معظم الأمريكيين يريدون أن تتخطى البلاد الأجواء السياسية السامة، التي تهيمن عليها منذ أكثر من ست سنوات، في وقت يطمح فيه الرئيس السابق دونالد ترامب إلى العودة إلى حكم أمريكا. ونراه يتصرف وكأنه يواجه عالما يتآمر ضده. وفي حملته الانتخابية التي ترافقت مع جولات محاكمته، التي زادته زخما جماهيريا، بدا وكأنه يخاطب فقط أنصاره المتشددين الذين يحتاجهم للفوز بترشيح الحزب الجمهوري. يواجه ترامب تهما قضائية مختلفة، تتراوح بين التحريض على اجتياح مبنى الكابيتول في يناير 2021، لتغيير نتائج الانتخابات الرئاسية، ومحاولة تغيير نتائج انتخابات ولاية جورجيا، إضافة إلى حيازة وثائق رسمية سرية للغاية بشكل مخالف للقانون، وحتى تهما أخلاقية تتعلق باعتداء جنسي وتحرش.
واقع حال أمريكا يتلخص في مزاج اجتماعي وسياسي عام، يتميز بإحباط شعبي واسع بسبب الانقسامات العميقة في البلاد، ومع ذلك يرغب كل من بايدن وترامب في الترشح لولاية رئاسية ثانية. عزل رئيس مجلس النواب كيفن ماكارثي، يؤكد عمق الانقسام داخل المؤسسات السياسية الأمريكية، فالانقسام في المجتمع الأمريكي، منذ ظهور ترامب على الساحة السياسية، أصبح حقيقة واقعة، وطال جميع مناحي الحياة الأمريكية، سياسيا واقتصاديا وقانونيا وثقافيا واجتماعيا. وينعكس هذا الانقسام في صناديق الانتخابات، إذ يكاد يكون الكونغرس، بمجلسيه النواب والشيوخ منقسما بشكل كامل، حيث الأغلبية للديمقراطيين في الشيوخ بنسبة 51% تقريبا والأغلبية في مجلس النواب للجمهوريين بالنسبة نفسها تقريبا. ستكون ثالث انتخابات رئاسية على التوالي تشوبها التحقيقات والمحاكمات الجنائية والمدنية بحق مرشحين رئيسيين فيها، بعد انتخابات 2016 وما شهدته من تسريبات ضخمة للبريد الإلكتروني الخاص بالمرشحة الخاسرة هيلاري كلينتون، وانتخابات 2020 وما شهدته من اقتحام أنصار ترامب للكونغرس.
مع الرئيس جو بايدن، أصبحت الانقسامات العالمية أكثر وضوحا خاصة مع بداية حرب أوكرانيا، وهو لم يوقف تصعيد الحرب الباردة الجديدة، بل دفعها إلى الأمام
وسائل إعلام أمريكية أشارت إلى أن محاكمة ترامب تنعكس بشكل مباشر على الانتخابات الأمريكية 2024، على نحو يرصد كيف أن المحاكمة غير المسبوقة للرئيس السابق تلقي ظلالا كثيفة على الانتخابات الرئاسية، كون ترامب أوفر المرشحين الجمهوريين حظا من جهة، وكون مشاكله القضائية هي العنوان الأبرز في الحملة الانتخابية، التي بدأت قبل موعدها بأشهر طويلة، فرغم وجود قائمة طويلة من المنافسين لدونالد ترامب، كنائبه مايك بنس، وحاكم فلوريدا رون ديسانتيس، وغيرهما الكثير. لكن كل المؤشرات تؤكد أنّ مثول الرئيس السابق أمام المحكمة للمرة الثانية خلال أقل من شهرين ساهم بشكل لافت في رفع شعبيته، باختصار «دراما محاكمة ترامب تصبّ في صالح حملته الانتخابية»، لكن المؤكد أنّه حتى إن فاز ترامب في الانتخابات المقبلة، فإن الساحة السياسية لن تخلو من المشاحنات، وأكبر دليل على ذلك تعهده بملاحقة الرئيس الحالي جو بايدن وعائلته قضائيا، في حالة أُعيد انتخابه في الانتخابات الرئاسية القريبة، بعد وصفه بأنه «شخص فاسد».. «سأعين مدعيا خاصا لملاحقة أكثر الرؤساء فسادا في تاريخ الولايات المتحدة، جو بايدن وجميع أفراد عائلته الإجرامية. عندما أعيد انتخابي، سأقضي تماما على الدولة العميقة». ترامب حاقد بشكل واضح على ما يحدث معه من ملاحقات يعتبر أن بايدن يقف وراءها، ولا يتوقف عن وصف لائحة الاتهام الموجهة إليه بأنها «أبشع وأقسى إساءة لاستخدام السلطة في تاريخ الولايات المتحدة، وبمثابة تدخل في الانتخابات». دولة صارت عند مفترق طرق، تزايدت فيها حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي خلال السنوات الأخيرة. واقع مريب ومثير لكل السيناريوهات في حال انتصر أو هُزم ترامب مرة أخرى.
من الطبيعي أن يثير ذلك مخاوف الأمريكيين، إذ لا مؤشر على تراجع حدة التنازع على السلطة، البعض من أمثال بيرنارد غروفمان يؤكدون أن المشهد السياسي في أمريكا يخيم عليه استقطاب حاد، لم نشهد له مثيلا إلا في حقبة ما بعد الحرب الأهلية في التسعينيات من القرن التاسع عشر. إذ لم نر الكونغرس الأمريكي منقسما على نفسه إلى هذا الحد، منذ ما يربو على 100 عام. لعل كل ذلك التردي، هو انعكاس للمغالاة الخارجية، وما يعنيه طموح أمريكا الامبراطوري وأفعالها في العالم. فمنذ أواخر السبعينيّات، يعاني الأمريكيّون من العواقب السلبية للإمبراطوريّة: ثقافة سياسية مُعسكرَة، وعنصريّة وكارهة للأجانب، ميزانيّة دفاع متضخّمة، وحروب لا نهاية لها، دون عائد في المقابل، باستثناء العائد النفسي للعيش في المركز الإمبرياليّ. يبقى السؤال مفتوحا مثلما يرى دانييل بيسنر عما إذا كانت السياسة الخارجية الأمريكية يمكن أن تتحوّل على نحو يعكس تماما فهما لسيئات الإمبراطوريّة، ويدرك منافع نهج أقلّ عنفا للعالم. لكن، على صانعي السياسات أن يخططوا لمستقبل يتجاوز القرن الأمريكي، وأن يقرّوا بحقيقة أنّ المساعي المبذولة لإحياء أمجاد الماضي الشائن لن تبوء بالفشل فحسب، بل قد تؤدي إلى الحرب، في سلام بارد، لا تحاول أي قوة عظمى تقويض الاستقلال السياسي أو وحدة أراضي دولة أخرى. مع الرئيس جو بايدن، أصبحت الانقسامات العالمية أكثر وضوحا خاصة مع بداية حرب أوكرانيا، وهو لم يوقف تصعيد الحرب الباردة الجديدة، بل دفعها إلى الأمام. فهل محكوم علينا بأن نشهد عودة للتنافس بين القوى العظمى، حيث تتصارع الولايات المتحدة والصين على النفوذ والتسيُّد؟ أم أنّ انحسار القوة الأمريكية وعودة روسيا بقوة إلى الساحة العسكرية، سُينتج أشكالا جديدة من التعاون العالمي؟. يمكن أن يتطور صراع الحرب الباردة إلى حل وسط، وانفراج سلمي بارد كما يصفه مايكل دويل، إذا أمكن تنفيذ اتفاق عدم الانقلاب، أي عدم محاولة أي من المتنافسين الاستراتيجيين من الدول العظمى مهاجمة الاستقلال السياسي أو وحدة أراضي الطرف الآخر. شرق أوسطي، ما من شكّ في أنّ أمريكا شجعت إسرائيل كي تتصرف بناء على منطق لا يعرف الشفقة. ولن تتردد في استغلال أي فرصة لتوسيع حدودها حتى تحول دون إمكانية قيام دولة فلسطينية. التوسع مستمر على الأراضي الفلسطينية التاريخية، ولا يوجد في واشنطن من يجرؤ على عمل شيء لوقفه. إن الامتناع عن عمل شيء لوقف أعمال السطو والقتل، التي تقوم بها عصابات المستوطنين ضد الفلسطينيين العُزل في قرى الضفة الغربية يرقى إلى الموافقة عليها. ما بالك بما تقوم به إسرائيل اليوم من محاولة لتصفية فلسطين عبر مجازرها وقصفها المتواصل على قطاع غزة. إذا كانت واشنطن هي المنفذ للقانون الدولي في عالم تصر أن يكون قائما على قواعد كما تراه، فدعونا نرى واشنطن كما يقول دافيد هيرست، تفرض على إسرائيل دفع ثمن استمرارها في سياساتها الاستيطانية، والتي تضرب عرض الحائط بكل قرارات مجلس الأمن الدولي، وتسخر من سياسة الولايات المتحدة ذاتها المتعلقة بحل الصراع الفلسطيني. طبعا أمريكا تعتبر إسرائيل كيانها المهم في المنطقة، وهي تدعمه بشكل مطلق لا تغيير فيه بقطع النظر عن تداول الحزبين الحكم في البيت الأبيض. مرة أخرى يفشل العالم في التمييز بين الجلاد والضحية، ويستمر آخر استعمار استيطاني معربد بحماية أمريكية.
كاتب تونسي