هزيمة مزدوجة

في أي حرب تراعى فيها أبسط الأخلاقيات والقوانين المرعية، تكون المستشفيات بعيدة عن أي قتال، لكن جيش الاحتلال في حربه الهمجية الدائرة، يحارب المستشفيات كأنها قلاع مسلحة، ويعتبر اقتحامه الوحشي لمباني مجمع «الشفاء» انتصارا حربيا عظيما، ويفخر بإطلاق الرصاص على المرضى والرضع والأطباء والنازحين المحتمين بحيطان أكبر مستشفيات مدينة غزة، وعمره أطول من عمر كيان الاحتلال نفسه، فقد أقيم «مجمع الشفاء» عام 1946، أي في ظل الانتداب والاحتلال البريطاني، الذي سلم فلسطين لعصابات الإرهاب والقتل الصهيوني.
وربما لا يكون من وجه للعجب ولا للتعجب، لا من سلوك جيش الاحتلال البربري، ولا من سلوك «البيت الأبيض» المنافق المتورط، الذي أيد رئيسه اقتحام مستشفى «الشفاء» بدعوى احتمال وجود أنفاق ومراكز قيادة لحركة «حماس» في المستشفى أو تحت مبانيه، وهي فرية رخيصة، رددها كيان الاحتلال من سنوات، استنادا لما يسميه مصادر موثوقة.
وبدت الغباوة ظاهرة في أكمل معانيها، مع إعادة تدوير الزعم نفسه قبل أسابيع، وكأن حركة «حماس» وجناحها العسكري الذي أذل جيش الاحتلال، وداس رؤوس قادته ومخابراته وأجهزته الأمنية، كانت تغفل عن الادعاءات «الإسرائيلية» وتظل محتفظة بمراكز قيادة مفترضة في مستشفى «الشفاء» أو في أي مستشفى آخر، وتنتظر لسنوات ساعة اقتحامها من جيش الاحتلال، وتسلم مراكزها طواعية لجيش الاحتلال، ولا تنقل مراكز قيادتها المزعومة لمكان آخر.

غزة قادرة على تجديد وعدها البطولي، وتهزأ بما يدبرونه لها، فمن قلب مآسيها ودمارها الرهيب، يولد اليوم التالي المضيء لفلسطين كلها، وهو قادم حتما مهما تلكأت المواعيد

وقد طلبت حركة «حماس» مبكرا تحقيقا دوليا أو حتى أمريكيا في المزاعم، وتحدت «تل أبيب» ومعها واشنطن، أن تكشف للناس حقيقة وجود أنفاق ومراكز قيادة مزعومة، ولم تستجب واشنطن بالطبع، رغم ادعاءاتها العريضة الكاذبة عن حماية المدنيين والمرضى وحقوق الإنسان، وكلها أكاذيب سقطت في امتحان فلسطين وعذاب «غزة» وأهلها، تماما كما سقطت وتسقط قبلها وبعدها أكاذيب لا تحصى، لعل أشهرها، كما يتذكر الكل، زعم امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل، وكلفوا الجنرال كولن باول وزير خارجية أمريكا الأسبق، أن يذيعه من فوق منبر الأمم المتحدة، وكان أداؤه ركيكا، وقدم صورا لشاحنات نقل عادية، قال بأن مخابرات بلاده «اللوذعية» تؤكد أنها مخازن لأسلحة كيماوية وجرثومية محظورة، وبعد أن تحقق الهدف بغزو العراق وتحطيم دولته، عاد أبطال العرض المسرحي الكذوب أنفسهم، وأكدوا أنهم لم يجدوا شيئا مما أوهموا العالم بوجوده، وكانت فضيحة لا تنسى، هي الفضيحة ذاتها التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي اليوم، مع إذاعة مشاهد مفبركة من «بدروم» في مستشفى الرنتيسي للأطفال، تتحدث عن ستارة معلقة على جدار كأنها سر حربي، وعن لوحة كهرباء باعتبارها باب الجحيم، وعن فتحة تهوية باعتبارها مدخلا لأنفاق «حماس» تحت الأرض، وهو ما يكشف مجددا عن بؤس تفكير جيش الاحتلال، وعن التواطؤ الميكانيكي من «البيت الأبيض» الذي ردد رئيسه كذبة قطع مقاتلي المقاومة لرقاب أطفال «إسرائيليين» ثم قال لاحقا، إنه لم يطلع على أي شريط «فيديو» يؤكد حدوث الواقعة، ولا سواها من مزاعم اغتصاب النساء في هجوم 7 أكتوبر، ثم لم يجرؤ الرئيس جو بايدن على الاعتذار عن أخطائه الفادحة، ولا راجع نفسه أبدا، وهو يرى بأم عينيه قتل جيش الاحتلال لآلاف مؤلفة من الرضع والأطفال والنساء في غزة، ويلجأ إلى صمت القبور، ودون أن يغلق «بالوعة» مزاعمه الإنسانية الأخلاقية الكاذبة، بل عاد إلى العزف «الببغائي « على أنغام الأكاذيب «الإسرائيلية» وتصوير المستشفيات الفلسطينية كأنها منشآت حربية، يدخلها الجيش «الإسرائيلي» كأنه قهر الأعداء وحطم الحصون، ويلتقط الصور التذكارية على أنقاض المباني وجثث المدنيين، أو في بهو مبنى المجلس التشريعي الفلسطيني في غزة، وكأنه بذلك حقق هدف الحرب، ووجه الضربة القاضية لحركة «حماس» ومقاتليها، الذين يخرجون له من حيث لا يعلم، ويدمرون آلياته العسكرية بالجملة، ويقتلون ضباطه وجنوده ونخبته في غمضة عين، ويسخرون من ركاكة «الموساد» و»الشاباك» و»المخابرات المركزية الأمريكية» معا، وكلها صدعت أدمغتنا بتقارير عن وجود مركز قيادة «حماس» الرئيسي في نفق تحت مباني مجمع «الشفاء» وأنه لا بد من اقتحامه لاعتقال يحيى السنوار وأبوعبيدة ومحمد الضيف، واستعادة الأسرى «الإسرائيليين» والأمريكيين المحتجزين مع القادة في النفق الموهوم ذاته، وفجر يوم الاقتحام الموعود، أعلن جيش الاحتلال أنه ينفذ عملية محددة ودقيقة جدا، ثم تمخض جبل التدبير والتخطيط والتنفيذ فولد فأرا «إسرائيليا» إذ لم يجدوا نفقا ولا مركز قيادة ولا أسرى ولا يحزنون، وكانت هزيمة مزدوجة لتل أبيب وواشنطن، التي تنصلت من الجريمة كلها بعد فوات الأوان. وهنا جوهر المأزق الذي يواجه جيش الاحتلال في غزة، فهو يدرك يقينا، أن ليس بوسعه تعقب وإفناء المقاتلين المقاومين، الذين ينصبون له كمائن الموت في كل مكان، ودون أن يعني توغله البري في مدينة غزة وجوارها شيئا، اللهم إلا إتاحة الفرص للمقاومة القادمة من الأنفاق، واستدراج جيش الاحتلال إلى حتفه من وراء أنقاض المباني، وحتى لو افترضنا جدلا، أن جيش الاحتلال واصل الغوص في رمال «غزة» وأقدم على إعادة احتلالها كلها إن استطاع، فسوف يجد مصائد الموت في انتظاره، ولن يجرؤ ضباطه وجنوده على القتال وجها لوجه، ومن المسافة «صفر» القاتلة، ولن يستطيع ستر خيبته بجرائمه، وتدميره للبشر والحجر وكل موارد الحياة، ومهما قتل من المدنيين، وحتى لو قتل خمسين ألفا، فلن يصنع له ذلك صورة انتصار قابلة للتصديق، وكل ما سيحدث، أن دم الفلسطينيين المراق، سيكون لهيبا مضافا، يذكي شعور المقاومة ويعزز جيوشها، ويضاعف رغبة الانتقام والقصاص العادل من المجرمين.
غزة التي أرسلت رابين وشامير وشارون إلى مزابل التاريخ، هي غزة ذاتها، التي سترسل نتنياهو وغالانت وغانتس إلى مكب النفايات نفسه، وغزة الولادة لأصلب حركات المقاومة، سوف تلد من عذابها جيوشا جديدة، رغم صرخة الجنرال إسحق رابين التي أطلقها ذات يوم، وكان منطوقها «أتمنى أن أصحو من النوم، فأجد غزة غرقت في البحر» لن تغرق غزة في البحر أبدا، ولن يفنى سكانها أو يهاجرون، وحين تخرج من عذابها اليوم، ومن مآسي دماء أبنائها التي تسيل كالأنهار، سوف تخرج منتصرة لروحها العفية التي لا تهمد، وتعاود دورها التاريخي كقدس أقداس المقاومة الفلسطينية، وقد أرغمت الجنرال شارون على الخروج وتفكيك المستعمرات اليهودية فيها، وهي قادرة اليوم وغدا على تجديد وعدها البطولي، وتهزأ بما يدبرونه لها، فمن قلب مآسي ودمار غزة الرهيب، يولد اليوم التالي المضيء لفلسطين كلها، وهو قادم حتما مهما تلكأت المواعيد.
والمحصلة في ما جرى ويجري حتى اليوم، وقد تعدت حرب «طوفان الأقصى» يومها الأربعين، بينما يبدو الفارق ظاهرا بين النصر الحقيقي والنصر الرخيص المفتعل، فقد يضع الجيش «الإسرائيلي» علمه هنا أو هناك، على مبنى أو على مستشفى، لكن ذلك لا يعني نصرا عسكريا ولا سيطرة حقيقية دائمة للاحتلال، الذي نفذ ما يفوق الألف مجزرة ضد أهل «غزة» وشن عليهم آلاف الغارات اليومية الجنونية، وادعى أنه أغلق المئات من فتحات الأنفاق، لكنه في حساب السلاح وموازينه، دخل إلى متاهة ودوامة، لن يعود منها سالما بإذن الله، فقد يملك المدافع والطائرات والصواريخ والقطع البحرية، ويحصل على دعم وإسناد مباشر لحظي من واشنطن وحلف الأعداء الغربي، لكن ذلك كله مهما اجتمع وتساند، لا يؤهل العدو لنصر حقيقي، ولن يعالج جروح جيش الاحتلال الغائرة، وقد سقطت هيبته الموهومة صباح السابع من أكتوبر، وثبت أن الهزيمة قدره الذي لا يرد، وأن الإذلال مصيره الباقي، مهما بلغت عذابات شعب فلسطين في «غزة» التي تحولت إلى فلسطين مصغرة مكثفة مقطرة، فيها كل آلام الفلسطينيين ومعاناة أجيالهم، وفيها كل صنوف المحنة الفريدة التي دهستهم عقودا، لكنها صهرتهم وخلقتهم خلقا جديدا، يذهل العالم بصلابته الروحية، وبولادته لمقاومين من طراز نادر، لا تهزمهم الريح السموم مهما اشتدت، ولا يضرهم خذلان من خالفهم، ولا ظلم الدنيا مهما اجتمع عليهم، ويكتبون بدمائهم فصول العودة إلى فلسطين التي حلموا بها، وشفعوا حلمهم بعملهم المقاوم العبقري، الذي يصنع ما تصوره الآخرون في باب المستحيلات، فغزة هي العنقاء والخل الوفي وقبلة الحرية في صلاة الأوطان.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية