حين جاءت العلوم الدلالية العرفانية حرمت الشعر والشعراء كثيرا من خصوصياتهم التي اعتقد الناس أنها مقصورة عليهم. فلم تعد الاستعارة من المحسنات التي يتميز بها الشعر من الكلام، بل قال الباحثون إن أذهاننا بطبيعتها استعارية؛ بمعنى أننا نفكر بالاستعارة ولا فرق بين شاعر ينظم القوافي وعامي يشتري الخبز بالعذاب. فكل الناس سواسية أمام الاستعارة فلا أحد يمنع العامي البسيط من أن يتحدث عن غلاء الأسعار، باستعمال صورة النار فيقول ومن غير أن يحتاج لسان شاعر: (استر يا ستار فقد اشتعلت النار) وهو يرى كم بات سعر اللحم أو السكر أو البيض خياليا.
يعتقد العرفانيون، أن أذهاننا ما كانت استعارية إلا لأن الإنسان مزود فطريا بقدرة على التصور والخيال؛ فهو قادر على أن يتمثل ما يريد ويرسم في ذهنه ما يشتهي، ثم حين يتكلم هو يمثل الصور برموز صوتية، ومن الممكن أن يمثلها الرسام برموز الرسم ويمثلها مستعمل الإشارة بالإشارة، لذلك كانت العلاقة بين ما يقصد قوله، والقول نفسه علاقة رمزية أي أن الأقوال لا ترتبط ارتباط مشابهة بالأفكار والنوايا، إلا نادرا في بعض الأقوال؛ ولكن العلاقة تكون في البقية اعتباطية، لذلك كانت اللغات متعددة وكان لكل إنسان طريقة في بناء تمثيلاته الذهنية، بالشكل الذي يتصور أنه الأكثر وفاء لما يتمثله؛ بل إن المستمع لا يمكن أن يفهم ما يقال له، إن هو لم يستعمل هذه الملكة التي تسمى التصويرية Imagery. الحكايات التي يرويها بعضنا لبعض في محطات القطار المتأخر، أو في عرباته المكتظة لا تفهم من غير لجوء إلى هذه الملكة، التي تفكك الكلام إلى تمثيلات تحاول أن تقارب ما وقع فعلا. جمل مألوفة من نوع (نمت البارحة باكرا، تصور أني لم أتعش، أوصيتهم ألا يوقظوني) لا يمكن أن تفهم من غير إعادة بناء المشاهد اعتمادا على المألوف الثقافي، فليس من الضروري أن تتخيل من يحدثك، أنه وهو ينام يلبس ثياب النوم مثلما يفعل الممثلون، حين يجسدون هذا الموقف في السينما؛ وليس ضروريا أن تعرف ما كان العشاء الذي لم يأكله؛ وليس ضروريا أن تعرف أنه نام نوما عميقا، أو أنه حلم وهو نائم بطبق من الأكل الشهي، أو بأنه رأى في المنام ليلتها أنه من ملوك بابل، لكن من الضروري حتى تفهم الحكاية وتفاصيلها أن تضع صورة صديقك لا غيره في المشهد، وتتصوره نائما كما ينام الناس؛ ومن الممكن أن تتخيل أشياء أخرى من نوع أن المستيقظين كانوا يتحدثون بهمس، أو أن أحدهم قال لمَ لا نوقظه ليتناول العشاء معنا؟ وغير ذلك من المعطيات التي تجعلك تفهم هذه الحكاية البسيطة.
لكن الإشكال في المسألة أنك وأنت تستحضر هذه الصور التي أثارتها الحكاية لا أحد يستطيع أن يعلم ما الذي تصورته بينك وبين نفسك، فقد صنعت بملكتك التصويرية مشاهد سرية لا يمكن لأعتى العلوم اليوم أن تعرف تفاصيلها. ما يحدث في الذهن هو يشبه إلى حد ما الغرفة السوداء، التي كانت تستعمل قديما في «تحميض» الصور الشمسية واستخراجها؛ لكن هذه الغرفة المظلمة التي في ذهنك، وأنت تتخيل صديقك النائم باكرا لا يمكن أن تفصح عن صور بينة لأي أحد إلا لك أنت. هناك أشياء أساسية في تخيل هذه القصص اليومية، أبرزها أنك تتخيلها بناء على المألوف، ويركّب المألوف بأشكال مختلفة؛ فعلى سبيل المثال يمكن لمستمع أن يتصور هذا المبكر في النوم نائما بمفرده في غرفة مظلمة، ويمكن أن يركز أحدهم على شعوره بالجوع في منتصف الليل واستيقاظه للبحث عن أكل في الثلاجة.. وهكذا دواليك بالنسبة إلى العناصر الإضافية المتخيلة، والمهم أن التصور لا يحافظ على حرفية المشهد الذي بنته اللغة، لأنه لا توجد حدود واضحة يرسمها الكلام للتصوير الذهني.
للنحو نصيب من التصور ومن الانفعال الذي يحدثه فينا، حين يحدثك شخص أنه يكره شخصا آخر غيرك، فيعني أنه يحدثك عن مفعول به آخر لا يعنيك فلا خسارة ستصيبك متى كان موضوع الكره شخصا غيرك. لكن وقع الأثر وحدة التصور يحدثان، حين تكون أنت مفعول الكره، ويخرج الفاعل عن حياده لأنه سيدخل معك في مواجهة بالخطاب.
يقول العلماء المختصون في هذا المجال من أمثال عالم النفس العرفان بي. بارغن B.Bergen إننا في كثير من الأحيان «نفهم اللغة بأن نبني في أذهاننا شيئا شبيها للكيفية التي عليها يكون الأمر عند تجربة الأشياء التي تصفها اللغة». فأنا حين أسمعك تحدثني عن أن السماء أمطرت في بلادكم، أبني مشهدا للسماء الممطرة التي خزنت صورا عنها. ففي ذهني ألبوم من صور حية عن تجارب متعددة كنت قد خزنتها؛ وهي التي تجعلني أفهم من يحدثني عن نومه باكرا، وعن إمطار السماء في بلاده وأفهم أشياء أكثر تجريدا من ذلك الحب، ومن يحدثني عن الحرية.. لا توجد صورة طرازية عن حب شخص لي، ولكن توجد تنويعات عن صور الحب، لحب ولدي صور، ولحب زوجتي صور، ولحب أصدقائي صور هي التي تجعلني أتفاعل بأنواع مختلفة مع من قال لي إنه يحبني. هو يجعلني أرد بقبلة أو أرد بتورد الخد وأصمت أو أمتلئ بالغيظ لمن رماني بعبارة أكرهك من غير أي حساب.
للنحو نصيب من التصور ومن الانفعال الذي يحدثه فينا، حين يحدثك شخص أنه يكره شخصا آخر غيرك، فيعني أنه يحدثك عن مفعول به آخر لا يعنيك فلا خسارة ستصيبك متى كان موضوع الكره شخصا غيرك. لكن وقع الأثر وحدة التصور يحدثان، حين تكون أنت مفعول الكره، ويخرج الفاعل عن حياده لأنه سيدخل معك في مواجهة بالخطاب. الضمير المتكلم (أنتَ) ليس ضميرا محايدا كبقية الضمائر هو متلبس بك في حديث غيرك عنك وهو إن كان فاعلا (أتعبتني) أو مفعولا ( أتعبوكَ) فإنه لا يمكن أن يكون كغيره من الضمائر الغائبة أو المتكلمة التي لا تعنيك. في (أتعبتني بهذا الهجر الطويل) أنت تتصور نفسك في أشكال كثيرة، تتذكرها فتسعى إلى أن تفهم بها هذا الذي تسميه حبيبتك، بالهجر الطويل. لكنك وأنت تتصور هذا الهجر ستتصور معه الأسباب التي دعتك إليه، وستجد لنفسك العذر تلو العذر.. كلما تعلق الأمر بك في التصور والكلام، كنت متصورا منفعلا منحازا إلى ذاتك، أو منحازا ضدها ولن تجعلك اللغة ولا التصور في حياد من قال لك (أتعبني ذاك الرجل بالهجرِ الطويل) وهو يحكي عن تجربة قديمة عاشها مع شخص لا تعرفه. التصور لا يكون مغدقا إلا إذا كان حميميا: كلما وجدت ألفة نحوية وتصورية بينك وبين من يحكي وموضوع حكيه كنت أكثر إغداقا في التصوير، وأكثر تفصيلا وتكون الصور خطاطية غريبة إن كان الشخص الذي يحدثك غريبا بعيدا لا تعنيه مشاغلك.
بناء على ذلك فأنْ أحدث أنا المدرس طالبا عن وقوف عاشق على أطلال الحبيبة، فماذا تراه سيثير فيه من تصورات؟ ثم ماذا ستراه يحصل من أنه رأى بعَرَ الأرْآمْ (أي الظباء الوحشية) هنا، أو شيئا من رماد النار هناك؟ وماذا تراه سيفيده إن تصور أن الحبيبة في هيأتها كبقرة الوحش؟ ماذا سيكسبه تحصيله لهذه الصور؟ هل ستعنيه؟ هل ستعجبه؟ وماذا يعنيه أن الشاعر أبدع باستعمال صورة البقرة للمرأة، بل صورة الغزال لها؟ هل سيكون متحمسا لشيء من هذا وهو يرى مثالا له في الجمال آخر ويسمع في يومه استعارات للجمال أخرى؟
تصوراتنا ونحن نفهم الآداب المقبلة علينا من عصور أخرى تكلفنا الكثير من الجهد في فهمها وإفهامها، ولكن ماذا تراها تحفز في الجمهور؟ ماذا وراء وقوف شاعر على الأطلال من قيمة؟ أهو الوفاء؟ لكن ما الوفاء؟ أهو قيمة نحتاجها في علاقتنا العشقية اليوم وقد قننتها السنن المختلفة والقوانين بأشكال أخرى لا علاقة لها بذهاب الحبيبة وترك الرماد وراءها.
الجماليات التي نبحث عنها من خلال كثير من الشعر القديم في معاهدنا وفي جامعاتنا لم يعد مبحوثا عنها ولا البحث فيها مما ينفع ذائقة التلميذ.. لقد تغلبت تصورات واقعنا على تصورات خيالنا الشعري: بات الواقع فعلا أغرب من الخيال.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية