لم يصبه العرش

هذا كتاب يغريك بالقراءة مثل كل كتابات محمد غنيمة، الذي يبحث في الكتب والوثائق القديمة دائما ليقيم موضوعا بذاته. البحث هنا أيضا مشوق مثل عمل أدبي وليس غريبا عليه هو المغرم بالأدب، فلديك هنا نقطة الذروة، أو الصراع تصل دائما إلى قمتها ولو بالخيبات. الكتاب صادر هذا العام عن دار الرواق للنشر والتوزيع التي سبق ونشر فيها الكاتب «ذاكرة النخبة» وقبلها «عروش تتهاوي» عن النهايات الدرامية للأسرة العلوية.
هذا الكتاب يعد بمثابة جزء ثانٍ له عن النهايات لمن لم يتولوا الحكم من الأسرة العلوية ودسائس الأسرة العلوية لهم. كيف كان صراعهم من أجل الحكم، وكيف انتهى إلى العدم. يقول إنه لم يكن في مخيلته أن يكتب جزءا ثانيا لكتابه الأول، لكن سيطرت الفكرة على كيانه وصارت مثل حلم فعل به ما يفعل السحر بصاحبه، فكتب الكتاب. حديثه كما قلت يعكس إلى جوار التدقيق التاريخي سحر اللغة الأدبية. هنا يقدم من لم يستطع الوصول إلى الحكم، ويتساءل هل كان سيتغير شيء. يترك الإجابة لنا. في كل الأحوال لم يكن قدر مصر من رجالها فقط، بل تكالبت عليها الدول الخارجية من الخلافة العثمانية إلى الاحتلال البريطاني.
يبدأ الكتاب بفصل عن الأمير أحمد طوسون الشهير بطوسون باشا.. هو من أبناء محمد علي جاء بصحبة أخيه إبراهيم إلى مصر عام 1805 بعد تولي أبيهما محمد علي حكم الولاية المصرية. كان عمره وقتها اثني عشر عاما. نصّبه محمد علي عام 1811 قائدا للجيوش الذاهبة من مصر لمحاربة الحركة الوهابية، ومنحه رتبة الباشوية. كان موعد الاحتفال بتحرك الحملة المصرية في اليوم الذي وقعت فيه مذبحة المماليك في القلعة في بداية مارس/مارس 1811. تصوير ما جرى في القلعة من احتفال بحضور المماليك، وكيف أمطرت فجأة السماء عليهم وابلا من الرصاص وانهمرت دماؤهم كشلال متدفق. كان يتم ترتيب الحفل لخروج أحمد طوسون إلى الحجاز لمعاقبة الوهابيين وهو ذو السبعة عشر عاما، ولم يكن يعلم أنه ظِلُّ لمكيدة للماليك الذين تزينوا بأبهي حللهم وثياباهم واصطحبوا معهم معظم جنودهم للاحتفال في القلعة، فاستقبلوا أحسن استقبال بالطعام والرقص والمغنين، ثم وقعت الواقعة. وصف للمذبحة بكل تفاصيلها، ثم رحلة إلى الحجاز مع عمر طوسون وما أنجزه من انتصارت وما لاقاه من هزائم وكيف دخل المدينة ومكة، وأرسل مفاتيحهما لوالده الذي أرسلها بدوره إلى الخليفة العثماني واحتفال الخليفة العثماني بذلك. عاد إلى مصر ولم يعش إلا قليلا. اختلفت الروايات في موته بين من قال أنه عاشر جارية يونانية كانت مصابة بالطاعون، ومن قال إنه أصيب بالطاعون قبل عودته. تم إخفاء خبر موته عن ابيه محمد علي حتى عرف وانهار فصار يهيل التراب على رأسه أثناء الجنازة وسقط على الأرض مغشيا عليه.
الثاني من العائلة التي يتناوله الكتاب هو إسماعيل كامل باشا، وهو الابن الثالث لمحمد علي، أرسله والده على رأس حملة إلى السودان عام 1820 من أجل الذهب والعبيد الذين سيجندونهم في الجيش الجديد المزمع قيامه في مصر قبل أن يدخله المصريون. معاركه في «الشايقية» المملكة السودانية الصغيرة في شمال السودان وغيرها. حال السودان وممالكه والمعارك بينها. كانت حملة إسماعيل باشا فيها بعض المستشرقين الأوروبيين محبي المغامرة والترحال، وليسوا مثلا كعلماء الحملة الفرنسية، وكان جيشه غالبيته من الأرناؤوط وبعض القبائل البدوية المؤيدة لمحمد علي. تفاصيل الرحلة والمعارك وانتصاراته وهزائمه ومن حاربه حتى من نساء السودان. المعارك في مدن بربر وسنار وشندي وأفعال إسماعيل البشعة من قطع الأعضاء التناسلية للأسرى وآذانهم، وقطع أثداء النساء. والخدعة التي انتهت بموت إسماعيل باشا محروقا في «شندي» في معركة مع أهلها. نأتي إلى إبراهيم إلهامي، وهو ابن عباس حلمي الأول. كان الأبن الأكبر له، درس الفنون العسكرية، وفي عام 1826 توجه إلى الأستانة وقابل السطان عبد المجيد فأحبه وزوجه ابنته الأميرة منيرة وأعطاه لقب «الدامادا» أي نسيبه. كان والده عباس حلمي الأول يطمح إلى أن يوليه بعده. تم قتل أبيه بينما هو في أوروبا، لكن استطاع سعيد باشا أن يتولى الحكم لا هو. المؤامرات التي جرت من أجل ذلك.

ويأتي آخر من لم يصبهم العرش وهو الأمير محمد علي توفيق.. درس الفنون العسكرية في النمسا في أوروبا وعاد إلى مصر بعد وفاة والده الخديوي توفيق عام 1892. أصبح وليا للعهد بعد أن تولى شقيقه عباس حلمي الثاني الحكم. لم يتولَ الحكم بعده لكن تولاه الملك أحمد فؤاد.

مات بعد ذلك إلهامي باشا غريقا في «أسكدار» في التاسع من سبتمبر/أيلول 1860. أما الكابوس كما يصفه محمد غنيمة فيأتي حديثه عن أحمد رفعت باشا أكبر أبناء إبراهيم باشا، الذي كان ضمن أول بعثة للمدرسة الحربية إلى باريس، وعينه الوالي سعيد باشا ناظرا للداخلية عام 1857، كان من المفترض ان يحكم مصر بعد سعيد باشا لكنه توفي أثر حادثة قطار في كفر الزيات. كان الكابوس يأتي لأحمد رفعت باشا فجأة، فيصحو فزعا صارخا ويهدئه خادمه. يقول لخادمه «رأيت البارحة في نومي وكأنني وإياك على شرفة منزلنا هذا، وقد أرسل إلينا سعيد باشا مماليكه من العبيد السود، وما إن وقع بصرهم علينا حتى هجموا عليّ هجمة الأسود الضواري، وأخذوا جميعا بيديّ ورجليّ وألقوا بي في تيار النيل، فقمت مذعورا وتعوذت بالله ونمت ثانيا» وبالفعل يموت في حادثة قطار يعبر النيل في منطقة كفر الزيات عائدا من الإسكندرية للقاهرة. تفاصيل سقوط القطار في النيل بمن فيه وهو بينهم، وكيف قيل إن الحادثة مدبرة من سعيد باشا كي لا يتولى أمر البلاد بعده. صارت مصر خديوية بعد فرمان الباب العالي عام 1860 يكون فيها الحكم بالوراثة لأولاد الحاكم الذكور، وليس أكبر الأمراء سنا. هنا نأتي إلى البرنس حليم أو محمد عبد الحليم أحد أبناء محمد علي باشا الذي ضاعت فرصته، فهو ليس ابن الخديوي إسماعيل ليرثه، ولا الخديوي توفيق، لكن الحكم كان يراوده وفعل الكثير من أجل ذلك، منها تأييده للثورة العرابية التي فشلت، فابتعد البرنس حليم عن مصر وعاش في الأستانة حتى مات.
ويأتي آخر من لم يصبهم العرش وهو الأمير محمد علي توفيق.. درس الفنون العسكرية في النمسا في أوروبا وعاد إلى مصر بعد وفاة والده الخديوي توفيق عام 1892. أصبح وليا للعهد بعد أن تولى شقيقه عباس حلمي الثاني الحكم. لم يتولَ الحكم بعده لكن تولاه الملك أحمد فؤاد. وبعد أن تولي فؤاد الحكم وجاء بعده ابنه فاروق صار وليا للعرش مرة ثانية. طمع في الحكم لصغر سن فاروق لكن فتوى من الأزهر جعلت عمر فاروق مناسبا بعد حسابه بالتقويم الهجري لا الميلادي، فظل هو وليا للعرش. مرتان يتولى ولاية العرش ولم يصل إليه. في المرة الثانية قامت ثورة يوليو/تموز وانتهي النظام الملكي. لا يزال قصره الرائع في منطقة المنيل في جزيرة الروضة مزارا رائعا بطرازه المعماري وقاعاته، وله كتب رائعة عن سفره وحياته والخيول العربية. لكنا نقف عند شخصية رائعة بينهم كان معاكسا لهم جميعا، فلم يحلم بتولي العرش، وهو صاحب السمو السلطاني كمال الدين حسين ابن السلطان حسين كامل. كان له نشاط كشفي عظيم في مصر ورحلات في العالم خلال حياته. رفض كل محاولات أبيه أن يتولي الحكم بعده حتى توفي عام 1932. المدهش بعد وفاته كيف أدعت سيدة فرنسية أنه تزوجها سرا وأنجب منها طفلا. رفعت القضايا لترثه في مصر، ونشرت رسائل حب جميلة منه لها لتدلل على صحة كلامها، منها رسالة يقول فيها « أيتها الحلم.. ما أتعسني بعيدا عنك. القصر الذي أعيش فيه أشد وحشة من كوخ صغير. المجد الذي حولي هو ذُلّ وهوان دونك. أنني أكره كل شيء حولي، لأنني لا أحب إلا سواكِ. إن والدي السلطان حسين كامل عرض عليّ اليوم أن أكون وليّ عهده. أي سخافة هذه…» إلى آخر الرسالة الجميلة. لكن من يستطيع التخلي عن إغراءات العروش في بلادنا. الكتاب رحلة علمية وتاريخية وأدبية ممتعة جدير بالقراءة حافل بغرائب الحكم والحكام.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية