من إيجابيات فقدان مركزية الإعلام نبذ قيم الاحتكار للمعلومة، ولاسيما مع ظهور الإعلام البديل، الذي تمكن من صوغ وعي الذات والمجتمع. لقد برز مفهوم الإعلام البديل كي يشكل جسماً أكثر موثوقية من الإعلام الرسمي، أو حتى تلك المؤسسات الخاصة، التي تتتبع أيديولوجيات معينة على حساب المبدأ الأخلاقي، أو ما يمكن أن ينعته الإعلاميون بالضمير أو الميثاق المهني، من منطلق أن الإعلام يٌعنى بتقديم الحقائق، وتكريسها بغض النظر عن تعالقها مع أي متغيرات أخرى، وهو شعار لطالما كان غير حقيقي، كما هو شأن الكثير من المجالات التي تعمد إلى ادعاء المهنية والمرجعية الأخلاقية، لكن تاريخ الإنسان في أغلب الأحيان يخضع إلى فعل تعديل قيمي حسب مصالحه، فتغدو المقولات الأخلاقية والمهنية مجرد شعارات جوفاء.
ولعل هذا شأن الإنسان في أقاصي الشرق، ومغاربه، ويكاد يشمل جميع المجالات، غير أنّ خطورة هذا في مجال الإعلام كونه يُعنى بتشكيل الوعي، وما يمكن أن يقود إليه من تحول، وآثار على وقائع الوجود، بل يمكن أن يتسبب بأضرار خطيرة حين يأتي من لدن تلك الكيانات التي تدعي الاحترافية والمهنية، علاوة على تبني الوعي النقدي، وقيم الحياد والنزاهة، إذ ينص الميثاق العالمي للصحافيين المنشور على موقع هذه المؤسسة على أهمية تقديم الحقائق، دون تحيّز، لكن الأهم تقديم الخبر لا بناء على رأي شخصي، أو استنتاجات غير مبنية على حقائق، غير أن ما وقعت به وسائل الإعلام الغربي على النقيض من ذلك، فقد سارعت إلى تبني أكاذيب أو مرويات رئيس وزراء الكيان الصهيوني.
في الحرب الجارية الآن في غزة سقط الكثير من مقولات الأخلاقية المهنية، لكن ينبغي البحث عن الخلفيات الحضارية، ومدى تعمّق التفكير الصدئ والمشوه في وعي المؤسسة الإعلامية الغربية، التي لا تبدو سوى رهينة تمثيلين لا ثالث لهما، فهي في النهاية مؤسسة تجارية، لكنها أيضا تنطوي على فلسفة وقناعات، وعادة ما تكرس لخدمة اللعبة السياسية، ضمن نموذج معقد من تشابك المصالح، أو على العكس من ذلك تتبنى مقولة أيديولوجية عمياء.
بيد أن المشكلة الأعظم تبرز حين تؤسس بعض النخب السياسية آراءها أو قرارتها على تزييف إعلامي، بل إن التزييف نتيجة ما يمكن أن ننعته بالمضمر الغربي في تكوين تمثيلات تجاه الآخر، وبوجه خاص تجاه الفلسطينيين، الذين يخوضون حرباً شرسة منذ عقود من أجل خلق وعي عالمي بأن قضيتهم عادلة، وبأن المقاومة ليست إرهاباً.
لقد سارع الرئيس الأمريكي بايدن إلى بناء أحكامه اعتماداً على تضليل من لدن الكيان الإعلامي الصهيوني، ومع ذلك فقد سارع الإعلام الغربي إلى تداول هذه الأنباء عن عمليات قتل للأطفال، وقطع رؤوس.. كما مروية قصف المستشفى المعمداني من قبل المقاومة الفلسطينية.. ما دام المتهم فلسطينيا، أو بالأحرى شرق أوسطي.. كل ما سبق ينتج عن طبقات عميقة من التمثيلات الكامنة في العقل الغربي الاستشراقي، ولا فرق في ذلك، حتى لو صدرت التشوهات عن رئيس أكبر دولة في العالم، أو من لدن موظفين في وكالات إعلامية يفترض بها أن تتمتع بخبرة، واحترافية، ومبادئ، لكن ذلك يتلاشى حين يكون الخبر متعلقاً بشيطنة الآخر.
نخلص إلى أن الخطاب الإعلامي الغربي يشارك في أكبر أكذوبة، بل إنه إعلام منافق، لا يختلف في أسلوبه عن النموذج الذي ابتكره النازيون في الحرب العالمية الثانية، لكنه يظهر بصورة أكثر خبثاً، ومخاتلة كونه يستغل مقولة الضحية، حيث تضج وسائل الإعلام الغربي في الحديث عن الرهائن أو الأسرى، في حين يتعامون عن أكثر من 4000 شهيد في غزة، كما أنهم يمارسون تجاهلاً لعين المشكلة، ويعلقون بالحدث الذي – فقط – يجعل من دولة الكيان الضحية.
إن الإعلام الغربي جزء من تكوين ينهض خطابه على متخيّل مختلق، وهذا ما يتناقض مع الادعاءات التي تُنسج حول مبادئ الديمقراطية التي تتلاشى، علاوة على منظومة حقوق الإنسان حين يتعلق بالآخر، لكن هذا يمكن تبريره من منطلق أن هذا الإعلام رهين مصالحه، كما رأس المال، ولهذا فلا ضير من نشر الأكاذيب. ولننظر في عملية قصف المستشفى في غزة، حيث يصرّ الإعلام الغربي على وضع صور ضحايا الكيان لتذكير القارئ أو المشاهد بوصفهم ضحايا أيضاً، بالتوازي مع صور الضحايا الفلسطينيين، وكأنها تصنع أو تدعي شيئاً من توازن كاذب، أو الحيادية، غير أن المقارنة بين الضحية والجلاد غير قائم على مستوى مرجعية الصراع، وحجم الأضرار، ذلك أن فعل التوثيق والتقديم لا يتناسب مع حجم الإجرام الصهيوني الذي ينتج «هولوكوستا فلسطينيا في القرن الواحد والعشرين.
تكمن المشكلة بأن العالم يتناسى بأنه من حق المُحتل أن يقاوم. وهذا ما قامت به فرنسا حين كانت ترضخ للاحتلال النازي، كما كل الشعوب والدول التي تعرضت لاحتلال من مبدأ أن هذا حق يتبناه العالم كما الغرب، في حين تنصّ عليه المواثيق الدولية، غير أن المواطن الغربي مواطن مسلوب الوعي، فهو محاط بهذا الخطاب الإعلامي المضلل، والمرتهن للأيديولوجيات، ومصالح نخبته السياسية التي تحتاج إلى جسم إعلامي متواطئ؛ ما يعني سقوط الادعاءات الغربية حول المصداقية التي يغيب عنها العقل النقدي، والذي في أبسط تعريفاته ينهض على عدم القفز للاستنتاجات قبل التوصل لأدلة، كما حصل مع نخب سياسية أو قادة الغرب الذين شرعوا يتباكون على ضحايا الكيان الصهيوني، في حين يتعامون عن الضحايا الفلسطينيين، لكن يمكن تبرير ذلك بوصف إسرائيل جسما كولونياليا وظيفيا، ينبغي أن يحافظ على وجوده، وما مقولة التعاطف الإنساني سوى دعاية لتضليل شعوبها، وتبرير الدعم المفتوح.
نخلص إلى أن الخطاب الإعلامي الغربي يشارك في أكبر أكذوبة، بل إنه إعلام منافق، لا يختلف في أسلوبه عن النموذج الذي ابتكره النازيون في الحرب العالمية الثانية، لكنه يظهر بصورة أكثر خبثاً، ومخاتلة كونه يستغل مقولة الضحية، حيث تضج وسائل الإعلام الغربي في الحديث عن الرهائن أو الأسرى، في حين يتعامون عن أكثر من 4000 شهيد في غزة، كما أنهم يمارسون تجاهلاً لعين المشكلة، ويعلقون بالحدث الذي – فقط – يجعل من دولة الكيان الضحية.
يبدو العالم برمته أقرب إلى أن يكون مفلساً على المستوى الأخلاقي، ولا سيما أن الدولة الأكبر في العالم مفلسة أخلاقياً بما في ذلك (تقريباً) معظم أجهزتها الإعلامية، إذ يعد إنتاج محرقة جديدة وقودها الشعب الفلسطيني، مع مصادرة حقه في التعبير عن موقفه، ومن هنا فإن هذا التّشوه في الضمير ينتج عن آلة كبيرة من الإعلام الذي يبدو أنه فقد مصداقيته، بل ظهر تهالكه مع بروز الإعلام البديل الذي يبدو أكثر مصداقية؛ ولهذا نرى أن ثمة تحولاً في وعي بعض المواطنين الغربيين، إذ أمسى أكثر انحيازاً للإنسانية على عكس أجهزة إعلامه القائمة على ادعاءات مهنية زائفة… لا يمكن أن تؤدي إلا إلى المزيد من تضليل الوعي، فضلاً عن مصادرة معنى هذا العالم الذي فقد جزءاً كبيراً من أخلاقياته.
كاتب أردني فلسطيني