوروبي من خطوات مستقبلا في ظل مسك تونس بورقة على غاية كبيرة من الأهمية وهي ورقة الهجرة.
مسألة مبدئية
يرى البعض من أنصار رئيس الجمهورية قيس سعيد أن تونس تبذل قصارى جهدها لتفكيك شبكات المتاجرة بالبشر وخصوصا الأفارقة من سكان جنوب الصحراء ورغم ذلك لا تجد تقديرا كافيا لجهودها من قبل الجانب الأوروبي الذي يريدها شرطيا لحدوده الجنوبية من دون أن يقدم لها ما يفي بالغرض من الدعم المالي. كما يرى هؤلاء أن تونس لا ترتبط بحدود مباشرة مع بلدان أفريقيا جنوب الصحراء التي يتوافد مهاجروها على تونس من الجزائر وليبيا ورغم ذلك يقوم الجانب الأوروبي بتحميل المسؤولية عن تدفق المهاجرين للتونسيين دون سواهم.
ويعتبر هؤلاء أيضا أن أوروبا نفسها التي تنتقد اليوم تونس على تدفق المهاجرين الأفارقة، وخصوصا فرنسا، هي التي تسببت في موجات الهجرة غير المسبوقة من أفريقيا باتجاه أوروبا وذلك بسبب الحروب التي تشنها في أكثر من مكان في أرجاء القارة. كما أن استنزاف ثروات بلدان أفريقيا جنوب الصحراء من قبل بلدان أوروبا وخصوصا فرنسا ساهم في تدفق المهاجرين الأفارقة بسبب الفقر والفاقة، وبالتالي فإن هؤلاء يساندون ما ذهب إليه الرئيس التونسي الذي اعتبر أن الخضراء عانت بدورها من النظام العالمي الحالي شأنها في ذلك شأن عديد الدول ولا تريد أن تكون مجددا، لا هي ولا الدول التي تتدفق منها هذه الموجات من الهجرة، ضحية لنظام عالمي لا يسود فيه العدل ولا تحترم فيه الذات البشرية.
مصالح متبادلة
وترى الناشطة الحقوقية والسياسية آمنة الشابي في حديثها لـ«القدس العربي» أن تونس بحاجة ماسة اقتصاديا إلى الاتحاد الأوروبي بعد أن أغلق صندوق النقد الدولي جميع المنافذ بوجهها فيما يتعلق بالقرض، والاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تونس لإيجاد حل لملف الهجرة وأيضا في مجال الربط الكهربائي مع القارة الأفريقية لإنتاج الكهرباء بالطاقة الشمسية. وبالتالي، وحسب الشابي، فإن هذه الخلافات هي سحابة صيف عابرة وسرعان ما سيتم تجاوز الخلافات بين الجانبين ويتم تغليب لغة المصالح التي ستكون هي الطاغية خلال الفترة المقبلة خاصة وأن كلا الجانبين يدرك حاجته إلى الآخر حاجة الآخر له والأوراق مكشوفة.
وتضيف محدثتنا قائلة: «أتوقع أن يبادر الجانب الأوروبي إلى تقديم عرض جديد لتونس كخطوة أولى للبداية في تنفيذ الاتفاق الشامل بين الجانبين، وأتوقع أن يوافق الجانب التونسي على العرض الجديد حتى وإن لم يكن في مستوى الآمال والتطلعات وذلك لإنقاذ ماء الوجه. فالوضع الاقتصادي المتردي في تونس وحاجة البلد إلى الدعم المالي الأوروبي وإلى مساندة الأوروبيين في مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي، يعيقان الطرف التونسي على اللعب بطريقة دون جيدة بورقة الهجرة السرية.
ومهما يكن من أمر فان خسارة الجانب الأوروبي سيعزل تونس عن شركائها التقليديين خاصة ان علاقاتها قد ساءت في الآونة الأخيرة بالولايات المتحدة الأمريكية التي كانت على الدوام داعما اقتصاديا وعسكريا لتونس المجاورة لأسطولها السادس المرابط على الأراضي الإيطالية بالقرب من مضيق صقلية مفتاح السيطرة على حركة الملاحة بالبحر الأبيض المتوسط. ولا توجد بدائل لشركاء آخرين في حال خسارة الشركاء التقليديين، فجماعة البريكس لا يقدمون دعما ماليا للاقتصاديات المنهارة ولا يقبلون بأي كان في مجموعتهم وقد رفضوا انضمام الجزائر منذ فترة وجيزة، وبالتالي فان إيجاد تسوية مع الجار التقليدي الأوروبي هي المعادلة الأصعب اليوم لضمان الاستقرار المنشود في بلد يعيش طوال الأعوام الماضية على وقع انقسام سياسي حاد وتشنج اجتماعي وأزمة مستفحلة.