لم أستطع القراءة ولا الكتابة نوعاً ما… في أيام معركة طوفان الأقصى، والعدوان الصهيوني الغاشم على غزة وباقي المدن والمخيمات الفلسطينية، كنتُ أحاول مراراً أن أتسلق النص أو المقال لأكتبه، وأقف حائراً أمام نفسي، وأسأل ما يسأله الناس دائماً: ماذا بوسعي أن أفعل؟ كيف أقف مع المقاومة الباسلة في فلسطين ولبنان؟ هل الكتابة تسقط طائرة؟ هل الكتابة تعيد بناء البيوت التي قصفتها الطائرات؟ هل الكتابة هي الدواء الذي نفد من المستشفيات؟ وماذا تفعل الكتابة للضحايا/ الشهداء؟ ولا أكفُّ عن الأسئلة التي تدور في نفسي، كلما دخلتُ إلى غرفة الكتابة، بعد نشرة الأخبار المسائية/ الدموية، بعدما أصبحت حياتنا هي حالة دم وتضحيات، وأخجل حين أقترب من الورقة والقلم، من الأمهات اللواتي يقدمن فلذات أكبادهنّ أمام مرأى ومسمع العالم الصامت بصمت التمثال الفاجر، فأكتفي بعنوانٍ واحدٍ: « سأرمي القصيدةُ في سلة المهملات» ولا أستطيع أن أكملها، لأنّ عدد الشهداء لا يتسع أن تحتويه في الكلمات قصيدة، كلما قلتُ: ستة آلاف شهيد، ثمّ ألتفت لأنظر ثانيةً إلى التلفزيون من الجهة الثانية، يظهر الرقم سبعة آلاف شهيد، وأنا هنا لا أضيء على الرقم والعدد، أنا أقصد معنى المجزرة، لأنّ الشهداء بالنسبة لنا هم حكاية وسيرة وتجربة وملحمة، وليس رقماً ويمضي مع الأرقام التي تسبقه، هم قدسية القدس، وهم فلسطينية فلسطين، وأكبر من الكلام وأطول من المدائح، هم صورة الأرض الحقيقية التي لا تستطيع همجية المحتل وآلة قتله، وآلة محوه بتزييف روايتها، ولا أحد من هذا العالم الأخرس يفهم كيف استشهدوا هؤلاء حبّاً بالأرض؟ « هالقد الوطن غالي؟» كيف يقف الأب/ الأسطورة ويقول: «كل أولادي فدا فلسطين» وتقف الأم/ الملحمة وتقول: «فدا المقاومة» ويقف الإعلامي بعد استشهاد عائلته بالكامل ويقول: «معلش» هذه البطولة الأسطورية لا توجد إلا في فلسطين، « وسأرمي القصيدة في سلّة المهملات» ليس لأنّها ارتبكت أمام المجزرة، وليس لأنّها وقعت في خللٍ بالوزن والقافية، وليس لأنّها ضاقت بي، بل لأنّها لم تعد تتسع لآلاف الشهداء في أيّامٍ معدودةٍ، ولم تستطع أن تصرخ هذه القصيدة: كفى.
ولا أستطيع العودة للقراءة، فعن ماذا أقرأ ولمن في هذا التحوّل الكبير في مسار الصراع؟ ما قبل الطوفان ليس كما بعده، فكل ما كُتبَ قبل الطوفان هو تجربة ناقصة، الطوفان في رأيي أسس لأدب جديد، لرواية تقاوم روايات العدو الصهيوني المزيفة، لقصيدة تصرخ بين الركام والضحايا، وتحمل الملحمة الفلسطينية على أكتاف النشيد، والقصة تكتب سيرة الشهداء شهيداً شهيداً، حتى يكتمل المشهد بسردية الطوفان المبارك، وما زلتُ مصاباً بقصفٍ دماغيٍّ لا خروج منهُ بسهولة النسيان، «يجب ألا يصبح المشهد مألوفاً» يجب أن نكون في المعركة، يجب أن نصرخ ما نستطيع من صراخ حين يتجدد القصف، ويجب أن نصاب بالشموخ حين يُطلق الصاروخ، «يجب ألا يصبح المشهد مألوفاً» يجب ألا يمروا.. لا في غزة ولا في روايتهم المزيفة، ولا في إعلامهم المحتل، مما يدفعُني للكتابة أكثر، يدفعُني إلى التفكير وطرح الأسئلة العكسية: «لماذا أرمي القصيدة في سلّة المهملات؟» ما دمت لا أستطيع الصراخ من النافذة، فأصرخ بها، ثمّ بعد ذلك أرميها في سلّة المهملات، وبعد أن أخرج من هستيريا القصف الجنوني، أعيد قراءة ما كتبت في لحظة الصراخ الدموية، من نحن وسط هذه المذبحة الكبرى؟ هل نحن أحياء أم شهداء؟ يتكرر المشهد في كلّ جولة حربٍ جديدة، لكنّ هذا المشهد يختلف عن باقي المشاهد، هذا المشهد يأخذ شكل الطوفان، طوفان حقيقي وستكون له نتائج مشرفة في تاريخ صراعنا مع العدو الذي انكسرت هيبته، وأصبح ضوء القمر يقترب من بعيد، من ضواحي عسقلان التي سوف تزفّ الفجر المحمول على شارة النصر المقبلة، هذا القمر بدأ يراه كل فلسطيني يعيش خارج فلسطين، يراهُ من بعيد، ويسأل: هل حقاً سنعود؟ أتذكر يوم صحوت من غفوة بعد الظهر، وأنا أسأل زوجتي: لماذا لا نذهب إلى غزة؟ قالت هل أنت تهذي؟ قلت: لا. قالت: كيف تذهب إلى غزة في هذا الوضع وكيف؟ قلتُ لها: من معبر رفح، ضحكت وقالت: العدو الصهيوني يشرف هناك على كل شيء، خصوصاً أنّنا من فلسطينية الـ48 ولسنا من الـ67، وهذا قد يكون مشكلة كبيرة للعبور، عدا عن أنّ هناك حربا، هل تريد أن تُقصف؟ قلتُ لها ألسنا فلسطينيين فعلينا أن نكون تحت النار دائماً، أينما كنّا، لأنّ الحرب هي حرب وجود بدرجة الأولى، يقول محمود درويش: باقون هنا/ قاعدون هنا/ ساجدون هنا/ ولنا هدفٌ واحدٌ هو أن نكون.
أعيد قراءة المشهد من جديد، فأغرق بدم الأبرياء، أغرق في المجزرة، وبين المجزرة والمجزرة تكاد لا تمرُّ ساعة واحدة، هي إبادة شعب كامل، سأكتفي بصرختي الضائعة بين الأخبار الدموية، صرختي التي لا يسمعها أحد سوى نبض القلب، مع ايماني بأنّ الصرخات هي التي تخرج من حناجر المقاومين في الميدان، وليست صرختي المخنوقة على ورقٍ مبللٍ بالدمعِ والكلمات المنثورة في ليلٍ دمويٍّ شريد.
شاعر فلسطيني