قصة ليست ككل القصص، أكثر من مجرد قصة، أي أجمل من مجرد سردية عابرة في الزمان والمكان. كلما أعدت قراءة «سيدة المقام» تذكرت الدكتور سهيل إدريس وزوجته النبيلة الدكتور عايدة مطرجي، رحمهما الله. لهذا ليس غريباً أن نقول إن الأدب أكثر من كيان لغوي محمل بالرموز والحيوات المختلفة لبشر افتراضيين عاشوا فينا ليصبحوا، عندما خرجوا منا، كائنات حية أكثر حضوراً منا. قد تغيب عنا أسماء الكتاب، لكن لا أحد من المتابعين للشأن الأدبي حباً وقراءة وتحليلاً، تغيب عنه أسماء تؤثث اليوم ذاكرته: شهرزاد وشهريار، زوربا، كارمن، كازيمودو، إزميرالدا، الأب غوريو، دون كيخوتي دي لامانشا، مادام بوفاري، آنا كارنين وغيرهم كثير، يحتلون المشهد الثقافي والحياتي افتراضياً وكأنهم كائنات حية بامتياز، تخترق الأمكنة والأزمنة. كثيراً ما يتحول هذا الأدب وهذه الشخصيات التي سكنت ذاكرتنا القرائية إلى مرايا عاكسة لما في الداخل. لهذا، كثيراً ما وجدنا فيها ما يسعدنا ويطفئ حرائقنا، ما ظهر منها وما خفي. لكن المسألة ليست دائماً بتلك البساطة. نسعد بالقراءة ونعجب بالشجاعة التي تتجلى من وراء النص، وننسى أحياناً أن وراء الكثير من النصوص العالمية التي نقرأها، حياة وُضِعت في الميزان، وأناس ضحوا بالغالي والنفيس وكانوا ضحية لآلة الحرق والتدمير. يتخفى من وراء إحساس عميق بالحرية والحق الذي لا يحول النص إلى مجرد شهادة، ولكن إلى حياة موازية تتضارب فيها كل حقائق الوجود البشرية من كرم وتضحية ونبل وخساسة وخيانة وضعف. هذه الحياة الغريبة كثيراً ما تكون محكومة بمجموعة من الصدف التي لا تخط فقط مساراتنا الحياتية ولكنها تتحكم أيضاً في الآتي الذي لا نعرفه.
أتذكر أنه في استراحة التوقيعات في دار الآداب، في معرض بيروت، جلست مع الدكتورة عايدة مطرجي رحمها الله، صاحبة الدار، في رفقة زوجها ومرافق مسار حياتها المرحوم الدكتور سهيل إدريس الذي بنت في رفقته دار النشر الكبيرة «دار الآداب»، ومجلة الآداب التي كانت مرجعاً ومنبراً ثقافياً لأجيال متعاقبة. يومها قصت عليّ شيئاً لم أكن أعرف تفاصيله ومغامرتها مع روايتي «سيدة المقام» التي كان يفترض أن تصدر في عز موجة الإرهاب في الجزائر. كانت «سيدة المقام» بالنسبة لي شهادة روائية حية عن زمن الدمار والحرائق، زمن لم يكن لنا ولم يكن يشبهنا في شيء.
كان يفترض أن تصدر الرواية في دار الآداب أول مرة في سنة 1993، ولدواعٍ أمنية تتعلق بالإرهاب ومآسيه في الجزائر وقتها، أجِّل نشرها إلى وقت لم يتم تحديده. قالت الدكتورة عائدة: تناقشت كثيراً مع الدكتور سهيل هل ننشر رواية أحببناها حقيقة وأسرتنا قصتها بموضوعها وحداثة طريقة كتابة والكم الفني فيها، في ظل مخاطر كانت ترتسم في الأفق الجزائري، ونفقد في النهاية الكاتب «واسيني» لأننا كنا على يقين أن نشرها سيؤدي حتماً إلى اغتيالك؟ أم نحافظ عليك من آلة جبارة كانت تأتي على الأخضر واليابس، في انتظار تحسن الوضع وعودة الوضح الجزائري إلى طبيعته، بتأخير إصدار الرواية؟ كان الحل الثاني هو الأكثر ملاءمة وحكمة والأنسب لنا في تلك الظروف، حباً فيك لأننا اكتشفنا فيك يومها روائياً قادماً بقوة نحو المشهد الروائي العربي|، وحرام خسارته نهائياً بسبب رواية جميلة يمكن تأجيل نشرها حفاظاً على حياتك واستمرارك في العطاء. كنا نعرف الناقد، إذ نشرنا لك الكثير من المقالات والشهادات في مجلة «الآداب»، لكن علاقتنا بالروائي كانت أثمن وأكبر.
وحتى نقنعك أكثر بجدوى ما كنا نريده، انتقلنا نحوك إلى الجزائر في عز الإرهاب للحديث معك، والمناسبة حل مشكل قاموس المنهل. بحثنا عنك في كل الأمكنة الثقافية التقليدية التي ترتادها عادة، اتحاد الكتاب، الجاحظية، الجامعة، وفي كل مرة يقال لنا إنك تعيش حياة سرية في الجزائر، ولا تظهر إلا قليلاً، وأنك نقلت بعص دروسك مع طلبة الماجستير في فندق الأوراسي ومستشفى مصطفى باشا تفادياً للاغتيال الإرهابي الذي كان يتربص بك وبالكثير من المثقفين المعروفين. ومع ذلك، ذهبنا حتى بيتك في الحي الشعبي المكتظ (باب الزوار). عندما صعدنا إلى الطابق الخامس والأخير بشق الأنفس أنا والدكتور سهيل، لأنّ المصاعد في الجزائر تبدأ من الطابق السادس، دققنا طويلاً على الباب الحديدي بلا جدوى. ناديناك باسمك وباسم الدكتورة زينب وباسم الأولاد باسم وريما، لكن بلا جدوى. سمعتنا جارتك في الطابق الرابع (ماما لويزة). أكدت لنا بعدما استراحت لنا من لغتنا بأننا أجانب، أنك غادرتَ منذ شهور. ونحن نهم بمغادرة الحي، صادفنا أناساً يصرخون: الكلاب، لقد قتلووووه. ارتعبنا. كدت أسقط أرضاً. تخيل؟ خفنا أن تكون أنت. سألنا، فقيل لنا إن المغتال شاب صحافي في التلفزيون (إسماعيل يفصح، رحمه الله). سعدنا في أعماقنا أن المغتال لم يكن أنت، وحزنا على الصحافي الذي عرفنا فيما بعد أنه كان من أهم الإعلاميين في التلفزيون الجزائري. رجعنا إلى اتحاد الكتاب، فكانت الصدفة جميلة، إذ التقينا هناك بإحدى طالباتك، (الإعلامية والشاعرة غ.س.ع) قالت لنا: أنا مكلفة بأخذ رسائله حيث يقيم برفقة عائلته الصغيرة. سأخبره عن مكان وجودكما. سألتنا عن اسم النزل، فقلنا لها: آليتي/ السفير.
وبعد أقل من يوم كُنتَ أنت هناك واقفاً وراءنا متنكراً بنظارات سود، ولحية خفيفة غيرت ملامح وجهك قليلاً، وعلى رأسك قبعة لاعبي البيسبول الأمريكيين. لا أحد يظنك الكاتب والجامعي واسيني الأعرج. التفت نحوك سهيل، نظر قليلاً إلى وجهك بدهشة قبل أن يضحك وهو يقول: لازم تغير صوتك، وعينيك وطولك؟ مفضوح هههه (تذكرت لحظتها كلمة الشهيد عبد القادر علولة التي قالها لي وهو يوقفني في شارع ديدوش مراد الرئيسي وأنا في نفس الهيئة المتنكرة: لازم تنقص شوي من رجليك حتى تمر. عملك لا يتطلب إلا ورقة وقلماً. ضعهما في جيبك وارحل، نحتاجك حياً. لو كنت أستطيع حمل مسرح وهران على ظهري ما ترددت في الخروج)، وها أنت اليوم حياً ترزق وفي قمة عطائك الإبداعي. ربحك الأدب والرواية. فجأة، رأيت لمعاناً جميلاً يرتسم في عيني الدكتورة عايدة على الرغم من ثقل السنين. قالت: «كلما رأيتك اليوم توقع كتباً، أو محاطاً بمعجبيك الكثر، وبمعجباتك هههه، تأكد لي أن موقفنا أنا والدكتور سهيل بتأخير نشر رواية «سيدة المقام» (التي نشرت في دار الجمل في ألمانيا وقتها، قبل أن تستعيدها دار الآداب وتنشرها في الدار، وفاء لذلك الزمن الصعب) كان قاسياً، لكنه كان صائباً. فقد ربحناك حياً، وربحك هذا العدد الجميل من رواياتك وقرائك».
اليوم، كلما قرأت رواية «طوق الياسمين»، أشعر بهزات داخلية عنيفة في داخلي، ربما كانت تلك رعشة الحياة التي استمرت شعلتها حتى اليوم ولا أملك إلا السير على هديها. شكراً لكما، دكتور سهيل ودكتورة عايدة، وشملكما الله بواسع رحمته. كنتما أكثر حكمة وتبصراً، وكنت أكثر شباباً وتهوراً، لأنني لم أكن أكثر من مجنون اللغة والكلمات، وسيدة المقام.