انتهت معركة تحرير الكويت، وانسحب الجيش العراقي بالطريقة المرتبكة المعروفة، ووافقت القيادة العراقيّة على قرارات خيمة صفوان الشهيرة في 3 نيسان/أبريل 1991، التي كان مضمونها عبارة عن هُلاسٍ منظّم فرضته قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدّة الأمريكيّة على النظام الحاكم، حرمته بموجبه من صنع أو استيراد جميع أنواع السلاح والعتاد، أوامر وبنود عديدة تركت البلاد كيانا متقوّضا بلا جسد حقيقيّ ولا روح. من هذه القرارات، مثلا: لا يحقّ للحكومة العراقيّة خياطة بدلة لجنديّ عراقيّ، أو صناعة أو استيراد أزرار لها، قرأتُ هذا البند منشورا في الجريدة الرسميّة بينما كنتُ جنديّا في الجيش، ونهض في الذاكرة الآن حين فكّرت في الكتابة، بالإضافة إلى لوائح وضوابط ملأت صفحات طويلة وعديدة من الصحيفة، وبخطّ ناعم، منها مُضحك ومنها مُبكٍ، وقد وافق رأس النظام السابق، حارس البوّابة الشرقيّة وبطل التحرير القومي، على هذه الأوامر جميعا، صاغرا.
جرت بعد ذلك أحداث الانتفاضة الشعبانيّة في عموم البلاد ـ أنا أدعوها ثورة التسعين – في منتصف شهر أبريل من السنة نفسها، عندما خرج الشعبُ ثائرا على النظام الحاكم، وتمّ قمعه بطريقة متوحشّة بواسطة وحدات الحرس الجمهوري الخاصّة بأمن النظام الحاكم، وعندما قُصفت مدينة حلبجة بالسلاح الكيميائيّ، نشر الأديب الراحل علي جواد الطاهر مقالا في زاويته الأسبوعيّة في صحيفة «الثورة» القريبة جدا من حزب البعث الحاكم، وكان عنوان المقالة «أخي عبد الله». أنقل هنا ما علق منها في ذاكرتي، وهو كلّ مضمونها وفحواه:
في بيتهم، في مدينة الحلة، تعارك قطّان أحدهما أسود اللون له بدن جسيم ورأس غليظ، وكان يختال بين قطط الحيّ طوال الوقت، ويطلق مواءه ويشخر في وجه كلّ قطّة ناعمة وهُرير وديع. صارت معركة في ذلك اليوم بين هذا الهرّ الفطحل، وقطّ غريب دخل الحيّ، وكان متوسّط الحجم، أبيض اللون، ويبدو عليه الهدوء والحذر. بدأ العِراك قبل أذان الظهر بقليل، وانتهى عندما سكت المؤذن. لم يستغرق النزال وقتا طويلا، لأن القطّ الأسود العظيم الجثّة لم يخسر المعركة فحسب، إنما ظلّ ممدّداً على الأرض دون حراك، والدماء تنزف من كلّ مكان في وجهه. وتأكيدا على انتصاره، قام القطّ الغالب بمحاولات عديدة لمساعدة الهرّ الفطحل، بعد أن رآه ساكنا دون حراك، شبه ميّت. أخذ يتشمّمه، ويلعق وجهه، ثم تمدّد بالقرب منه، وظلّ يُطلق أصواتا شجنيّة دلالة على تأثّره وندمه، لأنه كان شديدا معه.
يقول علي جواد الطاهر: أكثر ما أثار استغرابي هو موقف أخي الأكبر عبد الله، فقد جاء بقضيب حديديّ، وكنت أحسب أنه سيعاقب القطّ الغريب، وإذا به يهوي به على الهرّ الأسود المهزوم، وهو يلعنه ويشتمه، ثم قام بطرده من البيت. وعندما استفسرت منه عن السبب قال: أين هريره وصياحه ومشيته التي كان يستعرض بها عضلاته علينا كل يوم؟ أين ذهبت أسلحته كلها عندما حانت ساعة القتال؟
كان المقصود بالكلام بالطبع هو الرئيس السابق صدام حسين، وكان يخرج علينا في كلّ وقت قبل احتلال الدولة الجارة، عارضا على العالمين في التلفزيون أسلحته الصاروخيّة، والمدفع العملاق، والكيميائي المزدوج، وغير ذلك. لم يستعمل صدّام هذا العتاد الحربيّ ضدّ الأعداء، وكان جريئا ومقداما عندما قمع الانتفاضة به، أي أن سلاح الرئيس العراقي السابق كان فعّالا ضدّ شعبه وأهله وناسه. لم ينتبه المراقبون في عالم الصحافة آنذاك إلى القصد من وراء مقال (الطاهر) وتُحسب للراحل الجرأة في أنه خاض السباحة ضدّ التيّار، بينما كان اليمّ عاصفا.
في القرآن الكريم سورة الزخرف آية (54): «َفاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْما فَاسِقِينَ». تبعا للرواية في كتب التفسير أن الآية نزلت في قوم فرعون، وكانوا من القبط، لأنهم أطاعوه على الرغم من ظلمه لهم، وخذلوا في الوقت نفسه نبيّ الله موسى، وكان يروم تخليصهم من بطش الفرعون. لا يتحمّل الحاكم الظالم وحده مسؤوليّة التاريخ، لأنه كان يسوم شعبه العذاب، ويكذب عليهم كلّ يوم في الصغيرة والكبيرة. القرآن الكريم يضع اللوم عليهم، فهم قبلوا بالغشّ والتدليس والكذب، ينشره عليهم حاكمهم، ويؤدي بهم حتما إلى كارثة أكيدة. جاء في الذِكر في سورة القمر- الآية 25: «بل هو كذّابٌ أشِر» ومعنى الأشر: المرِح ذا التجبّر والكبرياء، وهو أبلغ وصف للهرّ بطل قصّة الطاهر، وكذلك للحاكمين الذين يشبهون صدّام حسين، الذين يتشرّبون بالكذب تدريجيّا، ثم تأخذهم سكرة عظيمة منه، وعندما يعيشون وفقا لإملاءاتها، تحلّ المصائب والويلات.
كين سارو ويوا شاعر من نيجيريا، تم إعدامه بعد سجنه وتعذيبه سنة 1995 على يد الديكتاتور ساني آباتاشا، كتب الشاعر هذه القصيدة عندما كان في السجن، وتمّ تهريبها، وذاعت وانتشرت في بلاده، وتُرجمت إلى جميع اللغات:
السجن الحقيقي
ليس هو السقف الذي يرشح
ولا البعوض الذي يطنّ، في الزنزانة القذرة والكئيبة
ليس جلجلة المفاتيح
حين يوصد السجّان الباب عليك
ليس الوجبات الهزيلة
التي لا تصلح لوحش أو لإنسان
ولا حتى خواء النهار، وهو يغوص في شحوب الليل
السجن الحقيقي ليس كذلك
إنه الأكاذيب التي تم إقحامها في آذاننا طوال الوقت
على مدى جيل كامل
وكانوا يأمرون الآباء والأمّهات أن تكون كلاما مقدّسا
يجب تلقينه إلى الأبناء والأحفاد.
كاتب عراقي