بيروت بعيون نزلائها

حجم الخط
0

يروت مدينة لا يعوزها المدّاحون. هي تجد حاجتَها منهم بين اللبنانيين المتأصّلين فيها وتجدها بين غير اللبنانيين، على اختلاف التابعيّات، ممّن يقيّض لهم أن يقيموا فيها مُدداً طويلة إلى هذا الحدّ أو ذاك. ولا غَرْوَ أن تكون أصوات المثقّفين هي التي تُسمع قبل سواها حين يخطر لهذا أو ذاك منهم أن يعدّد مزايا العاصمة اللبنانية فإن إسماع الصوت من لوازم صناعتهم. وهم يتوزّعون في هذا إلى فئات ثلاث، لجهة المصدر، وتحدّد مصادرُهم (وهذا طبيعي) ما تغلّبه كلّ فئة في علاقتها بالمدينة. هم، من حيث المصادر، لبنانيون أو عرب أو أجانب. فإن العرب يجدون سبيلاً إلى تشكيل مجموع على حدة يخرج عن حصرية التوزّع المعتادة بين مواطنين وأجانب. ههنا أستلهم شذرات من أحاديث ومن قراءات أستخلصها من ذاكرتي لأغامر باقتراح «نموذج مثالي» يرسمه لبيروت كلامُ كلّ من هذه الفئات الثلاث. ومع إقراري بنصيب للتعسّف من هذا المشروع، يبدو لي مدخلاً موحياً إلى حقيقة بيروت المعاصرة.
نسمع مراسل واحدة كبرى من الصحف البريطانية، مثلاً، أو نسمع باحثاً فرنسياً في العلوم الاجتماعية يسترسل، على الخصوص، في مدح الشمس والبحر. وقد يضيف إلى دواعي افتتانه ببيروت إيقاع الحياة اليومية الذي يجنح إلى التراخي وإلى التفكك. وقد يجاهر بتعلّقه بالمطبخ اللبناني (وهذا مطبخ لا يدين لبيروت إلا بالقليل). وقد يظهر تعلقه بالموسيقى العربية التراثية وهذه لا تدين إلا بالقليل للبنانيين، على العموم، ولكن بيروت تجد سبلاً لنشر أصدائها. ولا يستبعد أن يتوج المعجب نفسه مرافعته بالتنويه بالحيوية النسبية للحياة الثقافية. ولكنه قد يجعل مسكَ الختام (إذا كان سنّه ووضعه الزوجي يأذنان له بالإقبال على هذا النوع من المُتَع) ذكْرَ الصخب الذي تتّسم به حياةُ الليل في المدينة نفسها وفي ضواحيها على الأخصّ.
والراجح أن يغفر هذا «الأجنبي» لبيروت زحماتِ السير المهولة في شوارعها والتقطّعَ المزمن – وقد بات ميؤوساً من إصلاحه – لإمدادها بالتيّار الكهربائي وندرةَ الماء التي تلابس الفصل القائظ خصوصاً وضيقَ الأرصفة التي يتنازعها المشاةُ والدراجاتُ النارية والسياراتُ أيضاً إذ تتّخذها مواقف، في بعض الأحيان… وقد يغفر صاحبُنا نفسه للمدينة ما يجتاحها من قبحٍ معماري وقد يغفر الغلاء الفاحش الذي تتّصف به المطاعم الجيدة فيها، إلخ. فعلى الإجمال، تتّسع إمكاناتُ المراسل أو الباحث الأوروبي أو الأميركي لمداورة هذه البلايا أو معظمها. فهو يتدبّر أمرَه للإقامة غير بعيد عن مكتبه. بل هو قد يجد لنفسه سكناً على شاطئ البحر. وهو حُكْماً أحدُ المشتركين في أقرب مولّد خاصّ للكهرباء، وهذا إن لم تكن البناية التي هو فيها مستقلّةً بمولّد لها وحدها. وهو يبتاع منفرداً أو مع السكّان الآخرين في البناية ما يحتاج إليه حفظُ النظافة وطيبُ المزاج من ماء، وهذا بلا اكتراثٍ زائدٍ للكلفة، إلخ.
على أن هذا السيد نفسه يـُلْفي نفسَه مضطرّاً، لقاءَ ما يجده لحياته البيروتية من محاسن، أن يحتمل من المدينة آفةً صعبة التدبّر: تلك هي آفةُ الأخطار التي ترتّبها الإقامةُ في الديار البيروتية على سلامته وقد ترتّبها على سلامة عائلته. وهذه، في حالة الأجنبي، أخطارٌ مختلفة عن تلك التي تكابدها عامّة البيروتيين في أوقات التوتّر (ويكون الأجانب من هذه الفئة، عادةً، أشدّ حصانةً عليها من نظرائهم اللبنانيين). وهي أيضاً أخطارٌ مختلفة عن تلك التي تترصّد، في بعض الفصول، حياةَ البعض من سياسيّي لبنان وصحافيّيه. فإن التهديد الذي يتّخذ هدفاً له صحافياً أو دبلوماسياً غربياً أو، على التعميم، مواطناً من مواطني الدول الغربية مقيماً في بيروت أو مارّاً بها (ولا تكون الضحية شاعرةً بوجوده، بالضرورة) يقعُ دائماً على تقاطع مساعٍ سرّية ومتشابكة للغاية تشتمل ساحتُها على الشرق الأوسط كلّه. وهو ما يجعل الخطرَ عصيّاً على التوقّع ويجعل ردَّه أمراً شبه متعذّر. عليه يكون على المواطن الغربي الذي يختار بيروت موقعاً لتقاعده أو يتدبّر أمورَه بحيث يمضي عشراتٍ من سنيّ خدمته فيها أن ينشئ حاجزاً نفسياً يفصل الشمس والبحر عن كلّ سياق سياسي.
وأما المثقفون العرب الذين تنشأ ألفةٌ ما بينهم وبين عاصمتنا فإن وجوهاً مغايرة جدّاً لما ذكرنا هي ما يستهويهم من العيش فيها. وذاك أن المواقعَ التي تجذبهم فيها، فضلاً عن دور الصحف ودور النشر ومراكز الأبحاث التي يعمل كثير منهم فيها، هي المقاهي والحانات قبل شاطئ البحر. لا ريب أن الطعام والشراب يستهويهم أيضاً ولكن ما يجذبهم أشدّ الجذب يبقى تبادلَ الحديث ومناقشةَ ما يشهده هذا أو ذاك من بلاد منشئهم من تطوّرات سياسية أو من ركود يوحي باليأس من كلّ تطوّر. وقد لا يحسب هؤلاء أنفسهم بمنأىً من عيون جهاز المخابرات التابع لكلّ من دولهم ومن أعوانه اللبنانيين ولكنهم يقدّرون مع ذلك حرّيةَ التعبير التي تتيحها لهم الصحافة اللبنانية ويحتضنها عالم الثقافة البيروتية الصغير. وهم يؤْثرون أن يعهدوا بكتبهم لدور النشر البيروتية، وهو ما يؤْثره نظراؤهم الصامدون في ديارهم الأصلية أيضاً. وهذا مع العلم أن العاصمة اللبنانية مدينةٌ لسوريين ولعراقيين بالبعض من دور النشر العاملة فيها.
بيّنٌ من بعدُ أن اتّساع الميزات التي تمنحها عاصمةٌ يتمتّع فيها بعض الدول العربية (أو كان يتمتّع) بنفوذ طاغٍ إلى هذا الحدّ أو ذاك، ومنافسٍ لغيره من أمثاله، على الخصوص، قد تزيده أو تنقصه كثيراً هوية الدولة التي جاء منها الصحافي أو الكاتب المعني. ويسع هذه الميزاتِ نفسَها أن تختلف باختلاف الأوقات وأمزجتها. فإن الصحافي الفلسطيني مثلاً لا يُلْفي نفسَه اليومَ ممتّعاً بما كان له من حصانات في بيروت السبعينات من القرن الماضي. وقد قيّض للصحافي السوري أن يشعر، تبعاً لموقعه السياسي، بمزيد من الهشاشة أو بمزيد من الحماية بعد 2005 عمّا كانت عليه حاله قبلها، إلخ. ويدين المثقّف العربي اليوم، في بيروت، بمعظم ما يُتْرك له من حرّية للحماية الطائفية التي يؤهّله انتماؤه السياسي للإفادة منها. وأما الخطر فمصدره المعسكر الطائفي المقابل. ويفضي تآزرُ القوى الطائفية وأجهزة الاستخبارات الخارجية إلى ضمورٍ في هامش الاستقلال المتاح للصحافي ويجعله يبدو مفرطَ الامتثال لخطّ جريدته السياسي ويجعل الضماناتِ المتوفّرة لأمنه أشبهَ بالرمال المتحرّكة. ولقد أمضى مثقفون عرب كثيرون جانباً معتبراً، إلى هذا الحدّ أو ذاك، من أعمارهم في بيروت. واختارت قلّةٌ منهم جعلَها مقاماً دائماً لهم. ومن مرحلةٍ إلى أخرى، تتغير وجهة السياسة فتضطرّ فئةٌ من هذا الجمهور إلى سلوك طريق المنفى. وقد لا يقيّض للبعض أن ينجوا بأنفسهم فينزل بهم القضاء المحتوم.
هذا ولا ينكر الراحلون، على الإجمال، ما لبيروت من دَيْن في أعناقهم. وهم إذ يذكرون هذا الدَيْن ينطقون عادةً باسم قضيةٍ أو باسم شعب. فبينما يميل المثقفون الغربيون إلى تفسير تعلّقهم ببيروت بالذوق الشخصي أو بالأفضليات الثقافية، يجنح نظراؤهم العرب إلى ذكر الملجإ السياسي الذي مثّلته لهم، دون احتياج إلى اللجوء الرسمي، بالضرورة، مدينةٌ منَحَتْهم حريّةَ تعبير بقيت، على علاّتها، مخرجاً من ضيق بلادهم بحريّتهم. ولا غرْوَ أن هؤلاء يستكثرون من عبارات الشكر للتضحيات التي تكبّدتها بيروت أو تكبّدها اللبنانيون، على الأعمّ، من جرّاء مغامراتٍ كان هؤلاء المثقفون جزءاً لا يتجزّأ من طواقمها. ويتظاهر معظم هؤلاء بأن حالات الصدام الذي خاض فيه اللبنانيون في ما بينهم بصدد هذه المغامرات لا ينبغي لها أن تنتقصَ من الضيافة الغريبة الزيّ التي ينسبونها إلى بيروت.
يبقى ما يلهج به مدّاحو بيروت من المثقّفين اللبنانيين ويبقى ما يمكن الخلوص إليه من مقابلة هذه الصور الكلامية كلّها بواقع الحال. ذاك ما نكرّس له عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية