تشكيل العودة إلى الجنة

في معرض من معارض الرسوم أقف حائرا أول مرة أمام لوحات لا أعرف كيف أفككها، ثم فجأة تنزل عليّ المعاني فقيرة أول الأمر، ثم غنية فتزدحم على ذهني أرتبها أول الأمر غير أني أتركها تتداعي لكي أشفي منها الغليل. الفن هو الوحيد الذي يبدأ إمتاعا وينتهي هاجسا وفكرا مشتتا. الرسم التشكيلي الذي لا أفهمه في غالب الأحيان يستهويني جماله الغامض، ويجذبني كغانية جميلة دون أصبغة وبلا تطرية.
في السيميائيات البصرية تكون العين هي ما يدخلك إلى تفكيك المشهد وتوزيع عناصره وفق ما تقتضيه الصورة أو الإيقونة، وغالبا ما يقود الأمر إلى ضرب من الوصف التقني أو الفني للصورة، لكننا أحيانا في عالم الصور والرسوم لا نحتاج أن نسلم مساراتنا إلى قائد عالم بالتحليل وتفكيك شيفرة الصورة ، فمن الممكن أن نكون الزائر والقائد في الآن نفسه: نكتشف ونحلل ونفكك بأدواتنا البسيطة التي تقول لنا إننا إزاء مشهد فني.
أرى في اللوحات التي أمامي شيئا من فسحة النفس تخلقها فسحة الألوان، ليست كل الألوان بل ألوان بعينها هي واقعة على طيف الألوان بين الأصفر والأحمر وفق استرسالها الذي يذهب في اتجاهين برودا وخفوتا أو اتقادا واشتعالا. في هذه الألوان ضرب من التموج الذي يخلقه لا اللون نفسه، بل يخلقه لديك انطباع من الشكل إذ ترى فيه جذورا أفقية هائمة في السماء كأنها اجتثت منابتَها وتريد السفر والعروج عبر الأفق لكن إلى العلو الشاهق. الشجرة التي لم تنبت كالأشجار بجذور عادية تذهب إلى الأعماق، بل تذهب أفقيا في السطح هي التي تجعل بصرك يسافر علوا. الجذمور أو الريزوم Rhizome ليس جذرا، بل هو ساق تنبت أفقيا تحت الأرض ويستعملها النبت للتكاثر والزيادة؛ هذا الجذمور تجده أنت مرئيا فتريد إخفاءَه، أو لنقل إنك تراه وكأنه يكشف لك نفسه من خلال غلاف بلوري شفاف، ينكشف لك حتى تعرف أن في الأمر سرا: الشجرة لا تريد أن تتجذر بل تريد أن تسافر وتعلو. الإنسان – الشجرة ليس معنى جديدا لا في الفن ولا في الرسم إنما الجديد في الشجرة الجذمورية المتولد عنها كائن في هيئة امرأة لا تطلب الخصوبة بل السفر إلى المنابت الأولى.
في جينات المرأة أنواع من الشجر منها ما يغرسها ويجعلها أصل الأنساب، ومنها ما يقلعها بضرب من الحنين إلى إعادة تشكيل الخلق الأول: أن تعود إلى الجنة عبر الشجرة نفسها التي أخرجتها.. تعويض الجذر بالجذمور هو إعادة للتشكيل الجيني هدفه السيطرة على أصل التكوين: فحتى لا تبقى الشجرة في الجنان وتقصى المرأة؛ علينا أن نشكل جذورا جديدة تكاثرها أفقي تكون فيه سيقان الشجرة أجنحة تطير بأنثى حواء إلى جنتها الأولى. من الممكن أن ترتبط السماء بالأرض بواسطة شجرة، لكنه ربط لا يكون فيه الإنسان مطرودا من رفعة إلى دنو ومن سماء إلى أرض؛ بل الربط الجديد يكون مثلثا: بين المرأة الشجرة والسماء والأرض عودا وعلوا لا هبوطا ونزولا: إنه المكافأة بالفن ومن خلال رحلة للألوان جديدة. هل هو الحلم أم الكابوس؟

لا يمكن لامرأة تستعيد قصة العقاب الدينية أن تحيا بلا كابوس، ولا يمكن للمرأة نفسها التي تستعد لسَفَر العودة ألا تكون بلا حلم: إنه حلم وكابوس في أن يتوزعان على أرضية من الألوان ترتفع حتى تصبح سماء. وفي السماء صفرة فيها من نضج الثمرة شيء، وفي السماء غاشية أو غلاف يميل إلى الحمرة يحكي شيئا من تلهب النفس توقا إلى الرجوع الأبدي.

لا يمكن لامرأة تستعيد قصة العقاب الدينية أن تحيا بلا كابوس، ولا يمكن للمرأة نفسها التي تستعد لسَفَر العودة ألا تكون بلا حلم: إنه حلم وكابوس في أن يتوزعان على أرضية من الألوان ترتفع حتى تصبح سماء. وفي السماء صفرة فيها من نضج الثمرة شيء، وفي السماء غاشية أو غلاف يميل إلى الحمرة يحكي شيئا من تلهب النفس توقا إلى الرجوع الأبدي. من الثمار ما يكون فيه الأصفر والأحمر متلازمين أو متجاورين، لكن الصفرة هي الأكثر دلالة في ثمار الشجرة على النضج وليس في الحمرة دليل نضج بل دليل استواء واكتمال وجمال لا يريد أن يغادر هيأته. الحمرة هي البوابة الأولى لدخول اللون الأسود إلى الثمرات الجذمورية ، ليس السواد في بعض اللوحات الفنية التي أراها غير خلفية يبرز فيها بياض الأبيض في ثمرة الشجرة العمودي الصاعد بلا وعي، لا بالصعود ولا بالنزول في اللوحات شيء من الانسياب بلا ثورة وبلا ضجيج، هي رحلة صامتة إلى الأعالي تختلف عن معاريج المتصوفة الصاخبة بالعذابات والمصنوعة من المقامات، مقام فحال فمقام فحال حتى تستوي الأحوال والمقامات بالصاعد المتعالي إلى الفناء. امرأة اللوحة تقول لك لست قديسة حتى استعيد مكانتي العليا بالخروج عن بشريتي، أنا بالفن وبلا صخب غير صخب الألوان الساهمة التي يتغير لونها ضعفا، أريد أن استعيد إنسانيتي الأولى حين كنت في رحم الجنة. أنا في رحلتي الجديدة لا أحتاج رفيقا آدميا؛ كل ما أحتاجه في رحلتي هي ألواني التي تنفث الروح في العروج.
تتسلل الخضرة عبر تباشير البياض إلى الفروع، ومنها ما يعلق به سواد يطهره كي ، إذا ما احتاج لون بشرته، صار أخضر.. الأخضر صديق السواد والأخضر صديق البياض والأخضر لون انسيابي يفقد هويته تنازلا لسيدته الحياة. حين يلتهب الأحمر تعود الأشكال فيه إلى ضيائها، فاللهيب الذي يسكن المرأة المسافرة لا يرحل بها، بل هو أرضيتها التي تسري فيها أفكارها وروحها ؛ قراراتها وتراجعها الوقتي عن السفر. النزعة البشلاردية التي تسكن الأحمر بالذات في مثل هذه اللوحات تصرع رمزية النار التي رافقت الحياة ولونتها مع باشلار؛ من النار يصنع البحر وفي عمقه تنبت كيانات ليست هي طحالب الماء ولا أعشاب البحر الرخوية المراوغة، في عمق أحمر النار لا نجد تِنينا ولا بركانا ولا حياة؛ نحن نجد سباحة ضد التيار لكائنات لا ترى، بل تحدس؛ ليس لها عيون، بل لها سمع يستوعب جميع حواسها.. وأكثر النار التي نصطلي بها والنار التي تستعر فينا عند ثورتنا على ذواتنا ستنتهي في آخر الأمر بأن تأكلنا.. ونحن نحتاج أن نسافر إلى الذات العلوية لا بعد الموت بل قبله؛ قبل الحياة الأولى التي بدأت بمغادرة أرض الخلود.. تقتلك النار لتعاقبك بلظاها في قصص الجحيم.. وحتى تصرع النار عليك أن تجعل منها سائلا للحياة يذوب فيك قبل أن يذيبك.. ما أسرع أن تذوب النار حين تصبح بركانا.
في لوحات الفنانين بعض من ميثولوجيا أخرى غير بنات يُونان، ولا بنات فارس أو بلاد الرافدين.. ميثولوجيا لوحاتهم ليس أبطالها آلهة للجمال ولا للخمرة ولا وجود فيها لصراع قدري النهايات لا انتصار فيها للكيانات.. ميثولوجيات الفنانين تصنعها الأشكال التي تنبثق من الألوان في سحر نادر: الألوان الحبلى هي التي تولد من رحمها الأشكال التي لا نمط لها، نمطها الوحيد شجري الهيكل وجذموري المنبت وجناحي المآل.. ومن الشكل المولد من اللون تولد في الأثناء كيانات أسطورية صغيرة، منها ما يحمل جينات الأب /اللون، ومنه ما يحمل جينات الأم اللونية؛ والعجيب أن هذه الكيانات الأسطورية المولدة لا تنتسب إلى أصولها، بل تتشبث بفروع تطلب منها أن تطير إلى عوالم ليست لها في الأصل.
إن أردت أن تكون قارئا لرسوم تستغلق عليك بادئ الأمر؛ فعليك أن تخرج من كهوف النسيان.. افتح عينيك جيدا فالألوان تناديك، وعليك أن تتعلم السباحة في فضاء بحجم اللوحة يغرقك وينجدك وتظل بين غريق وناج إلى أن تعرف أن في الأمر قافلة ربانها امرأة وهيكلها شجرة وتعاويذها ألوان وهي مسافرة إلى أرض النشأة الأولى: أرض النسيان.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية