الرواية بوجهين متناظرين

عرفت ملاحم العالم القديم اللاواقعية كقاعدة حكائية، عليها قامت محاكاة الواقع شعريا، بدءا من ملحمة جلجامش التي فيها اللاواقعية واللاعقلانية سمات جوهرية في التعبير عن الوجود الواقعي؛ فكان الثور يطير والباب يتكلم والوحش يحرس والآلهة تنتقم، وغير ذلك من التصورات التي بها عبّر الإنسان عن واقعه. وعلى غرار هذه الملحمة تشكلت الملاحم الإغريقية والرومانية والمسرحيات التراجيدية اليونانية، ومن ثم المرويات الحكائية والقصصية.
وقد سار السرد الأوروبي في عصر النهضة على تقاليد (اللاواقعية) إلى أن اهتدى القصاصون الأوروبيون إلى قالب الرواية. وما كان لهم أن يهتدوا إلا لأنهم استوعبوا التقاليد التي انتقلت إليهم وساروا عليها فأدركوا إمكانية تطويعها للعصر الحديث بكل ما فيها من «الخيالية» التي هي لب المجازية التي عرفها الأدب العربي القديم، وكانت البلاغة العربية تتمثلها كثيمات وتزويقات تشكلها بامتداد واكتمال.
بيد أن ما عهدته الرواية إلى نفسها من التعبير الواقعي عن الحضارة القاسية والصور الشيطانية للرأسمالية وانحدارها اللاأخلاقي، هو الذي أضاع (اللاواقعية) فضلا عما انشغل به منظرو الرواية في النصف الأول من القرن العشرين من ناحية تحديد مواصفات هذا الجنس، فبنى فورستر تصوراته الخاصة ومنها، إشارته إلى النمط/ الإيقاع، وميز أدوين موير بين أنواع من الرواية واهتم جورج لوكاش بالتنظير للرواية الواقعية. وبهذا الشكل تخلخل المرتكز الذي عليه قامت تقاليد السرد الروائي، ولم يعد هؤلاء المنظرون يهتمون بتتبع ما حملته الذاكرة الجمعية من تقاليد سردية، وحجتهم هي الحداثة والتماشي مع التقدم العلمي. وما أن رأى روائيو القرن العشرين أن ما يطور الرواية الحديثة هو واقعيتها، حتى جافوا المرتكز الذي هو أس الأسس في بناء الموضوع والتجريب فيه، وانزاحوا عن الأصول نحو ما هو معقول واحتمالي، حتى غدت لغتهم مشدودة إلى الواقع وما يتعرض إليه الكيان الاجتماعي من انهيار. فدخلت الرواية في نفق ضيق لم يخرجها منه التجريب الشكلي، بل هو أوقعها في مزالق أظهرت لها وجها واحدا لغةً وتصويراً، فبدت مهووسة بالتغريب والتجريب والميتاسرد والأسطرة والترميز والتناص والسينمة والتشكيل كتقاليد حديثة لجنس بدا كأنه يحتضر أو يتلاشى.
وما كان للرواية أن تقع في أزمة التعبير عن الواقع، إلا لأنها خالفت سابقتها الرواية الكلاسيكية، التي عبرت عن نفسها بوجهين متناظرين مستبدلة الواقع باللغة، كوسيلة مؤكدة في استكشاف ما في هذا الواقع من إشكاليات وإمكانيات. وحاول بعض كتّاب الغرب تجاوز الأزمة، لعلمهم أن الرواية ما كان لها أن تكون جنسا لولا استنادها إلى المرتكز اللاواقعي، وتدرّجها في الخضوع لتقاليد السرد القديم، فكانت (قصة) ثم (رومان) إلى أن اهتدت إلى قالبها وبه تجنّست وهو (الرواية novel)؛ فتعامل بعض منهم مع الواقع تعاملا نفسيا معتمدين على تصوير الشعور والتكثيف الزمني بمونولوجات داخلية ومناجاة شخصية، تكتب سطورها بحروف كبيرة كما في روايات فرجينيا وولف ودورثي ريتشاردسون وجيمس جويس ومارلو ووليم فوكنر. وتعامل كتّاب آخرون مع الواقع تعاملا لفظيا نافرين من الواقعية وعائدين إلى الأصل، معتبرين الرواية عملا لفظيا verbal كزخارف وأصوات ورموز وكلمات وبموضوعات رمزية، فيها أحداث لا عقلانية وأبطال غير طبيعيين، كما في روايات نابوكوف وبيكيت وروايات أمريكا اللاتينية.
على الرغم من تطور السرد كموضوعات وأشكال، فإن اللاواقعية ظلت هي المرتكز الذي عليه قامت محاكاة الواقع، وانبنت على هذا المرتكز تقاليد أخرى هي أساسية في عملية القص وهي حصيلة أرث سردي تناقلته الأجيال، كذخيرة إبداعية محمولة في تلافيف الذاكرة، وفيه أَودَعت البشرية كل مراحلها الحضارية وأطوار وعيها بها. وليس التقليد كالموضوع، ومثلما أن الواقعية ليست مجرد مذهب أو فلسفة، فكذلك اللاواقعية أوسع من أن تكون موضوعا غرائبيا أو رومانسيا أو فنتازيا، لأن في هذه الموضوعات يغدو الواقع هو الغاية من وراء كل ما يتم توهمه أو الإيهام بواقعيته، في حين تضع اللاواقعية الواقع نفسه على المحك فيكون التخييل هو الغاية، بوصفه محفزا على إدراك الحقيقة. وكان نيتشه السباق في النفور من الواقع، وهو القائل: (لا يجوز لنا أن نخدع أنفسنا مثلما لا يجوز لنا أن نلتقي بالحقيقة بصورة عابرة.. كنت على تناقض مع بيئتي وشبابي ومنشئي ولم أكن إلا على علاقة هشة مع النماذج التي كانت أمام ناظري).

وما كان للرواية أن تقع في أزمة التعبير عن الواقع، إلا لأنها خالفت سابقتها الرواية الكلاسيكية، التي عبرت عن نفسها بوجهين متناظرين مستبدلة الواقع باللغة، كوسيلة مؤكدة في استكشاف ما في هذا الواقع من إشكاليات وإمكانيات.

وإذ تفسر نظريات التحليل النفسي الوهم، فإن نظريات المعرفة تفسر اللامعقول، الذي فيه يتجلى استيعاب الإرث السردي للعصور الغابرة وكذلك الوسطى.
وقد عُدَّ هذا التفاوت في التعبير عن الواقعية نوعا من التجريب في الأشكال والتقانات، أو انضواء في مذاهب جديدة كالرمزية والواقعية الجديدة والواقعية السحرية، بيد أن حقيقة التفاوت بين هؤلاء الروائيين يعود إلى وعيهم الذي هداهم إلى أن حل الأزمة يكمن في تمثّل اللاواقعية، وكلٌ حسب قدراته في تعميق الموضوع بشكل لا عقلاني، وتنويع الشكل الفني واستثمار ذلك كله في التعبير عن الحياة والإنسان. بمعنى أن الروائي ما أن وعى حقيقة أن اللاواقعية هي الأساس، حتى سعى إلى التحرر من جبروت الموروث والسائد، وانطلق يبحث عن آفاق جديدة لرؤى مطمورة لا يشف عنها شكل ولا تقنية، وإنما يكشف عنها السحر والخرافة والتاريخ والأسطورة، مستعيدا التراث السردي القديم، ومقابلا ذلك كله بأرض الواقع بطريقة تشكيكية ساخرة أو مستبدة أو لا أبالية. والأداة هي اللغة التي بها يتحول اللاشيء إلى شيء والتاريخ إلى كابوس والأسطورة إلى واقعة.
وبسبب هذا التوجه ما بعد الحداثي، وجدت الرواية مخرجا لها من أزمتها فعادت لها أهميتها كجنس عصري قوي في قواعده وصلب في أساساته حتى إن من الصعب التفكير في اضمحلاله أو تلاشيه. وغدت (الواقعية) أكثر من كونها مذهبا أدبيا أو مدرسة فلسفية، بل هي موضوع إنساني، وله في الرواية وجهان متناظران في آن واحد، أحدهما واقعي عقلاني والآخر لا واقعي وغير معقول. وهذان الوجهان كان قد تمثلهما كتّاب روائيون وبعضهم فلاسفة في وقت كانت الواقعية هي الخط السائد والعام، لا في السرد حسب، بل في الفلسفة أيضا.
وتناقض هذين الوجهين وازدواجهما يجعلان الرواية عبارة عن مفارقة فهي تتلقف الواقع وتتعامل معه عكسيا وبوضوح تام من ناحية المحتوى اللاعقلاني، ومن ناحية الأشكال الفنية. والهدف هو الحقيقة التي لا مجال للعثور عليها من خلال محاكاة الواقع، وإنما هي الفوضى والتفارق والتناقض الذي به تغدو للأحداث السردية الخيالية أبعاد مرعبة أو مأساوية لكنها تجري وفق تسلسل فني منطقي.
إن هذا التنازع في كتابة الرواية ما بين مجافاة التقاليد السردية القديمة للاواقعية، وتعمد وضع تقاليد واقعية حديثة هو الذي جعل الرواية جنسا ذا وجهين متناظرين. وما تفاوت نزعات الكتّاب في تجسيد الواقع روائيا إلا دليل دامغ على أن اللاواقعية مرتكز سردي لا يمكن تجاهله أو تجاوزه.
واليوم تبدو الرواية صورة كلية بوجهين متناقضين، أحداثا وشخصيات وزمانا ومكانا، وليس في هذا رمزية، بل هو وضوح الرؤية من جهة الكاتب في أهمية استعادة ما اضمحل من التقاليد وإدراك أن ما يجري في الواقع هو غير عقلاني، ومن جهة القارئ في أن ما يقرأه يحتاج منه تفسيرا وتأويلا، فغاية الروائي ليست تسليته أو إقناعه بقدر ما هي توضيح الإيهام وكشفه له بقصد تحديه. والفرق كبير بين اقتناع يأتي عن إيهام واقتناع يأتي عن توضيح، فالأول يظهر الواقع للقارئ بوجه واحد غامض وإيحائي فلا تضاد أو تناقض بينما الثاني يحفز القارئ على إيجاد مبررات أو تفسيرات للأسباب التي حملت الروائي على التضاد ما بين قيامه بالإيهام وتوضيحه هذا الإيهام وعندها يكون الواقع مثل الرواية بوجهين يراد إدراكهما والتعلم منهما. وفي هذا دلالة على أن العملية السردية غايتها ليست جمالية تتحدد في الشكل حسب، بل هي في المراهنة على الموضوع أيضا.
وعادة ما تكون استجابة القارئ فعالة للرواية التي تتخذ من اللاواقعية تقليدا به تربط بين الواقع والفن، فتُظهر له الواقع متضادا ومعتادا معا، وتكون الأفعال غير مألوفة وبأنماط شكلية يفرضها الموضوع. ولا خلاف في أن أي تجريب ناجع في موضوع ما قد يسفر عن انبثاق في طرائق تمثيل الواقع. وليست المونولوجات والتهيؤات والصور السينمائية والتكثيفات الرمزية سوى توابع لتجارب موضوعية تم التعبير عنها مجازياً بشكل غير مألوف. من هنا كانت البلاغة فن الفنون وأعلى درجات الامتياز الإبداعي قديما وحديثا. وهو ما يحاول المنظرون الأنكلوأمريكيون اليوم البحث فيه وتتبعه في روايات كلاسيكية، قدمت الواقع بلغة مجازية.

كاتبة عراقية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية