أضاف الكيان الصهيوني مجزرة جديدة إلى لائحة المجازر التي لم يتوقف عن ارتكابها بحق الفلسطينيين منذ عام 1937 في سوق حيفا، مروراً بمذابح دير ياسين والطنطورة وقبية وكفر قاسم، وصولاً إلى خان يونس وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا، وليس انتهاء بالمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي ومخيم جنين. وفي كل واقعة همجية دامية كان يستوي أن يكون القتلة أفراد عصابات شتيرن وأرغون والبالماخ، أو العناصر النظامية في جيش الاحتلال، أو غلاة المتطرفين والمستوطنين.
لكن المجزرة الأخيرة التي ارتكبها جيش الاحتلال ضد المستشفى الأهلي المعمداني وخلّفت أكثر من 500 شهيد مدني جلّهم من الأطفال والشيوخ والنساء، لا يصح الاكتفاء بإدراجها في لائحة المجازر المسجلة باسم الكيان الصهيوني، لأنها أولاً ذروة فاصلة في انفلات الهمجية الإسرائيلية من كل عقال ورادع، وهي ثانياً لا تدخل في تصنيف أحادي لأي من الفظائع النكراء التي ارتكبها الكيان الصهيوني، بل تسجّل التتويج الأشد عنفاً ودموية وبربرية لخمسة أنماط متكاملة من جرائم الحرب والجرائم بحق الإنسانية، ولأنها ثالثاً لا تُسجّل باسم المجرم الإسرائيلي وحده بل ترشق دماء مئات المدنيين الأبرياء على أكفّ حفنة من قادة ما يسمى بـ”العالم الحر” زاعمي الدفاع عن القانون الدولي وحقوق الإنسان.
النمط الأول هو استهداف منشأة مدنية لا تقتصر وظائفها على الخدمات الطبية والعلاجية، وبعضها حساس يوفّر الطوارئ لغسيل الكلى أو التوليد أو رعاية الرضّع، بل تشمل أيضاً إيواء العشرات من المهجرين والمشردين، وأرقام الشهداء بعد الضربة الوحشية تشير إلى أنهم كانوا بالمئات. هذا بافتراض أن المنشأة لا تتمتع بحصانة من طراز خاص، لأنها تتبع الكنيسة الأنغليكانية في بريطانيا، حيث مواقف الغالبية الساحقة من الساسة فيها متواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب الانتهاكات والفظائع.
النمط الثاني هو أن قصف المشافي والمستوصفات، وأعداد المستهدف منها بالقصف الإسرائيلي تتجاوز الـ50 حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، لا يقتصر على هدف تخريب المنشأة الطبية والحيلولة دون قيامها بواجبات الحد الأدنى في العلاج فحسب، بل أيضاً إجبار المصابين واللاجئين على مغادرة هذه المنشآت في سياق سيرورة تهجير قسري متكاملة اعتمدها جيش الاحتلال وسخّر لتنفيذها كلّ الطرائق أياً كانت مقادير العنف والتوحش اللازمة.
النمط الثالث يتمثل في أن التهجير القسري هو في الآن ذاته تطهير عرقي صريح، لأنه يطالب سكان القطاع عموماً، وليس مدينة غزة وحدها، بمغادرة بيوتهم وموطنهم وأملاكهم وأشغالهم، في إطار عمليات “ترانسفير” صريحة لم تعد تخجل حتى من اعتماد التسمية البغيضة. وأيّ الطرائق لتنفيذ هذه الجريمة يمكن أن تكون أكثر فاعلية من قصف مشفى يتولى أيضاً مهامّ الملجأ؟ وأي العناصر الدافعة إلى التهجير والتطهير يمكن أن تتفوق على إراقة دماء المئات؟
النمط الرابع هو أن عواقب الأنماط الثلاثة السالفة من الجريمة لن تكون في نهاية المطاف أقل من عقاب جماعي يطال أبناء القطاع من دون استثناء، ليس من زوايا التهجير والتطهير العرقي وأخذ الأطفال والشيوخ والنساء بجريرة إصرار المقاومة الفلسطينية على الصمود والبقاء والمواجهة فقط، بل كذلك لإشباع التعطش إلى الدماء والثأر واسترداد ما ضاع من أحاسيس التفوق والسطوة والبطش لدى شرائح عريضة في المجتمع الإسرائيلي.
النمط الخامس هو أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تعمدت إضافة الإهانة إلى جراح شهداء المشفى عن طريق تسويق رواية كاذبة تلقي بالمسؤولية على صواريخ المقاومة وتتنصل من الجريمة، تماماً كما فعلت بعد اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة. وإذا كانت جريمة الحرب الإسرائيلية هذه تستهدف الحقيقة بوصفها أولى ضحايا الحروب، فإنها أيضاً تستغفل العقول في طول العالم وعرضه، وتزوّد أنصار دولة الاحتلال في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي بمادة إضافية للانحياز الأعمى والتواطؤ على الجرائم.
وليس إلغاء القمة الأمريكية مع الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية سوى المؤشر الأبكر على أن ما بعد مجزرة مشفى المعمداني لن يكون شبيهاً بما قبلها، خاصة في الضمائر الحية وذاكرة الشعوب.