عندما يصل المشروع الغربي إلى نهاياته

منذ دخولنا العصر الذي تمت تسميته نقدياً بعصر «ما بعد الحداثة» اتفق المؤرخون وعلماء الاجتماع والفلاسفة وغيرهم من الباحثين، على أن المشروع الغربي قد وصل إلى أقصى نهايته. الاختلاف الوحيد بينهم هو في تعريف المقصود بـ»النهاية»، فمنهم من يقصد بها التمام والكمال، أي أن ذلك المشروع حقق كل تطلعاته ولم يعد لديه ما يقدمه، ولم يتبق سوى نشر ذلك النموذج في كل أنحاء الأرض كمثال وحيد للتقدم والحداثة والتطور البشري.
لكن آخرين يقصدون بالنهاية معنى آخر.. يقصدون بها الفشل في محاولة صنع عالم مثالي مليء بالفرص المتساوية والعدل الاجتماع، يرغم الجهود المضنية والقرون المتطاولة. حول وجهتي النظر المتعلقتين بكلمة «نهاية» نقول، إن كلا التفسيرين يدقان ناقوس الخطر، ويجب أن يؤخذا بجدية، فحتى وصول الكمال، إن كان ثمة كمال في هذه الدنيا، ليس شيئاً إيجابياً فليس بعد التمام إلا النقصان، وإنما تنهار الدول الأعظم بعد وصولها قمة مجدها، كما قرر ذلك مؤسس علم الاجتماع القديم ابن خلدون. هنا لن أتحدث عما كتبه العرب أو المسلمون، فشهادتهم مجروحة دائماً، ولن آخذ مثالاً كتابات كتاب «العالم الثالث»، أولئك الذين لم تقنعهم أبداً الشعارات البراقة التي ترفعها الدول، والذين علموا من واقع الأحوال ومن التجربة كم هي خاوية وجوفاء كأنها وضعت للتستر على مشاريع حفنة من المجرمين.
سأترك كل ذلك جانباً وسآخذ بالمقابل بعض الاسهامات الفكرية الغربية التي ترينا مدى اليأس والقنوط الذي أصاب أولئك المنظرين ومدى الصدمة التي تلقوها على كل الأصعدة.
خذ مثلاً الأطروحة الفلسفية المعنونة «نهاية الايديولوجيا» للأمريكي دانييل بيل، حيث يقرر الكاتب عجز كل الايديولوجيات البشرية القائمة، عن حل أبسط المشكلات البشرية بشكل يضمن مصلحة الجميع. لقد صدم هذا الكتاب الرأسماليين بقدر ما صدم الاشتراكيين وأصحاب المدرسة الاجتماعية، وهو يعلن أن الاشتراكية لن تكون البديل الأمثل للاقتصاد الرأسمالي. أما عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فقد أعلن عدة صيحات، من خلال كتبه ومقالاته، فنقد الانحلال الخلقي وضعف الضمير في كتابه «وقود الليبرالية الجديدة»، ثم أعلن حاجة العلوم الاجتماعية للتصحيح وإعادة النظر في كتابه «قضايا علم الاجتماع»، قبل أن ينجز سفره الضخم الشهير، الذي ترجم في وقت لاحق إلى العربية والمعنون «بؤس العالم». لقد أعاب قراؤه عليه إيغاله في التشاؤم وتركيزه على سلبيات المجتمع ونقائصه، في حين كان يرى هو أنه لا يقوم إلا بنقل الصورة الصادقة.
على صعيد نقد المشروع الإمبريالي الامريكي، ظهر رواد قاموا بتفكيك نظرية الاستعلاء الأمريكية، وطريقة إدارتها للأزمات في الداخل والخارج، كما نقدوا ليبراليتها غير الإنسانية وعولمتها الهادفة لمحو الثقافات الأخرى. أبرز أولئك كان بلا شك نعوم شومسكي، الذي كتب عشرات الطروحات حول هذه الموضوعات، ونقد بشكل حادٍ جداً الطبيعة الرأسمالية للمجتمع والسياسة الأمريكية، وسيطرة رجالات السوق على علاقات بلاده الخارجية، وتحكمهم في مصير الشعب، الذي ما يزال يطالب بتوفير أبسط الحقوق كالتأمين الصحي والمساعدات الاجتماعية.
شومسكي ليس الوحيد الذي نقد السياسات الأمريكية، لكن لعله الأشهر والأقوى تأثيراً مع كتاب آخرين مثل جورج سورس، صاحب كتاب «فقاعة التفوق الأمريكي» الذي يسخر فيه من مبدأ «الداروينية الاجتماعية» التي تبرر قضاء القوي على الضعيف.
ومن بين كتب النهايات التي أصبحت موضة في نقد الحداثة الغربية، يبرز كتاب «نهاية العالم كما نعرفه» لايمانويل فاليرشتاين، الصادر عام 1999عن دار نشر جامعة مينوسوتا الأمريكية، كمثال مميز، حيث يرجع الكاتب المآسي الاجتماعية إلى فقر البناء المعرفي، زاعماً أن العالم الذي عرفناه يجب أن ينتهي حتى نتساعد في بناء عالم جديد، كما أن من المميز في هذا الكتاب بعده عن الغلو، فهو ليس مثلاً بتعصب كتب صراع الحضارات، ولا يندرج ضمن سلسلة المؤلفات التي تتخذ من معاداة العرب والمسلمين منهجاً، أو تجعل مشكلة العالم الوحيدة هي أولئك «الأوباش» الذين يستعدون للانقضاض على حضارة العالم المدني. وقريب منه كتاب بول روبرتس «نهاية النفط»، الذي يتساءل فيه عن مستقبل العالم المحكوم بصراعات الطاقة، والذي لا تحكمه سوى المصالح.
من الواضح أن العالم يعيش أزمة إنسانية خانقة تجعله يقف عاجزاً أمام الحروب التي طوقت العالم، والأعداد المتزايدة للبائسين والمحرومين، لكن لهذه الأزمة أكثر من واجهة، فمن واجهة الانتخابات التي عجزت عن تمثيل الشعوب بشكل نزيه، سواء في عالمنا الثالث أو حتى في العالم الأول، إلى واجهة تزايد أعمال العنف والرغبة في الانتحار استشهاداً، أو عن طريق الانغماس في المخدرات، مروراً بظاهرة التفنن في أعمال الموت، على طريقة ذلك الطيار الذي جعل الطائرة الألمانية تصطدم، عمداً، بالجبال كأنه يقول لمن معه من الركاب أنه ليس على الأرض ما يستحق الحياة.
ثم أننا ما زلنا نتحدث في تلك الدول «الأولى» عن العنصرية التي تقود إلى الفـــوضى من حين لآخر، عبر مقتل أشخاص من أصول سوداء على يد الشرطة في فرنسا، أو الولايات المتحـــدة، التي يبدو أنها لم تتخلص، رغـــم كل تلك القـــرون، من أمراض التفرقة بين الألوان. تلك الحـــالات التي تخرج إلى السطح من حين لآخر والتي يتم ردها للعـــوامل الاجتماعية لم تدرس بعد بالجدية اللازمـــة، فما يـــزال أولئك الفقراء والمهاجرون الذين جاءوا إلى فرنسا من أقاصي الدنيا، خصوصاً من المغرب العربي وأفريقيا السوداء، مكدسين في غيتوهات منعزلة وفي بيئة هي خليط من الفقر والجوع والبؤس وضباب المستقبل. أما شعار «الحلم الأمريكي» فهو يخفي خلفه، على ما يظـــهر، معاناة التصنيف اللوني الذي يختزله تعريف رسمي مثل «الأمريكي الأسود» أو «الملونون»، ليكون فوز باراك أوباما بالرئاسة الأمريكية مجرد الحالة الشاذة التي تؤكد القاعدة.
نعم، من السهل الدعوة إلى شعار عام، كالعدالة الاجتماعية أو الشفافية السياسية، لكن المهم هو الخطوات التي نتبعها لتحقيق ذلك. لقد شاعت في الفكر السياسي عبارات مثل «إيجابيات الاشتراكية أقل من سلبياتها»، أو «الديمقراطية هي أقل الأنظمة السياسية سوءاً»، أو «الانتخابات هي الشرعية الوحيدة» أو غيرها من العبارات التي تجعلنا نتساءل: هل عجز العالم عن تقديم رؤية أكثر انسانية لحل مشكلاتنا.. رؤية لا تخدم بعضاً على حساب البقية..؟ خلال مرورك في أوروبا ستصادف القليل جداً ممن تحمسوا لليورو كعملة أوروبية بدلاً عن العملات الوطنية، وحتى من كان متحمساً فقد انتبه اليوم إلى أنه كـــان واقعاً تحــــت تأثير الدعاية المضللة لكبار رجال المال والتجارة، الذين لخصوا المصالح الوطنية في مصلحتهم الاقتصــــادية. اليوم يدفع المواطن نفسه، الذي قادته الأغلبية المضلّلة، ثمن اختياره بؤساً وغلاء وعملاً في ظروف قاسية ضمن سياسات لا تراعي سوى مصلحة السوق في المقام الأول. لكن الأكثر بؤساً سيكون بكل تأكيد ذلك المهاجر الذي تحمّله الدعاية السياسية بطريق مباشر أو غير مباشر وزر الأزمة الاقتصادية.
للموضوعية فإن الغرب ليس سلة واحدة، ففي حين تحاول أوروبا خلق نوع ما من «الرأسمالية الرحيمة»، التي تنظر بعطف للطبقات الاقل حظاً في المجتمع، تنحو الولايات المتحدة من جهتها منحاً رأسمالياً متطرفاً يتبنى النهج «النيوليبرالي» الذي يكون فيه البقاء للأقوى فقط، ما يعني تحول كل العلاقات بين الأفراد والمؤسسات، بل حتى الدول، إلى علاقات منافع وأرباح متبادلة. في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية الكبيرة، وتحت تأثير الكتاب والسياسيين الاشتراكيين استطاعت الحكومات أن تنفتح أكثر على مجال الخدمات الاجتماعية صانعة نوعاً من التأمينات والتكافل ومشددة على حق التعليم والعلاج.
ارتفعت الضرائب بشكل لافت على الدخول والممتلكات، كما ارتفعت قيمة التأمينات الاجتماعية، ثم استغلت الحكومات الأوروبية فوبيا الإرهاب، لترفع أسعار خدماتها بحجة توفير الأمن من جهة وتنغلق أكثر على نفسها من جهة أخرى. النتيجة كانت أن فقد الناس ثقتهم بتلك الفلسفات التي أخذت أكبر حيز في القرن الأخير، والتي نادت جميعها بالحرية والمساواة، كل على طريقته ورؤاه. ويأتي على الناس حين من الدهر يحسون فيه بالتشاؤم وبأن لا مفر من هذا البؤس المقيم الذي يعيشون فيه. النواب السياسيون لا يعبرون عنهم، لكن ما من طريقة أخرى للانتخاب تحميهم من وصاية أصحاب النفوذ والمصالح، الذين هم نفسهم أصحاب السياسة، والدولة لم تعد حاكمة باسم الشعب كما أرادوا بل باسم أصحاب القرار، كأنه نوع مختلف من الديكتاتورية الطبقية الموجـــودة بشكل أكثر صراحة في دول العالم النامي. إنهم يعلمــــون ذلك، يعلمون أنهم ضحايا الفلسفة المادية وتخبطات عقول ضائعة لكن، ومـــن جديد، هل هنالك بديل آخر.؟ على الشاطئ الآخر، حاول بعض الدعاة والمفكرين في العالم المسلم تقديم إجابة لهذا السؤال موضحين أن المسلمين ينتظــــرون الفرصـــة السانحة لا لتدمير الحضارة الإنسانية التي شـــاركوا في بنــائها ولا لبث الرعب أو لتفجير أنفسهم هنا وهناك، بل لكي يساهموا في تطوير عالم أفضل ذي فرص متكافئة.
كانت هناك اجتهادات مسموعة في مجال الاقتصاد الإسلامي وفي غيرها من المجالات الاجتماعية والاقتصادية، لكن صوت السلاح والقنابل والمؤامرات التي يخوضها المسلمون ضد أنفسهم كان أعلى بكثير من كل ذلك.

٭ كاتب سوداني

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جاسم محمد.العراق:

    أخ فاتح جزاك الله خيرا على ماقدمت .رأي المتواضع هوان السبب في ولاة الأمور شرقا كان إم غربا في تدهور الأوضاع في كل مناحي الحياة. شكراً

إشترك في قائمتنا البريدية