أدونيس وغزّة والجهلة أمثالنا

في أكثر من مناسبة دُعيَ أدونيس للحديث فيها (باعتباره مفكرا!) دائما ما وجَّه نقده للعرب والمسلمين، متهما إياهم بالعنف والتطرف، معتبرا ذلك، وحسب قوله «تأكيد على ارتباط العنف بثقافتهم وعقيدتهم». لكنه التزم سكوتا مطبقا، طيلة الأيام الماضية، رغم كارثية ما يجري، ولم نقرا له، ولو جملة واحدة، يدين بها قتل المدنيين، والعنف الصهيوني/الغربي على غزة. فما الذي دفعه إلى اتخاذ هذا الموقف؟ هل لأن لعابه ما يزال يسيل طمعا بالفوز بجائزة نوبل في يوم ما، فيخشى أن تصدر عنه كلمة دونما قصد، لربما تخدش مشاعر المؤسسات الغربية، فتقطع عنه أي أمل باقتناصها؟ أم أن سكوته يضمر تأييدا مُبطَّنا لعملية الإبادة بحق الفلسطينيين، وإقرارا بصحة وجهة نظره، بأن العنف والتطرف يتحمل مسؤوليته الفلسطينون (العرب) باعتباره مرتبطا بثقافتهم وعقيدتهم؟
هناك العديد من المثقفين والفنانين الأمريكيين والغربيين الذين أعلنوا موقفهم الواضح، بإدانة ما يرتكبه جيش الاحتلال، والدعم الذي تقدمه حكومات بلدانهم للكيان الغاصب، غير عابئين بما سيترتب عن موقفهم من خسائر مادية، نتيجة عمليات المقاطعة التي ستفرضها عليهم وعلى أعمالهم الشركات الفنية والإعلامية والمؤسسات الإنتاجية ودور النشر، بحكم هيمنة اللوبي الصهيوني عليها. هنا تتضح ازدواجية المعايير لدى (مفكر) مثل أدونيس، عندما يتعمد أن يكيل بمكيالين، مشيا على نهج المؤسسات الثقافية الغربية. ننتظر الأعذار والتبريرات لهذا الموقف، الذي سيتحفنا بها المتعصبون لأدونيس، لعلهم يكشفون لنا، تخلفنا الفكري في عدم قدرتنا على رؤية ما يراه في هذه المذبحة، ويثبتون لنا؛ أنه مفكر من طراز خاص، وأن غموض موقفه الفكري (على الأقل بالنسبة لنا نحن الجهلة) ينسجم مع الغموض العبقري في شعره، وينبغي النظر إلى موقفه باعتباره حالة خاصة، وليس من الجائز مقارنته بآخرين مثل تشومسكي أو نعومي كلاين على سبيل المثال، ولهذا يستحق أن ينال جائزة نوبل.
أدونيس غارق في أوهامه عندما يتصور أن جائزة نوبل ستضعه في مكانة عالية ترفع حاجزا سميكا، بينه وبين من يفكر في تفكيك أوهامه الشخصية حول نفسه، وتخيلاته المريضة عن الثقافة العربية.

أدونيس غارق في أوهامه عندما يتصور أن جائزة نوبل ستضعه في مكانة عالية ترفع حاجزا سميكا، بينه وبين من يفكر في تفكيك أوهامه الشخصية حول نفسه، وتخيلاته المريضة عن الثقافة العربية.

وإذا ما ذهب به خياله بعيدا ورأى أن سكوته عن المذبحة في غزة، سيُكافأ عليه مثلما كوفئ على سكوته عندما وقف مع نظام بشار في سوريا، رغم الملايين التي تسبب في تشريدها، وآلاف المدنيين الذين قتلهم، فإنه بذلك سيحرق نفسه بنفسه، لأن المعركة في غزة رغم كارثيتها، إلاَّ أنها قطعت الشعرة التي كانت تفصل بين الحقيقة والأكاذيب، بين المجرم والضحية، بين الغاصب والمُغتَصَب، بين الذين يتاجرون بشعارات الحرية وحقوق الإنسان، والذين يدافعون عنها بدمائهم، بين المثقف التنويري والمثقف التبريري، بين المثقف المُفكِّر والمثقف المُكفِّر.
اللحظات الحرجة التي تمر بها الشعوب عندما يصبح وجودها على المحك، بين أن تكون حرَّة كريمة، أو تكون خاضعة ذليلة مهانة للمستعمر، غالبا ما تتسع الرؤيا لديها، رغم العتمة الكثيفة التي تحيط بها من كل الجهات، فترى كل شيء بوضوح، وتطرح على نفسها أسئلة جديدة وأخرى كانت تخشى أن تطرحها. فالكوارث مثل الحروب، رغم أنها باهظة التكلفة من حيث الأرواح التي تدفنها تحت الأنقاض، إلا أنها تدفع المجتمعات إلى أن تعيد حساباتها حول قدراتها وعناصر ضعفها وقوتها، وفي المقدمة منها نخبها ومثقفوها، فما من أحد منهم سيبقى في المكانة التي كان عليها إذا ما اختار أن ينأى بنفسه عن محنتها. ها هي الدول والأنظمة الممثلة للحضارة الغربية التي كانت معيار أدونيس في نظرته إلى الثقافة العربية والإسلامية، تحرِقُ بنار العنصرية والتطرف والعنف، كل القوانين التي شرعنتها لتقديس الحرية وحق الإنسان في الدفاع عن أرضه، وحماية المدنيين والمستشفيات في الحروب، فهل يستطيع صديقهم أدونيس أن يجلس ويضع ساقا على ساق، ثم يخاطبهم بهدوء المفكر بأن يتوقفوا عن ذلك؟ ولأنه يعلم جيدا إذا ما تجرأ على ذلك، فإن اللعنة ستحل عليه وعلى فكره وشعره وتاريخه، فلن نتوقع منه أن يفعل. هذا ما تسعفنا به مواقفه التي تغيرت حسب الظروف والقوى السياسية التي كانت حكمت الواقع العربي، فبعد أن كان مؤيدا لأنطوان سعادة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، انتقل إلى عبد الناصر ثم الخميني ثم بشار، لكنه في كل تنقلاته كان ماهرا، مثل أي راقص محترف على الحبال، يعرف كيف يتفادى السقوط الذي يمكن أن يحطمه. فهل رقصته الصامتة على إيقاع المذبحة في غزة ستطُوى فيها صفحته الأخيرة؟ ماذا ينتظر أن يكون عدد الضحايا المدنيين في غزَّة حتى يُبصر ما تعمَّدَ أن لا يراه في سوريا الأسد؟ إن فنون المراوغة والتضليل منهج ميكافيلي ملاصق للساسة، لكنها أبعد ما تكون عن الذين يشتغلون في ميادين الفلسفة والفكر والفنون، وإذا ما انجرف إليها واحد منهم، عليه أن يتوقع نهاية دراماتيكية لمسيرته، هي أسوأ مما يلقاه إي سياسي فاسد، ولن تجديه نفعا عبقريته ونبوغه وموهبته الاستثنائية، هكذا كان الحال مع الشاعر عزرا باوند وآخرين مثله، عندما ارتضوا التغاضي عن جرائم النازية والفاشية.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية