لندن ـ «القدس العربي»: يمكن تقسيم العالم إلى ثلاثة أقسام في الحرب التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، قسم يناصر إسرائيل، ويتعلق الأمر بغالبية حكومات الدول الغربية، وقسم يتخذ موقف الوسط ومنهم دول مثل إسبانيا وبعض الدول الأفريقية والآسيوية، وقسم يندد ويشجب، ويتعلق الأمر بغالية الدول العربية والإسلامية ومنطقة أمريكا اللاتينية.
وعلاقة بأمريكا اللاتينية وهذه الحرب، كتب أكثر من مواطن عربي في شبكات التواصل الاجتماعي «هل ورث رؤساء أمريكا اللاتينية النخوة العربية بدل ملوك ورؤساء الدول العربية؟». وطالب رئيس كيان الاحتلال إسحاق هرتزوغ في حوار مع وكالة الأنباء الإسبانية «إيفي» يوم الخميس الماضي من عدد من دول أمريكا اللاتينية مثل التشيلي وكولومبيا تفهم موقف ووضع إسرائيل في هذه الحرب. يعكس المثالان بامتياز مدى تعاطف منطقة أمريكا اللاتينية شعوبا وحكاما مع القضية الفلسطينية خاصة في هذا الظرف الحساس الذي يتعرض فيه الشعب الفلسطيني للإبادة من جهة، ومدى قلق الكيان الإسرائيلي من مواقف المنطقة من جهة أخرى.
أمريكا اللاتينية العربية
وتاريخيا، تميزت منطقة أمريكا اللاتينية بتأييد القضية الفلسطينية مع بعض الاستثناءات. ومرد هذا التعاطف إلى وجود حركات يسارية تتضامن مع الفلسطينيين، وعدم نجاح اللوبي اليهودي في إقناع شعوب المنطقة وسياسييها بأطروحة إسرائيل. وينتج عن دعم واشنطن، وهي المرفوضة في أمريكا اللاتينية، لإسرائيل، إحساس مضاد برفض إسرائيل مباشرة.
وعمليا، خلال العقدين الأخيرين وفي ظل نجاح إسرائيل في التطبيع عبر مراحل مع بعض الدول العربية، جاءت أقوى المواقف المؤيدة للحق الفلسطيني من زعماء بعض دول المنطقة مثل الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز والرئيس البوليفي الأسبق إيفو موراليس. وعلى المستوى الشعبي ومن باب المقارنة، لم تخرج شعوب المنطقة إبان الحرب الروسية-الأوكرانية إلى الشارع لتأييد هذا الطرف أو ذاك عكس التظاهرات الكثيرة لنصرة فلسطين. كما رفضت معظم دول المنطقة الانخراط في إدانة موسكو رغم ضغوطات الولايات المتحدة. غير أن الوضع كان مختلفا في القضية الفلسطينية.
إذا أخذنا البرازيل، وهي دولة مركزية في أمريكا اللاتينية وترسم بطريقة أخرى السياسة الخارجية الإقليمية للمنطقة، نجد أن الرئيس لولا دا سيلفا وقد صدرت عنه تصريحات قوية طيلة هذه الأسابيع التي تجري فيها حرب الإبادة. وأبرز هذه التصريحات قوله «إذا ارتكبت حماس عملا إرهابيا وفعلت ما فعلته، فإن دولة إسرائيل ترتكب أيضا العديد من أعمال الإرهاب، وتفشل في الأخذ في الاعتبار أنه حتى الأطفال ولا حتى النساء يتعرضون للخطر». ومثلا قال في استقباله لبرازيليين عائدين من قطاع غزة «قتل الأبرياء دون أي معايير في الحرب، وإلقاء القنابل حيث يوجد أطفال ومستشفيات، بحجة وجود إرهابي هناك عمل مدان، إنهم لا يقتلون جنودا، بل أطفالا».
ولم تمض ثلاث سنوات على إعادة بوليفيا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، حتى عادت وقررت نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي قطع هذه العلاقات وطرد السفير الإسرائيلي. ولم يتردد رئيس البلاد لويس أرسي في اتهام الكيان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ومن الأمم المتحدة، أوضحت بوليفيا أن قرار قطع العلاقات يعود إلى أن «بوليفيا هي إلى الجانب الصحيح من التاريخ، إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني».
ويبقى التطور اللافت في المنطقة هو الصادر عن كولومبيا. فقد كان هذا البلد يسمى «إسرائيل أمريكا اللاتينية» بسبب العلاقات المتينة مع الولايات المتحدة التي جعلت منها تقريبا مثل إسرائيل في الشرق الأوسط. في الوقت ذاته، تعتبر العلاقات العسكرية للكيان مع كولومبيا متينة للغاية ومنذ قرون إلى مستوى أن الكيان يعتبر المزود الرئيسي الثاني بالعتاد الحربي للقوات الكولومبية بعد واشنطن. وتغيرت الأمور بعد وصول اليسار إلى الحكم ممثلا في الرئيس غوستافو بيترو. فقد تم سحب السفير من إسرائيل والتخفيض من العلاقات دون قطعها. ويوم 9 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، أعلن الرئيس الكولومبي انضمامه إلى أي دعوى يتم تقديمها ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية، بعدها بأيام طالب من الأمم المتحدة منح فلسطين العضوية الكاملة كدولة. وفي حوار مع ناشط في اليوتوب، قال السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي في تصريح مثير «شكرا للجمهورية العربية الكولومبية» على موقفها من القضية الفلسطينية، وذلك في تلميح للموقف النبيل لهذه الدولة ضمن أمريكا اللاتينية التي كانت أكثر عروبة من غالبية الدول العربية.
وكانت مواقف دول المنطقة كلها بين الشجب الشديد مثلما صدر عن الأرجنتين والتشيلي هذه الأخيرة التي خفّضت من العلاقات مع إسرائيل وسحبت سفيرها، واعتبار ما يرتكبه الكيان بمثابة جرائم ضد الإنسانية كما صدر عن فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، وهي دول لها مواقف معارضة جذريا للكيان.
وعمليا، تعتبر مواقف هذه الدول فشلا ذريعا لكل من إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة. إذ لا يحظى اللوبي اليهودي بتأثير كبير أو تراجع بشكل ملفت، في الوقت ذاته، لم تعد واشنطن تنجح في تسويق صورة الكيان في منطقة يحكمها اليسار، ويطغى الطابع التقدمي على شعوبها التي تردد الشعار الشهير «فلسطين تقاوم، فلسطين موجودة». وأمام موجة التضامن، تلجأ إسرائيل إلى ترديد الرواية الكلاسيكية بأن هذا التعاطف والتضامن يعود إلى سببين وهما:
في المقام الأول، عدم إلمام شعوب وحكومات أمريكا اللاتينية بالنزاع الحقيقي في منطقة الشرق الأوسط، كما تروج بأن حركة حماس إرهابية لا يجب التضامن معها.
وفي المقام الثاني، تنسب إسرائيل مواقف أمريكا اللاتينية إلى التأثير الذي تمارسه إيران ثم حزب الله في المنطقة. ويقول رئيس الكيان الإسرائيلي في الحوار المشار إليه مع وكالة «إيفي»: «كلنا يعلم حضور إيران في المنطقة، وكلنا يعلم العلاقات التي تجمعها ببعض حكومات المنطقة». وكان رد بيان وزارة خارجية فنزويلا على هذه التصريحات عنيفا «تصرفات دولة إسرائيل تتجاوز بكثير حد اللياقة والاحترام، وتصنف على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والتي سيتم الحكم عليها عاجلا أم آجلا بموجب القانون الدولي».