يبدو أن ثلاثة أسابيع منذ هجوم حماس على غلاف غزة كانت كافية لحكومة نتنياهو وقيادة جهاز الأمن بمنظومة علاقتها الواهية مع نتنياهو، كانت كافية لبلورة خطة للمرحلة الأولى من العملية البرية في قطاع غزة. ولكن مصادر سياسية وأمنية اعترفت بأن هذا الوقت لم يستغل، حتى لو جزئياً، من أجل التفكير بحل مطلوب لإسرائيل في غزة، على فرض أن الأهداف العلنية التي وضعت للحرب – تدمير قدرات حماس العسكرية وتدمير نظامها – ستتحقق.
تسيطر حماس على القطاع منذ 16 سنة، منذ انقلابها ضد سلطة “فتح” في حزيران 2007. بشكل رسمي، بقي الجهاز المدني هناك للسلطة الفلسطينية، وحتى إنها مولت رواتب الموظفين العامين بنحو مليون دولار في الشهر. ولكن أمور القطاع أديرت بيد جهاز مواز لحماس. في اليوم التالي للحرب، ستطلب حماس جهازاً آخر لإدارة حياة أكثر من مليوني شخص هناك، لكن سيطلب من حماس أن تضمن عدم مهاجمة مهاجمة إسرائيل مرة أخرى من القطاع.
“بعد انتهاء القتال”، قال وزير الدفاع غالنت هذا الشهر للجنة الخارجية والأمن، “ستأتي مرحلة تشكيل نظام أمني جديد في قطاع غزة، ورفع المسؤولية من ناحية إسرائيل عن الحياة في القطاع، وخلق واقع أمني جديد للمواطنين الإسرائيليين وسكان الغلاف”. الوزير لم يفسر من بالضبط سيلبي كل هذه الطلبات. ولا أحد في إسرائيل يملك اليوم التحدث عن ذلك علناً. يبدو ذلك راجعاً للخوف من أعضاء الائتلافي في اليمين المتطرف، ومن قاعدة الدعم الوطني التي بقيت للائتلاف، الذي قوته في الاستطلاعات آخذة في الانخفاض. قبل أسبوعين تقريباً، عندما نشر في وسائل الإعلام عن نية نقل القطاع إلى مسؤولية السلطة الفلسطينية بعد الحرب، خرج من مكتب رئيس الحكومة نفي قاطع يقول إن “نتنياهو حدد الهدف: تصفية حماس. كل الأحاديث عن قرارات لتسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية أو أي جهة أخرى تبقى أكاذيب”.
مصدر رفيع في الجيش قال قبل أسبوع ونصف، إن الوضع الذي تتوق إسرائيل للوصول اليه في القطاع بعد انتهاء الحرب له تداعيات مهمة على تخطيط الحرب نفسها. في ظل غياب هدف سياسي محدد، على جهاز الأمن محاولة تعريف هذا الوضع بنفسه. انطلقت العملية البرية مساء السبت، بدون إجابات من الحكومة.
الذين يسمعون أصواتهم ويتحدثون ويخططون بشكل علني هي الدوائر اليمينية الدينية القومية المتطرفة، التي تحلم بالعودة إلى “غوش قطيف” والمستوطنات الأخرى التي تم إخلاؤها في عملية الانفصال. محاولة أبواق اليمين ربط هجوم حماس بانسحاب إسرائيل الكامل من القطاع في 2005 ليست مرحلة أخرى في حملة التملص التي يقوم بها نتنياهو من التهمة فحسب، بل هي أيضاً جزء من عملية جماهيرية محسوبة.
الوزراء في اليمين المتطرف لا يتحدثون عن هذا الأمر بشكل علني، كما فعلت قبل نصف سنة الوزيرة أوريت ستروك بعد إلغاء قانون الانفصال. فقد قالت في حينه بأنه “لا شك أن الحديث يدور في نهاية المطاف عن جزء من أرض إسرائيل. وسيأتي اليوم الذي سنعود فيه إليه”. خلافاً لبعض أعضاء الكنيست، مثل سمحا روتمان، هم يعرفون أنه في هذه المرحلة، حيث العزاء والصدمة غضة، فإن هذه الفكرة تثير عليهم الغضب العام. ولكن في جلسة من جلسات الكابنيت، طلب إيتمار بن غفير، وزير الأمن الوطني، الاحتفاظ بالأرض حتى بعد انتهاء القتال.
وماذا بخصوص الفلسطينيين الذين يعيشون هناك؟ أحد أعضاء الكنيست من الجناح المتطرف في الائتلاف استخدم الأسبوع الماضي في محادثة خاصة، تعبيراً ينطوي على خفايا، “المدينة النائية” – مدينة أخطأ معظم سكانها في استخدام العمال الأجانب، لذلك فإن حكمهم القتل. وعندما سيتم تدمير المدينة وتتحول إلى “أنقاض، لن تبنى ثانية”، والقصد واضح: يجب فعل ذلك على الأقل في جزء من مدن القطاع، هذا ما يعتقده عضو الكنيست، من أجل أن يتعلموا الدرس.
أيضاً في الأجنحة المعتدلة أكثر في اليمين، كان هناك سياسيون تحدثوا مؤخراً عن إمكانية “معاقبة الغزيين”، حتى في اليوم التالي للقتال، وأن يتم تغيير حدود القطاع بشكل ما لصالح إسرائيل. المنطقة التي تم تحديدها كمنطقة مناسبة لذلك هي الجزء الشمالي في القطاع، الذي كانت فيه مستوطنات “نيسانيت” و”إيلي سيناي” و”دوغيت”. لا يعيش فيها الفلسطينيون حتى اليوم أيضاً.
في الأشهر العشرة من حياة الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، تعلمنا أنه لا شيء إلا وباستطاعة هذه الحكومة فعله، لكن يصعب رؤية أفكار كهذه تتحول إلى سياسة رسمية في العهد الذي يعدّ فيه الاعتماد على الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى. إن رؤية بعيدة المدى لأجزاء من قطاع غزة، حتى بدون إعادة المستوطنات إلى هناك، ستؤدي إلى عزلة سياسية وإنهاء الدعم الأمريكي لإسرائيل. يكفي طرح الفكرة من قبل أعضاء في الحكومة حتى يتسبب ذلك بأضرار سياسية وأضرار لصورة إسرائيل.
مساعدة من الأصدقاء
على افتراض أن مستوطنات جديدة لن تقوم في القطاع، فإن معضلة اليوم التالي للحرب تتكون من ثلاث مراحل، وهي: المرحلة الأولى مرحلة وضع إسرائيل يدها على المنطقة. والمرحلة الثانية المؤقتة، يتم فيها نقل المسؤولية الأمنية والمدنية إلى يد جهة أخرى. وعلى المدى البعيد، الذي سيكون مطلوباً فيه خطة واقعية لخلق واقع لا يعود فيه قطاع غزة كابوساً من مخيمات اللاجئين والإرهاب.
يستعد جهاز الأمن الآن لإعادة عدد من الجنود والقوة البشرية المدنية التي تخدم في قسم منسق أعمال الحكومة في “المناطق” إلى الخدمة المؤقتة في القطاع. القدامى الذين كانوا في “الإدارة المدنية” وخدموا في فترة كان فيها الجيش هو المسيطر في القطاع، ربما يتم استدعاؤهم للاحتياط. أفكار لشخصيات رفيعة سابقة في جهاز الأمن عن استنساخ نموذج جنوب لبنان، أي خلق منطقة أمنية وإقامة مليشيات محلية تساعد في الحفاظ على النظام، هي أفكار بقيت حتى هذه المرحلة غير قابلة للتحقق بسبب المنطقة الصغيرة وعدد السكان الكبير.
رؤساء الجهاز يتوقعون عبئاً كبيراً ستسببه هذه المهمة، خصوصاً عندما تلوح في الأفق مواجهة مع “حزب الله” وتحتاج إلى الاستعداد لإعادة السلطة إلى القطاع. ستكون هذه العملية معقدة، وفي الأصل لا تملك السلطة الآن ما يكفي من القوة البشرية والموارد التنظيمية – أو القدرة على أن تسيطر بنفسها على الضفة الغربية.
“لا شك أن السلطة الفلسطينية هي العنوان الوحيد لنقل السيطرة وإعمار القطاع”، قال رئيس “أمان” (الاستخبارات) السابق تمير هايمن، رئيس معهد بحوث الأمن القومي حالياً، “السلطة هي العنوان لتحويل الأموال إلى غزة. ورغم فساد السلطة وضعفها فإنها بقيت القناة الوحيدة والعملية. بالنسبة لأبو مازن (الرئيس محمود عباس) فإن ترك غزة لحماس في 2007 كان فشلاً شخصياً هو الأكبر لفترة رئاسته. والآن ستعود له فرصة تاريخية من أجل قيادة المصالحة التاريخية للشعب الفلسطيني”.
حتى لو حدث ذلك، لن يكون هذا الانتقال تلقائياً؛ فهو بحاجة إلى مرحلة في الوسط، تكون مرتبطة بسؤال: هل ستكون هناك دولة عربية – من بين الدول التي لإسرائيل معها علاقات دبلوماسية – مستعدة للعب دور في ذلك. الأردن كما يبدو غير وارد في الحسبان بسبب الجزء الأكبر من الفلسطينيين من سكانه؛ ومصر ستحتاج إلى إرضاء الجبهة الداخلية اللوجستية في شبه جزيرة سيناء المحاذية للقطاع، والتي هي أصلاً لديها شك وكراهية عميقة للفلسطينيين، خصوصاً الغزيين الذين تعتبرهم القاهرة مؤيدين للإخوان المسلمين.
أفضل المرشحين في هذه الأثناء هم جنود من الإمارات والمغرب، دول بعيدة نسبياً ولديها جيوش مهنية. تكلفة الأمن وإعادة الإعمار التي يحتاجها قطاع غزة، ستكون من نصيب السعودية.
عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، إذا حدثت، ربما تُنفذ فقط كجزء من عملية سياسية واسعة تعرض على غزة وعلى الفلسطينيين أفقاً سياسياً أكثر أهمية من إعادة الزمن إلى 2007. ربما تطلب القيادة الفلسطينية ذلك، وستضطر إسرائيل إلى الاختيار بين سيطرة باهظة الثمن في غزة، بمفاهيم حياة الجنود، والعودة إلى العملية السياسية. هذا الأمر بعيد المنال وخيالي. الصدمة في الجانب الإسرائيلي من المذبحة في عيد نزول التوراة، لن تنسى بسرعة. وفي الثلاثين سنة الأخيرة لم يتم التوصل إلى تقدم حقيقي، هذا إذا كانت قد جرت محادثات بين الطرفين.
من أجل إنهاء الحرب الطويلة المتوقعة لإسرائيل في غزة، لا خيار إلا الانفتاح مجدداً على عملية سياسية تؤول إلى حل في نهايتها، حتى لو لم يكن غير كامل. يجب أن يشمل هذا الحل أيضاً إجابة مدنية للمشكلات الأساسية في قطاع غزة، الكيان الجغرافي المصطنع الذي وجد على أساس خطوط وقف إطلاق النار بين إسرائيل ومصر في نهاية حرب الاستقلال. في تلك الفترة، تمت مضاعفة عدد السكان المحليين بخمسة أضعاف عن طريق اللاجئين من منطقة الساحل، والآن يعتبر من المناطق الأكثر اكتظاظاً في العالم.
القدس أولاً
الدكتورة فاتنة بريك – زبيدات من جامعة تل أبيب، التي حققت في تاريخ التخطيط الحضري وتطوير القطاع منذ احتلاله في حرب الأيام الستة، قالت: “إذا لم يكن هناك حل سياسي عادل فسيستمر هذا الصراع. ولكن يمكن العمل في الفترة المؤقتة على اقتصاد غزة. ليس مثلما في السابق حيث اعتبرت مصدراً للقوة البشرية الرخيصة، بل إقامة مناطق اقتصادية هامة باستثمارات دولية. مشاريع مشتركة ومناطق صناعية تنتج قيمة اقتصادية محلية”.
مشكوك فيه إذا كانت أراضي القطاع كافية لمثل هذه المشاريع الاقتصادية، خصوصاً في السنوات القريبة القادمة التي يصعب فيها على المجموعتين السكانيتين العمل معاً، ومع وجود ذكريات الحرب التي بدأت بقتل 1400 إسرائيلي في غلاف غزة. على المدى البعيد، قد تظهر من جديد مشاريع طموحة مثل الجزر الصناعية التي اقترحها الوزير إسرائيل كاتس، والتي قد تستخدم، حسب هذا الحلم، كموانئ بحرية وجوية ومنشآت لتحلية مياه البحر وإنتاج الكهرباء.
من ناحية جغرافية يمكن توسيع مساحة القطاع أيضاً نحو الجنوب وإقامة مناطق في سيناء للعيش والصناعة والزراعة. الكثير من الخبراء يعتقدون أن مصر لن تتنازل عن أراضيها السيادية ذات يوم، والرئيس السيسي أعلن بأن بلاده لن تستوعب اللاجئين. ولكن إسحق عبادي، الذي كان الحاكم العسكري في غزة في السبعينيات، قال إن هذه الاحتمالية لن تكون مستبعدة نهائياً تحت الضغوط الدولية الصحيحة. وحسب قوله، فإن النظرة التاريخية لشبه جزيرة سيناء كمنطقة كانت تعتبر دائماً زائدة وغير مرغوب فيها، ستفتح مثل هذه الإمكانية. “مصر باعتبارها الدولة العربية الأكبر في الشرق الأوسط فقدت مكانتها في الربيع العربي”، قال عبادي. “أمامها فرصة لاعتبارها التي ستعيد ترميم الفلسطينيين في قطاع غزة”.
في كل المحادثات عن اليوم التالي، يبدو أن المهنيين، السياسيين والأمنيين، يشيرون إلى هذه النقطة. على المدى القصير والبعيد، الحكومة الحالية غير قادرة على اتخاذ قرارات تنطوي على التعاون مع أي جهة فلسطينية، سواء بسبب وجود اليمين المتطرف أو لاعتبارات سياسية أخرى لنتنياهو. ولتغيير الواقع في غزة، يجب تغيير الواقع السياسي في القدس أولاً.
انشيل بابر
هآرتس 30/10/2023