في نيويورك وواشنطن ولندن ومانشستر وباريس وأمستردام وأوسلو وبرلين وغيرها، أدرك الرأي العام حقيقة حرب «الإبادة» ضد الفلسطينيين التي تشنها حكومة الحرب الإسرائيلية، مستعينة بأحدث ما في ترسانة الأسلحة الأمريكية، في ظل حماية قوة بحرية وصاروخية أمريكية ترابط في البحر قبالة تل أبيب، ووراءها في العمق العربي القواعد العسكرية الأمريكية. كل هذا مع ضمانات أمريكية مطلقة بمواصلة إمدادها بالسلاح والمال والتأييد السياسي إلى ما لا نهاية. لقد دخلت الحرب أسبوعها الرابع، وبدأت القوات الإسرائيلية تجرب التغلغل العسكري البري داخل قطاع غزة لاختبار طبيعة الدفاعات الفلسطينية المحتملة وأسلوب الرد المحتمل. المرحلة الجديدة من مراحل حرب الإبادة في غزة ستكون فيها الخسائر البشرية أكواما على الجانبين. وفي هذا السياق فإن الرأي العام العالمي يلعب دورا متزايد الأهمية، للضغط على السياسيين وصناع القرار لمنع أقذر حرب «إبادة بشرية» للمدنيين الأبرياء في القرن الواحد والعشرين، تحت أكبر مظلة نيران يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. ولا نعني بالرأي العام هنا مجرد التحركات المؤيدة أو المناهضة للحرب في الشارع، وإنما يشمل المعنى كذلك مواقف المؤسسات والجماعات والمنظمات والقيادات والشخصيات العامة غير الحكومية، التي تلعب دورا في إعادة تشكيل المواقف السياسية الرسمية من الحرب على مستوى العالم.
3 محاور تضبط تحولات الرأي العام
انقسم الرأي العام العالمي تجاه حرب «الإبادة» الإسرائيلية ضد الفلسطينيين رأسيا وأفقيا حول ثلاثة محاور. الأول جيوسياسي، يعكس الانقسام الحاد في النظام العالمي الراهن، والصراع لإسقاط النظام الأحادي القطبية وإقامة نظام جديد متعدد الأقطاب مكانه، فوقفت الولايات المتحدة في جانب، ووقفت الصين وروسيا في الجانب الآخر. المحور الثاني هو محور قانوني، يعكس توجهات مدرستين مختلفتين في تفسير القانون الدولي الإنساني، وحدود استخدام القوة للدفاع عن النفس. وفي هذا السياق فإن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يقف على رأس مدرسة القواعد الملزمة للقانون الدولي الإنساني، وضرورة وقف جرائم الحرب التي قال في مجلس الأمن إنها تُرتكب بالفعل على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. ويقف مع غوتيريش أقطاب قضاة المحكمة الجنائية الدولية، ونخبة واسعة من السياسيين والقانونيين والمفكرين في العالم. وعلى النقيض من ذلك توجد مدرسة «بايدن – نتنياهو» التي تطلق حق الدفاع عن النفس وانتهاك القانون الدولي الإنساني في مصلحة إسرائيل إلى ما لا نهاية على أساس انتقائي، فما يرونه جريمة حرب ضد الإنسانية في أوكرانيا بواسطة روسيا، هو سلوك مشروع وواجب عندما ترتكبه إسرائيل في غزة! هذا الصدام داخل المحور القانوني نشأ بسبب الكيل بمعايير مزدوجة لصالح إسرائيل، وهو يتناقض مع كل القوانين والأعراف الدولية، فكل دول العالم سواسية أمام القانون الدولي. أما المحور الثالث لانقسام الرأي العام العالمي فإنه يتعلق بالموقف من الجانب الإنساني للحرب. وفي هذا الشأن فإن الرأي العام العالمي، خصوصا على مستوى الشارع السياسي، ينظر إلى الجانب الإنساني في حرب غزة بعينين وليس بعين واحدة، ويأخذ في اعتباره معاناة أسر الضحايا على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، مع ضرورة القياس بمبدأ «التناسب» بين الفعل ورد الفعل. وهناك بلا شك مدرسة متطرفة تبرر قتل الطرف الآخر، وهو ما عبر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، بوصف الفلسطينيين بأنهم «حيوانات بشرية» وهو وصف يستخدم في إسرائيل على نطاق واسع، خصوصا بواسطة المستوطنين والمتطرفين. ويرى المتطرفون الصهاينة عموما أن الفلسطينيين يجب قتلهم وإبادتهم كلما لاحت الفرصة، وتهجير من تبقى منهم خارج أرض فلسطين الممتدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط.
ولادة تيار مناهض للحرب
ومن الطبيعي أن يؤدي التطرف إلى تطرف مقابل، وأن تؤدي الوحشية العسكرية الغاشمة إلى بث روح الانتقام لدى الطرف الآخر. وإذا استمرت الأمور تسير على هذا المنوال، فلن يتحقق سلام أبدا في هذه المنطقة من العالم. بل إن العالم كله سيصبح مكانا غير آمن، نظرا لارتباط مصالح قوى عالمية رئيسية ارتباطا وثيقا بالحرب، وبالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وقد لاحظنا في متابعة توجهات الرأي العام العالمي تحولات مهمة، خصوصا على مستوى الشارع السياسي. ثم لعبت هذه التحولات دورا مهما في الضغط على صناع السياسة في العالم، خصوصا المؤيدين لإسرائيل، أو الخائفين منها، وذلك بتعديل لهجة خطابهم السياسي، ومحاولة إضفاء قدر من التوازن على هذا الخطاب، خصوصا فيما يتعلق بالاعتراف بضرورة مراعاة حقوق المدنيين في الأمان، وحصولهم على الإمدادات الإنسانية الضرورية مثل الماء، والغذاء، والدواء، والكهرباء، والوقود. لكن هذا التغير في اللهجة لم يعكس تغيرا في مضمون المواقف، ولم تعقبه إجراءات فعلية على الأرض لضمان حقوق المدنيين، خصوصا العمل على وقف إطلاق النار، الذي تعارضه إسرائيل بقوة. وتقول حكومة الحرب الإسرائيلية أن هدف هذه الحرب هو تدمير البنى التحتية والفوقية والبشرية لحركة حماس، دون أي اعتبار لما قد يترتب على ذلك، بما فيه قتل المدنيين، حتى لو تحولت غزة إلى مقبرة إبادة جماعية، لا نجاة منها إلا بالهروب إلى مصر.
هذا الموقف الإسرائيلي المدعوم بشكل مطلق من الولايات المتحدة ودول حلف الأطلنطي، أدى إلى توليد تيار شعبي مناهض للحرب في كل دول العالم تقريبا، يطالب بوقف استخدام القوة الغاشمة، وإنهاء حصار إسرائيل لغزة وفتح أبواب السفر والانتقال للمدنيين بمن فيهم الأجانب. وقد بدأت تجليات هذا التيار في الولايات المتحدة نفسها، وبين اليهود أنفسهم. ومع استمرار الحرب، فإننا نتوقع زيادة قوته واتساع نطاق انتشاره في كل أنحاء العالم. ونعلم مقدما أن إسرائيل تستخدم تهمة جاهزة هي «معاداة السامية» لإطلاقها في وجه المناهضين لسياسة استخدام القوة الغاشمة المتوحشة. هذا الخلط المتعمد بين العداء لحرب الإبادة ضد الفلسطينيين، وبين تخويف الرأي العام بقوانين العداء للسامية لم ينجح في وقف مد تيار مناهضة الحرب. وقد أكدت الكاتبة التقدمية اليهودية نعومي كلاين في كلمة أمام اليهود المعادين للحرب في نيويورك منذ أيام أن هذا التخويف بتهمة العداء للسامية المراد منه الآن هو ارتكاب مذبحة بشرية ضد شعب بريء.
كما وصلت ردود الفعل المناهضة لسياسة الحرب الإسرائيلية إلى تشجيع العشرات من الأشخاص العاديين في مدن كثيرة حول العالم، على تمزيق أو تشويه الملصقات الإسرائيلية التي تطالب بإطلاق سراح المحتجزين لدى حماس وتحمل صورهم وأسماءهم. هذه الملصقات يتم تمزيقها أولا بأول في الشوارع، وكتابة كلمات أخرى على ما يتبقى منها بعد التمزيق أو التشويه، كما أن التعليقات التي تضاف إليها تندد بالمحتل الإسرائيلي، كما ذكر تقرير لصحيفة هآرتس يوم 26 من الشهر الحالي.
وبعد أن كانت المسيرات الإسرائيلية الداعية للانتقام من الفلسطينيين تسيطر على المشهد في الشارع السياسي العالمي، فإن هذه السيطرة لم تستمر لأكثر من 24 ساعة، عندما انقلب المشهد بعد صحوة الضمير العالمي، وبدأت الشوارع تفيض بمسيرات تطالب بوقف الحرب، والتخلي عن روح الانتقام، وإقامة سلام عادل بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. ومع انقلاب الرأي العام العالمي ضد حرب «الإبادة» بدأت تتقدم روح الموضوعية ومحاولة إقامة توازن، بتأكيد ضرورة احترام القانون الدولي، والسماح بوصول الإمدادات الإنسانية إلى السكان الأبرياء في غزة. وعلى الرغم من هذا التحول، فإن هناك حكومات بقيادة الولايات المتحدة ما تزال تقف باستماتة ضد إصدار قرار دولي بوقف إطلاق النار، وإنهاء حصار غزة، وتهدئة الموقف تمهيدا للشروع في عملية سلام توفر الأمان للشعبين.
تأثير التكنولوجيا والسوشيال ميديا
الرأي العام هو ضمير العالم. لكن هذا الضمير لا يعبر عن نفسه بالضرورة من خلال وسائل الإعلام الحكومية والرسمية، فهذه لا تطلق في معظم الأحوال غير أصوات سادتها. ولذلك فإننا عندما نتحدث عما يسمى «الأغلبية الصامتة» فإننا إنما نتحدث عن الرأي العام المحبوس في زنزانة الصمت. لكن الرأي العام الطبيعي غير المشوه، وغير المقيد بقيود الأنظمة المستبدة، وجد لنفسه بعد قرون طويلة، متنفسا من خلال التكنولوجيا، التي أصبحت تعني حرية أكثر. وكان التجلي الأول لهذه العلاقة العضوية بين التكنولوجيا والحرية هو انطلاقة 6 نيسان/أبريل عام 2008 في مصر، ثم كان تجليها الرائع في انتفاضة 25 كانون الثاني/يناير عام 2011. في كل من الحدثين كانت تكنولوجيا الإنترنت والتواصل عن بعد هي القناة الرئيسية للتنظيم والدعاية والتعبئة والتحرك، وهو ما اتبعته في العام نفسه حركة «احتلوا وول ستريت» في الولايات المتحدة، التي انتشرت في عشرات من بلدان العالم. هذه الريادة لمنصات السوشيال ميديا من خلال تكنولوجيا الإنترنت أشار إليها فيلسوف «القوة الناعمة» الأمريكي جوزيف ناي (الإبن) في محاضرة مهمة له في معهد تشاتهام هاوس للدراسات الاستراتيجية في بريطانيا في عام 2011. وما نراه الآن من تمايز واضح بين توجهات الإعلام الرسمي من ناحية، وتوجهات الإعلام المستقل ومنصات التواصل الاجتماعي من ناحية أخرى يقدم للعالم كله، والأغلبية الصامتة في كل مكان، الدليل القاطع على أن المحرومين والمضطهدين يمكن أن يكون لهم صوت، ويمكن أن تكون لهم قوة لا تتجاهلها الحسابات.
وقد استطاع إعلامي مصري واحد فقط، بإمكانياته الفردية المحدودة، هو الإعلامي الساخر باسم يوسف أن يجمع للقضية الفلسطينية وللصامدين في غزة تأييد عشرات الملايين حول العالم من خلال قناته على اليوتيوب، واللقاء المثير والرائع الذي أجراه معه الإعلامي البريطاني الشهير بيرس مورغان على قناته المستقلة، من خلال منصة اليوتيوب أيضا. باسم يوسف أثبت أنه أكبر وأقوى وأكثر نفوذا في العالم من كل مؤسسات الدبلوماسية العربية، وأجهزة الإعلام المهمومة في الصباح المساء بمصالح أصحاب الجلالة والسمو والفخامة، المهمومين بالبقاء حتى الموت على الكراسي، أكثر من أي شيء آخر في الوجود. كذلك فإن الإعلام المهني الموضوعي المستقل استطاع أن يطلق أصوات من لا صوت لهم وسط المأساة الحالية.
لقد أصبحت قناة «الجزيرة» وسط هذه المأساة منافسا حقيقيا لوسائل إعلام ذات نفوذ واسع في العالم، مثل «سي إن إن» و«سكاي نيوز» و«فوكس نيوز» لأنها قدمت الصورة المتوازنة الموضوعية بحرفية بالغة وسط ظروف شديدة الصعوبة، تحت القصف والدمار، ودفع مراسلوها في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية ثمنا فادحا لذلك، دفعوا أرواحهم أو أرواح أفراد أسرهم القريبة. هذا الدور الذي تقوم به منصات السوشيال ميديا ووسائل الإعلام المستقلة، وفر الوسيلة لمن لا صوت لهم ليكون لهم صوت، وهو ما أدى إلى حدوث انقلاب في الرأي العام العالمي.
ومع أن منصات التواصل الاجتماعي أفلتت من الرقابة بقوة التكنولوجيا، وإصرار عشرات الملايين في الدول العربية على اعتبارها قنوات التعبير عن الرأي والتضامن مع الشعب الفلسطيني ضد حرب الإبادة التي يخوضها، فإن أجهزة الإعلام الرسمية، حتى في دول معروفة بمواقفها الإيجابية من القضية الفلسطينية مثل الجزائر وسوريا ومصر والعراق، استمرت في حرب الحصار الإعلامي على قوى الضمير الشعبي. ومن الغريب أن هذا الحصار امتد إلى أصوات المنظمات والشخصيات العالمية المناهضة للحرب والمناصرة للفلسطينيين. ومن الأمثلة القبيحة في هذا السياق ما أقدمت عليه السلطات الجزائرية من منع الكاتبة الفرنسية الرائعة آني إرنو (83 عاماً) الحائزة على جائزة نوبل للأدب لعام 2022 من دخول البلاد وعدم منحها تأشيرة لحضور معرض الجزائر الدولي للكتاب، الذي تم افتتاحه الأسبوع الماضي. هذا الخطأ الذي ارتكبته السلطات الجزائرية لا يعود فقط إلى أن إرنو حائزة على جائزة نوبل ولها مكانتها العالمية، وإنما أيضا لأنها مثقفة فرنسية رفيعة المستوى مؤيدة للحق الفلسطيني، وقيم الحرية والعدالة في العالم. وقد وقعت أخيرا على البيان الذي وجهته نخبة المثقفين الفرنسيين عبر صفحات صحيفة «لومانيتيه» الفرنسية بتاريخ 22 من الشهر الجاري «من أجل وقف فوري لإطلاق النار في غزة.» موقف السلطات الجزائرية لم يغفر لإرنو أنها وقعت قبل عدة أشهر على عريضة تطالب بالإفراج عن أحد الصحافيين الجزائريين المعتقلين، ومن ثم كان يجب عقابها حتى لا تجرؤ على ذلك مرة أخرى.
الضمير العالمي له تاريخ
تتجلى قوة ضمير البشرية في لحظات فارقة، تكون فيها الحاجة إلى صوت الحق أكبر ما تكون، وأهم ما تكون. وعندما تتجلى قوة الضمير فإنها تهزم الدبابات والطائرات والصواريخ، وتوقف المعتدي الغاشم عند حد لا يستطيع تجاوزه. وقد رأينا ذلك في لحظات فارقة في تاريخنا المعاصر، منها مظاهرات الغضب والرفض ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ومنها موجة المعارضة الواسعة النطاق ضد الحرب الأمريكية على فيتنام في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، ومنها غضبة الرأي العام العالمي ضد مذابح البوسنة والهرسك في أوائل تسعينات القرن الماضي. في هذه الحالات وغيرها، توقف العدوان وانتصر ضمير البشرية. كذلك فإن صحوة الضمير العالمي الحالية تتجاوز مجرد الاكتفاء بخطاب إدانة قتل المدنيين وإهدار حقوقهم، وترفع نداءات المطالبة بوقف إطلاق النار فورا، وهو مطلب تخلت عن التمسك به دول عربية كثيرة. وفي تحولاته الراهنة يميز الضمير العالمي يميز بذكاء ومهارة بين امتلاك القوة لاسترجاع الحق وتثبيته والدفاع عنه، وبين امتلاك القوة الغاشمة من أجل مصادرة حقوق الآخرين، وتجريدهم منها.
محركات قوة الضمير
في الدول الديمقراطية
ما يجعل ضمير البشرية قوة يُعمل لها ألف حساب، أو ما يضعفه، يتمثل في أربعة محركات رئيسية، أولا وسائط التواصل الاجتماعي غير المقيدة، حتى إذا أخطأت. وثانيا، وسائل الإعلام المستقلة غير الخاضعة لنفوذ أصحاب الجلالة والسمو والفخامة وجماعات المصالح الخاصة. وثالثا، دور جماعات الضغط المنظمة في مجالات الدفاع عن البيئة والعدالة الاجتماعية، والحق في حياة كريمة، بما فيها تلك التي تركز على قضية واحدة، مثل الدفاع عن حرية إبداء الرأي، والحق في المحاكمات العادلة، والنضال ضد التمييز الديني أو الإثني أو الجنسي وغير ذلك من أشكال التمييز. رابعا، حرية الحراك السياسي في المجتمعات المختلفة. ونظرا لضعف قوة هذه المحركات في الدول غير الديمقراطية، فإن الأغلبية الصامتة تظل كتلة ذات قدرة محدودة في التعبير عن نفسها، أو عديمة القدرة تماما.
الضمير اليهودي الداعي للسلام
ليس كل اليهود أشرار ودعاء حرب، لأن فيهم من يقفون بقوة لمناهضة الحرب ومناصرة السلام.
يوم الأربعاء 18 من الشهر الحالي، دخل إلى المبنى التاريخي للكونغرس الأمريكي مئات اليهود المناهضين للحرب، الذين يوصفون سياسيا بأنهم من أنصار اليسار اليهودي المعادي للصهيونية، وأعلنوا الاعتصام داخل المبنى رافعين العلم الفلسطيني، مطالبين بوقف فوري للحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ووقف سفك الدماء وعدم التضحية بأرواح الأبرياء. وقد كانت هذه هي المحاولة الثانية التي قام بها اليهود المعادين للسياسة العدوانية الإسرائيلية، بعد المحاولة الأولى التي وقعت قبلها يومين (يوم الإثنين) حيث حاولت مجموعة كبيرة منهم الاعتصام أمام البوابة الرئيسية المؤدية إلى البيت الأبيض. وبينما قامت الشرطة بالقبض على 50 من المحتجين اليهود يوم الإثنين الماضي، فإن عدد الذين تم احتجازهم في المحاولة الثانية يوم الأربعاء وصل إلى 400 شخص، وينتمي هؤلاء إلى اثنتين من المنظمات اليهودية المؤيدة للسلام الإسرائيلي – الفلسطيني، هما منظمة «الصوت اليهودي للسلام» ومنظمة «’إذا لم يكن الآن» (IfNotNow).
وتضم الحركة اليهودية المعادية للسياسة العدوانية الإسرائيلية أسماء كبيرة، منها الكاتبة والباحثة الشهيرة نعومي كلاين، التي اتهمت حكومة نتنياهو بأنها تحاول ارتكاب مجزرة إبادة بشرية ضد الفلسطينيين بإثارة الخوف بين الإسرائيليين من حرب إبادة ضدهم. وقالت إننا لن نقبل بأن يتم التلاعب بالخوف من العداء للسامية على النحو الذي تفعله حكومة نتنياهو.
وقد تعرضت التظاهرات والاحتجاجات التي قامت بها المنظمات اليهودية المؤيدة للسلام إلى انتقادات حادة من جانب المنظمات والشخصيات الصهيونية اليمينية المتطرفة مثل منظمة «ضد التشهير» التي تتبنى أشد المواقف انحيازا إلى اليمين الصهيوني الديني المتطرفة. وكان صوت السفير الأمريكي الأسبق في إسرائيل ديفيد فريدمان، الذي شغل منصبه خلال فترة دونالد ترامب، من أبرز الأصوات التي ارتفعت عاليا ضد حركات السلام اليهودية والتظاهرات التي قامت بها في مدن أمريكية رئيسية مثل نيويورك. واتهم فريدمان المتظاهرين ضد الحرب قائلا على منصة «إكس» إن أي يهودي أمريكي يشارك في هذه التظاهرات «ليس يهوديا.. نعم ليس يهوديا أنا أقول ذلك»! وعلى الرغم من أن الذين شاركوا في مسيرات السلام اليهودية لم يكونوا جميعا من اليهود، فقد أظهرت التقارير الإعلامية والصور أن رجال دين يهود كانوا من بين الخطباء في هذه المسيرات، وأكدوا في كلماتهم على الدعوة للسلام والتحذير من تداعيات استمرار القتال.
الضمير الأمريكي
كانت المسيرات التي نظمها طلاب عدد كبير من الجامعات الأمريكية، والعرائض التي تم التوقيع عليها بواسطة الآلاف، من المظاهر اليقينية التي تؤكد قوة الرأي العام المؤيد للحقوق الفلسطينية اليوم وغدا وفي المستقبل. وقد أدت التحركات الطلابية إلى حالة من القلق والغضب بين زعماء الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، الذين اتفقوا على ضرورة سرعة مواجهة هذه التحركات، واستخدام ما يمكن وصفه بأنه سياسة «عقاب جماعي» ضد الطلاب وضد جامعاتهم التي يدرسون فيها، مثلما حدث مع المنظمات الطلابية في جامعة هارفارد، التي أصدرت بيانا تحمّل فيه السلطات الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن الاعتداءات الوحشية على غزة، وتدعو إلى اتخاذ إجراءات فعالة لإنهاء حرب الإبادة ضد الفلسطينيين.
ونظرا لأن المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة تتبنى سياسة «عدم تسامح صفرية» فإنها لا تتسامح ولو بمقدار شعرة تجاه أي انتقاد لإسرائيل، فإن مجموعة من مانحي التبرعات، هددت بوقف تبرعاتها لجامعات مثل هارفارد وبنسلفانيا، ما لم يتم الكشف عن أسماء أعضاء المنظمات والروابط الطلابية المشاركة في الاحتجاجات ضد إسرائيل. وذكرت رسائل المانحين أن الهدف من معرفة أسماء الموقعين على عرائض مناهضة الحرب وأعضاء الروابط الطلابية المرتبطين بها، هو ألا يقوم أحد من المانحين بتوظيف واحد من هؤلاء الطلاب بطريق الخطأ. وتضم قائمة المتبرعين للجامعة شخصيات صهيونية ثقيلة الوزن مثل رونالد لاودر رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، وصاحب شركة «إيستى لاودر» لمستحضرات التجميل، الذي هدد أيضا بقطع التمويل عن جامعة بنسلفانيا لأنها استضافت ندوة لكتاب فلسطينيين. كما انضم للحملة ضد الطلاب عدد من المليارديرات الذين يملكون ويديرون شركات ضخمة تعمل في قطاعات مختلفة أهمها قطاع التمويل.
ورغم هذه الضغوط فإن الجامعات الأمريكية المعروفة بتقاليدها الأكاديمية العريقة، لا تخضع بسهولة لمطالب الممولين، لكنها بطبيعة الحال لا تستطيع أن تضمن فرص العمل لطلابها بعد التخرج، خصوصا إذا كان هؤلاء الممولون يتحكمون في مؤسسات مهمة في سوق العمل. ومن الوقائع التي تم نشرها، واقعة حرمان ثلاثة طلاب من جامعة هارفارد وكولومبيا من عروض عمل كانوا قد تلقوها بالفعل من شركة المحاماة الشهيرة ديفيس بولك، بسبب موقفهم من الحرب على غزة. وقد انتقد لاري سمرز وزير الخزانة الأمريكي الأسبق، الذي تولى أيضا في وقت سابق رئاسة مجلس أمناء جامعة هارفارد، طلب نشر قوائم أسماء الطلاب المعارضين للحرب، وقال إن مثل هذا الطلب يعيد إلى الأذهان السياسة المكارثية لمطاردة حرية الفكر في منتصف القرن الماضي في الولايات المتحدة.
وعي جيل السوشيال ميديا
طبقا لصحيفة «جيروساليم بوست» الإسرائيلية (24 الجاري) بعد تحليل نتائج استطلاع للرأي العام الأمريكي بشأن توجهات الأمريكيين تجاه الحرب في غزة، فقد وجدت الصحيفة أنه على الرغم من التأييد الأمريكي القوي للحرب على غزة، فإن شريحة الشباب من 18 إلى 24 سنة لديها ميول قوية لتأييد «حماس» وهو ما عبرت عنه المظاهرات التي انتشرت في المدن الأمريكية الكبرى تأييدا للفلسطينيين، واحتجاجا على عمليات القتل التي تقوم بها القوات الإسرائيلية في غزة. هذه المظاهرات والاحتجاجات جاءت بسرعة بعد يومين من انطلاق عملية «طوفان الأقصى» الفلسطينية وما قابلها من عملية «السيوف الحديدية» الإسرائيلية، وكان من أهم ردود الشارع الأمريكي على الحرب، تلك المظاهرة الكبرى التي انطلقت في مدينة نيويورك، وتوجهت إلى مقر القنصلية العامة الإسرائيلية يوم 9 من الشهر الحالي تعبيرا عن الغضب وإدانة ما تقوم به إسرائيل في غزة.
وردا على سؤال في استطلاع الرأي الذي أجرته جامعة هارفارد مع مؤسسة هاريس، تعتقد نسبة تتجاوز 26 في المئة من المشاركين المنتمين إلى الشريحة العمرية من الشباب (18- 24 سنة) أن الحل الطويل الأمد للصراع في الشرق الأوسط هو إزالة إسرائيل وإعادة أرض فلسطين كاملة إلى حماس والفلسطينيين. وعلقت الصحيفة على هذا الموقف بأنه يثير أسئلة بشأن المستقبل. وإضافة إلى ذلك فإن حوالي 30 في المئة من الشباب من الشريحة المذكورة قالوا في الاستطلاع إن الولايات المتحدة يجب أن تؤيد حماس وليس إسرائيل في هذا الصراع. ومع ذلك فإن النتائج العامة للاستطلاع تظهر تأييدا أمريكيا كبيرا للمؤسسات الإسرائيلية، على العكس من المؤسسات الفلسطينية بما فيها حماس. وتشير نتائج استطلاع (هارفارد – هاريس) إلى أن نسبة 86 في المئة من الأمريكيين يعتقدون أن هجوم حماس على إسرائيل يعتبر عملا إرهابيا.
وعلى العكس من ذلك فإن تحليل بيانات الاستطلاع أظهر أن نسبة كبيرة من شريحة الشباب صغار السن من الناخبين الأمريكيين تصل إلى 48 في المئة لا يعتقدون أن حماس منظمة إرهابية، وأنهم أكثر ميلا للوقوف معها ضد إسرائيل، وأقل ميلا إلى تأييد مقولة أن إسرائيل مسؤولة عن الدفاع عن مواطنيها بالانتقام من حماس، وأكثر ميلا للانحياز إلى القيم والاعتبارات الإنسانية والأخلاقية، وتغليب هذه القيم على القوة في الصراع الحالي، ومن ثم فإنهم لا يميلون إلى تأييد وجهة النظر الإسرائيلية بشأن تدمير حماس وإنهاء وجودها. وقد جرى استطلاع الرأي عبر الإنترنت، على عينة تشمل 2116 من الناخبين الأمريكيين يومي 18 و19 من الشهر الحالي.
الضمير الأوروبي
من المتوقع أن نشهد اليوم في كل المدن الأوروبية الرئيسية مظاهر انقسام الضمير العالمي بين مناهضين للحرب يرفعون العلم الفلسطيني، ومؤيدين يرفعون العلم الإسرائيلي. أوروبا لا تستطيع أن تتجاهل ما يحدث في غزة، لكنها في الوقت نفسه تعاني من ذنب تاريخي في جريمة إبادة تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية على أيدي النازيين. ومع أن الفلسطينيين لم يشاركوا في ارتكاب الجريمة، ومع إنها كانت سابقة للاغتصاب الرسمي لفلسطين، فإنهم يدفعون منذ 75 عاما ثمن جريمة الهولوكوست التي ليس لهم ذنب فيها، وهم الآن يتعرضون لجريمة مشابهة تماما، حيث تتحول غزة فعليا إلى محرقة يموت فيها الفلسطينيون بنيران حكومة الحرب الإسرائيلية وأقطاب الصهيونية الدينية. ومع أن الاتحاد الأوروبي كان أكبر مانح للمساعدات إلى السلطة الوطنية الفلسطينية في عمليات إعادة بناء غزة بعد الحروب الممتدة منذ عام 2006 حتى اليوم، فإن إسرائيل كانت في المقابل هي الآلة العسكرية الجهنمية التي دمرت ما بنته هذه المساعدات. هذا من شأنه أن يضع الحكومات الأوروبية والرأي العام هناك في موضع متوازن مناهض للحرب. وهذا ما نعتقد أنه يحدث تدريجيا منذ 9 من الشهر الحالي حتى اليوم، سواء في إسبانيا التي تتخذ موقفا معاديا للحرب منذ اللحظة الأولى، أو في النرويج والسويد وبلجيكا وسويسرا وهولندا وفرنسا التي تحاول الدفع في اتجاه موقف أوروبي متوازن، على الأقل في الجانب الإنساني، أو حتى في بلدان مثل ألمانيا وبريطانيا المعروفة بتأييدها لإسرائيل لأسباب تاريخية.
الموقف العربي
هناك أسباب كثيرة تؤدي إلى ضعف عملية تشكيل الرأي العام في الدول العربية، وضعف التفاعل مع الرأي العام العالمي، وهو ما يقيم حائطا سميكا يحول دون إقامة تفاهم أكثر وأعمق مع العالم، ويحول دون وصول الصوت العربي إلى دائرة التأثير على توجهات السياسة العالمية. ومن أهم أسباب ضعف العلاقة بين الرأي العام العربي والرأي العام العالمي مصادرة السياسة في الدول العربية كلها تقريبا، إلا ما يتعلق منها بتأييد الحاكم والتفاني في خدمته. كما أن هذا الضعف يعود أيضا إلى عدم استقلالية مؤسسات صناعة الرأي العام، وضعف الحراك السياسي. كذلك تساهم عوامل أخرى اقتصادية واجتماعية في ضعف عملية تشكيل الرأي العام العربي وتحد من قدرته على إقامة جسور للتفاعل مع الرأي العام العالمي، مثل انتشار الأمية والفقر وانحطاط المستوى العام للتعليم.
غير أن مستقبل جيل السوشيال ميديا الذي يضم الشرائح الجديدة من الشباب، خصوصا المنتمين إلى الطبقة الوسطى، يقدم فرصا عظيمة لتجاوز الأجيال السابقة، لأنه يستطيع التواصل مع العالم أكثر، وتتوفر لديه مصادر أكثر تنوعا للحصول على المعلومات. ويشكل هذا الجيل تحديا صعبا لنظم الحكم القائمة في الدول غير الديمقراطية عموما، ومنها الدول العربية، لأنه يتعلم كل يوم عبر وسائط التواصل الاجتماعي غير الخاضعة لتوجيهات وقيود حرية التعبير. وعلى العكس من الأجيال السابقة التي ولدت ونشأت بعد الحرب العالمية الثانية، وخضعت لتأثير الأنظمة الشمولية والقومية المتعصبة واليسارية الضيقة الأفق، وتعايشت مع الفساد والهزائم المتكررة، فإن جيل السوشيال ميديا من واجبه أن ينفتح على التيارات الديمقراطية في العالم وفي المنطقة، بعيدا عن أي انحياز ديني أو مذهبي أو إثني أو جنسي أو أيديولوجي، حتى تكون لديه فرصة أكبر للمشاركة في صناعة الرأي العام العالمي والتفاعل معه.