وثانياً… غزة!

للراحل الكبير مريد البرغوثي، مقولة تلخص الكثير في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، المقولة البليغة تقف على استراتيجية جوهرية لدى القوى المغتصبة في العالم التي تفضل أن تبدأ القصة من ثانياً. يكفي أن تبدأ حكايتك بثانياً حتى ينقلب العالم! ابدأ حكايتك من «ثانياً» تصبح سهام الهنود الحمر هي المجرمة الأصلية، وبنادق البيض هي الضحية الكاملة. هكذا قالها البرغوثي، وهكذا نراها في جميع فصول الصراع.
«أولاً» في حالتنا تتمثل في الاحتلال الإسرائيلي الذي دعمته القوى الغربية ليكون وكيلاً استعمارياً يحقق لها التخلص نهائياً من المسألة اليهودية، ويؤدي إلى النتيجة نفسها التي أرادتها النازية بصورة ناعمة وذات شكل إنساني، ومن غير هذه الـ»أولا» لبقيت غزة مدينة متوسطية هادئة يسكنها ما يزيد قليلاً عن نصف مليون نسمة، ويعمل أهلها في ميناء المدينة والصيد والزراعة.
غزة اليوم، من أكثر مناطق العالم ازدحاماً، لو كانت غزة دولة مستقلة، لكانت الأكثف سكانياً في العالم. سبعون في المئة من السكان من اللاجئين الذين هجرتهم العصابات الصهيونية من أراضيهم وقراهم. الثقافة الغزية ساحلية، ليست بالعنيفة في جوهرها، مضيافة ولطيفة، أما اللاجئون في القطاع، فيمكنهم أن يستحضروا في ذاكرتهم الجينية البطون المبقورة في دير ياسين وكفر قاسم، عندما قتلت العصابات الصهيونية الأطفال الذين لم يخرجوا إلى الحياة من الأساس، وهذه صور حقيقية، تعززت المرة بعد الأخرى وهم يشيعون أطفالاً رضعاً تحولت أقمطتهم إلى أكفان إلى مثواهم الأخير، أما الـ»ثانياً» فهي الصور التي لم تظهر ولم توجد، لادعاءات بنيامين نتنياهو بقطع رؤوس الأطفال في عملية «طوفان الأقصى» ليتبناها الرئيس الأمريكي في وجبة انحيازه المفتوح في فضيحة، اضطر البيت الأبيض إلى نفيها قبل أن تتدحرج بصورة أوسع.

الفلسطينيون المقاومون، المحملون بالميراث الصعب والباهظ للجرائم الصهيونية، لا يمكن فصلهم عن حماس أو فتح أو الجبهة الشعبية أو الديمقراطية، فالمسألة هي المقاومة

كم أولاً أسقطتها (إسرائيل) في حكايتها؟ لكن لنذهب إلى أولاً الخفية في حكاية طوفان الأقصى، حيث يعلم الصغير قبل الكبير، أن ضربة شرسة كانت ستوجه لقطاع غزة خلال أسابيع، فالأزمة الإسرائيلية الممتدة تبحث عن مخرج يرحل المشكلات، ويصفر العداد لبضعة أشهر لنتنياهو المتشبث بالسلطة، هذه الفكرة أكدها صالح العاروري القيادي في حركة حماس، وتحدث أيضاً عن النجاح الذي تجاوز ما توقعته حماس، وخرج بالعملية عن أهدافها الاستراتيجية كفعل وقائي تجاه الضربة، يستعرض قوة الحركة ويمكنها من أخذ أسرى يحرج (إسرائيل) ويفشل خططها ويفتح الباب لتحرير مئات أو آلاف الأسرى. الفشل الإسرائيلي كان واضحاً، ولتجاهل تشخيصه عملت (إسرائيل) على تغييبه، مداراته ومواراته، وقررت أن تدفنه مع آلاف الشهود من أهل غزة تحت القصف الوحشي المتواصل المترافق مع عملية قطع للغذاء والمياه والوقود، لتعود من جديد إلى «أولاً» مقبلة من بطن التاريخ، ومن النصوص التوراتية، يستدعي نتنياهو من يشاركونه في الفشل في ابتزاز عاطفي لمن رأوه وهو يصنع الفشل ويهندسه ويركبه لسنوات، وتنطلق حكومة الحرب بهدف مرتفع النبرة وهو القضاء على حركة حماس بمعنى القضاء عملياً على الوجود الفلسطيني في القطاع. الفلسطينيون المقاومون، المحملون بالميراث الصعب والباهظ للجرائم الصهيونية، لا يمكن فصلهم عن حماس أو فتح أو الجبهة الشعبية أو الديمقراطية، فالمسألة هي المقاومة، أما هوية المقاوم فهو موضوع هامشي وثانوي، ولذلك، فحماس لا يمكن أن توضع بأية حال إلى جانب الحركات الإسلامية الأخرى، خاصة «داعش» التي يحاول الإسرائيليون سحبها إلى المشهد في تشبيه يكسبون من خلاله التعاطف ويثيرون الخوف، فالحركة واجهت وبقسوة الحركات السلفية المتطرفة، والقوانين التي تطبقها في غزة منفتحة قياساً بأي تجربة حكم إسلامية، فالحجاب ليس إلزامياً، والقانون الواضح هو المطبق فعلياً وليس الأحكام الشرعية واسعة التأويل. حماس لم تختطف غزة، الفلسطينيون صوتوا في الضفة الغربية وغزة معاً ضد مشروع أوسلو وسلطته وممارساتها، وأفشلت إسرائيل مشروعاً إدارياً ممكناً كان يمكن أن يدفع سياسياً تجاه مطالبات منضبطة قائمة على نجاح التسيير بما يتجاوز حدود نظرية الحكم الذاتي، فالفلسطينيون بشكل عام، ليسوا مع فتح أو حماس أو اليسار أو الليبراليين، الأمر ببساطة أنهم يطالبون بحقوق واضحة، ومسألة الميول السياسية هي تفصيلة ضمن أطر مبدئية أعمق، ومجرد ملابس يمكن تغييرها واستبدالها للاصطفاف مع الجهة التي تقدم مشروعاً أو شبه مشروع ما تجاه هذه الحقوق.
لا تتوقف الجريمة الجارية عند المعاقبة الجماعية للفلسطينيين أو تهجيرهم، فهذه طقوس تكاد تصبح مستقرة مع الوقت، و»ثانياً» معتادة وسخيفة، لكنها تتوسع هذه المرة من أجل ترويض الفلسطينيين، أو من يتبقى منهم وتحويلهم إلى قوة عمل ساكنة ورخيصة بسياسة ممنهجة للإذلال والتركيع، ربما نجحت سابقاً في الغيتو المحدود الجدران، لكن الفلسطينيين أبناء الشمس والمطلون على البحر والصحراء المفتوحة، لا يمكن أن يذهبوا إلى الاستكانة المنهجية نفسها، لأنها مرتبطة بعوامل كثيرة بعضها تاريخي أو طبيعي بحكم معادلة الإنسان في المكان موقعاً ومن الزمان مكانةً.
يستدعي الأمريكيون وصف «اليهود» ليسحبوا إلى الواجهة المحرقة التي جاءت من الذاكرة الأوروبية، متناسين أن الصهيونية كانت حركة مناهضة لليهودية قبل أن تكون موجهة لغير اليهود، فهي عملت وتواطأت مع الإمبريالية العالمية من أجل دفع سكان الغيتو إلى فلسطين، بالقرب من قناة السويس وبين مشرق المنطقة العربية ومغربها، ولنضع مئة خط تحت هذه الأحداثيات، وتناست أن الحل الإنساني الحقيقي كان يتمثل في منحهم حقوقاً مدنية حقيقية في فرانكفورت ووارسو وكييف وغيرها من المدن التي كانوا شركاء في بنائها وتاريخها وذاكرتها. كم أولاً ضاعت في الأيام الماضية من أجل أن تتحصل إسرائيل على ثانياً التي تناسبها. جريمة تشوه الثقافة الإنسانية وتضرب الضمير العالمي ويدفع ثمنها الفلسطينيون من جديد.

كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية