جدل الفردي والجمعي
لا يُذكر الشعر النسائي المغربي الحديث والمعاصر إلا مقرونا باسم مليكة العاصمي. وإذا استعرنا عبد الوهاب البياتي، فإن الشاعرة «افتضَّتْ ختم الشعر» وأمكنها أن تفكّ قيود القهر الذكوري وتجهر بالشعر. فتحت عينيها على نور مراكش وتشرّبت سحرها وبهجتها وحدائق شعرها، وتفتّحت قريحتها على سجل عائلتها ومحتدها الوطني، وعلى واقع سياسي مضطرب، وهو ما ساهم في تشكُّل وعيها بالكتابة مُبكرا. فمنذ تفتّقت موهبتها بالشعر، لم يكن بالنسبة إليها شأنا شخصيا، بل كان واجبا في المقام الأول؛ أي في صميم ما كان يتمخض به المجتمع من معارك وتطلُّعات، وكان سجلا كاشفا عن شكاوى النساء ومظالمهنّ التي لا تُحدّ. لهذا السبب، يفهم لماذا جسدت مليكة العاصمي ابتداء من ديوانها «كتابات خارج أسوار العالم» (1987) و«أصوات حنجرة ميتة» (1988) ارتباط تجربتها الشعرية بمشاغل فكرها السياسي والنضالي، الذي أملى على ذاتها المثقفة الملتزمة أن تُجابه السلطة وتصرخ في وجه الواقع وتكلُّسه وخذلانه. وبموازاة ذلك، كانت تتبلور تجربة القصيدة عندها، وتنطبع عليها آثار «الدراما المغربية» وأصوات العصر ووضع المرأة فيه. وشيئا فشيئا تعلم الشعر من هذا وذاك، قبل أن ينصرف الشعر إلى الشعر، إلى سياسة الشعر نفسه، ابتداء من ديوانها «شيء له أسماء» (1997)؛ إذ نقلت قصيدتها إلى الفضاء الدرامي مُستضاء بعبارات الومض الإشاري ولغة التكثيف والتناص حينا، والتجريد الرمزي حينا آخر. وقد تأثر الشرط الإيقاعي بذلك، إذ لم يعد يعنيه امتداد العبارة وزنا وتكرارا وتقفية وحسب، بل امتدادها في تربة الإنساني الهشّ وشغفه بالأسرار، الذي يُحوّل توقيعاته إلى لسان حال يسمو بتجربة التَّوْق الصوفي إلى الاكتمال والفناء بعد معاناته حالات الفقد والغياب، مثلما يحوّلها إلى كوكبةٍ نجوم تتلألأ بأثر الجسد وإشراقاته.
وقد شكل جدل الفردي والجمعي أحد الأقانيم الأساسية في شعر مليكة العاصمي، إذ طبع مسار تجربتها الشعرية وسيرتها الثقافية منذ بداياته إلى اليوم، واتخذ أشكالا وتجليات مختلفة ومتنوعة تبعا لطبيعة العلاقة المتوترة والمنتجة التي تعايش عليه طرفاها وتعذّيا منها؛ وهي العلاقة التي تكوّنتْ بذورها الأولى من تكوين الشاعرة وتربيتها ومحيطها الوطني التي فتحت عينيها عليه في مراكش، ومن الواقع السياسي والاجتماعي الذي عاشت فيه واكتوت بأسئلته الحارقة قبل الاستقلال وبعده، ومن الجيل الشعري الستيني الذي سارت في ركابه وحملت معه هموم المرحلة وتطلعاتها وندوبها، ثم من كونها امرأة واجهت نسقا اجتماعيا ذكوريا من أجل شرطها وحقوقها وقيمها الخاصة. من ذاتٍ تتكلم إلى آخرها، تمكّنت الشاعرة من أن توازن بين طرفي الجدل الحيوي، ولهذا لا يمكن أن نفصل ما هو ذاتيّ عما هو جمعي في كتابتها الشعرية وغير الشعرية، لكن ليس بمعنى أن يذوب أحدهما في الآخر، بل بمعنى أن يكون كلاهما مُخْلصا للشعر ومُتخفّفا من بلاغة الأيديولوجيا، ومنفتحا على سجلاّت التاريخ والأساطير والحكايات الشعبية لصوغ ملامح بطولة مفتقدة في زمنها.
شاعرة الأسئلة الكبرى
وفاء لهذه التجربة الشعرية المديدة، واعترافا بما شكلته من سيرورة تحديثية وإضافات نوعية في تاريخ الشعر المغربي الحديث، نظم «مختبر الدراسات الأدبية واللغوية و»فرقة البحث في الإبداع النسائي» في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في تطوان، يوم الثلاثاء 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ندوة علمية تحت عنوان: «مليكة العاصمي شاعرة الأسئلة الكبرى». وفي مفتتح الندوة أكد الأستاذ الباحث أحمد هاشم الريسوني على قيمة هذه الشاعرة في خريطة القصيدة المغربية باعتبارها «رائدة الشعر النسائي» وقيمة تجربتها الشعرية وخلقته من وعي فني ناضج يمزج بين شرط الالتزام وضرورة الارتقاء بفنّ الشعر وجمالياته المخصوصة، دون أن تضرب عن واجب الدفاع عن بنات جنسها في مواقع مختلفة؛ أكاديمية وثقافية وسياسية. وفي هذا السياق، قال الناقد نجيب العوفي: «منذ انطلاقة تجربتها الشعرية اليانعة الوارفة، جمعت مليكة العاصمي بين القصيدة والقضية، أو القصيدة والعقيدة، في وئام وانسجام. وكما كانت التجربة الشعرية الريادية في المشرق العربي، في حاجة إلى أصوات شعرية نسوية، مكمّلة للعزف الشعري ومُطرّزة له، كنازك الملائكة وفدوى طوقان وملك عبد العزيز.. كانت التجربة الشعرية الريادية في المغرب، في حاجة إلى صوت من عيار مليكة العاصمي، ليكتمل العزف أيضا ويتطرّز. وكيف يستقيم الشعر ترى، كيف يستقيم هذا العالم، دون امرأة؟». فهي ـ في نظره- جمعت بين كونها «شاعرة ومثقفة ملتزمة، مهمومة بقضايا وطنها وأمّتها وأسئلة عصرها، تبدع شعرا كما تبدع بحثا ونقدا جريئا للأعطاب الثقافية والسياسية والاجتماعية» وكونها «شاعرة ملتزمة ومسيّسة بالمعنى الإيجابي للكلمة، تفتّح وعيها السياسي وتصلّب عوده في كنف مدرسة سياسية عريقة، هي مدرسة حزب الاستقلال، حيث تشبّعت بقيمه ومبادئه وتجاوبت معه تجاوب ميل وهوى، وترجمت تجاوبها إلى مواقف سياسية جريئة خاضت غمارها بعزيمة لا تلين، مدفوعة بحُميّا الشعر وحميّا السياسة في آن، وجامعة بين طرفي المعادلة الصعبة، وقدمت الشاعرة بذلك مثالا ملموسا وفريدا للشاعرة الجامعة بين القصيدة والعقيدة». وقد انعقدت ثلاث جلسات أدارها، جميلة رزقي وهشام بحيري وأسماء الريسوني، استطاعت أن تلقي أضواء على جوانب متنوعة من التجربة الشعرية عند مليكة العاصمي، من خلال المداخلات النقدية التي تقدم بها أكاديميون وباحثون؛ مثل: عبد الوهاب الأزدي ونادية العشيري وسعيد يفلح العمراني ومحمد المريني، ومسّتْ إشكالات وقضايا تتعلق بالحداثة وتوظيف التراث والوطن وجدل الفردي والجمعي، أو بصلة شعرها بالحياة ومشكلاتها؛ حيث لم تفصل الشاعرة ما كانت تكتبه عن شرط الحياة، ووضعت قصيدتها في مجرى التغيير وآلفت فيها بين البناء المعاصر والقيم الأساسية التي نادى بها الشعراء العرب الحداثيون مثل حرية الفكر وتقدم الممارسات، أو دعَوْا إلى تجسيدها في الحياة الاجتماعية مثل العدل والحقوق المدنية، بالنظر إلى إنتاجها الغني الذي توزع بين الكتابة الشعرية والبحث في قضايا المرأة، وفي حضارة مراكش وثقافتها وخصوصيتها العريقة؛ فهي شاعرة «رؤيا» بقدر ما هي شاعرة «رؤية» وبصيرة منفتحة على اليومي بما يعرفه من توتّرات وأحداث وانتظارات. وفي هذا السياق، يقول الباحث عبد الجواد الخنيفي، إن الشاعرة كانت «تثري قاموسها الشعري من صخب الشارع ومفردات الحياة اليومية للناس الذين تعايشهم أو تواجههم، تجتاحها الرّياح حينا والعواطف والأفكار والأحداث حينا آخر، لكن كل هذا يضاعف من طاقة الحياة في شعرها». وزاد: «في تداخل الماضي بالحاضر واكتشاف تفاصيل الواقع وتقاطعات الذات والعالم، تَشكّل الصوت الفردي للشاعرة كوعي مستمرّ بضرورة الشعر، من أجل الحضور ومواجهة الزمن، ومن أجل الإقدام على مغامرة الحياة ضمن دورة الخلق واختبار الوجود».
رؤى وتجلّيات
توجهت باقي المداخلات إلى استكشاف وتحليل سمات وموضوعات محددة تكشف عنها دواوين الشاعرة، وفي طليعتها توظيف الرمز الذي يمثل قيمة مهيمنة ومكونا جماليا أساسيا في تجربتها الشعرية؛ وهو ما وقف عليه الباحث المعتمد الخراز من خلال ديوانها «دماء الشمس» إذ كشف عن جماليات الرمز في قصائد الديوان وتحديد مستويات تجلياته؛ أولاها تمثلت في لفظة «الشمس» التي اتخذت دلالات رمزية تتحدد حسب سياقها النصي في كل قصيدة، وساهمت في تشكيل بنية الديوان، بل اتخذت شكل دورة فلكية، مثلت لحظة شروقها قصيدة «دماء الشمس» وهي أول قصيدة فيه، ومثلت لحظة غروبها قصيدة «نوار الشمس» وهي آخر قصائده. يغتني الديوان بالرموز الجزئية، وكذلك بالرموز الكلية التي تجلت في ثلاثة أنواع، وهي: البورتريه الرمزي، والمشهد الرمزي، والحكاية الرمزية. وقد تمثل البورتريه الرمزي، في خمس قصائد، وهي: «الكلب» و»كلب آخر» و»الذئب» و»ثعابين» و»مكلف بمهمة» حيث تتخذ القصائد الأربع الأولى منها الحيوانات معادلا رمزيا للإنسان الخانع والمستلب والماكر والغادر والمخادع، بينما يرسم البورتريه الخامس شخصية تتراوح أفعالها بين أفعال إنسانية وأخرى خارقة. ورغم الاختلاف الموجود بين البورتريهات الخمسة على مستوى طبيعة الرمز، فإنها تشترك في البنية الرمزية المشكلة لها، وهي بنية تستند إلى التقابل والتحول.
أما المشهد الرمزي، فينطلق من تشكيل مشاهد شعرية، تستند إلى التفاعل مع فنون تتخذ من المشاهد مكونا لتشكيل أعمالها، مثل: المسرح والسينما والرسم، ونجده في قصيدة «مشهد» أو تتفاعل مع التكنولوجيا ونجد ذلك في قصيدة «حاسوب» أو مع الطبيعة حيث يتجاور الوصف والتخييل، وهو ما نجده في قصيدتي «قهر» و»كفاح». وتمثل الحكاية الرمزية النوع الثالث من تجليات الرمز في الديوان، وفيه يتم استثمار الحكاية الشعبية، عبر نقلها إلى تسريد شعري، كما نجد في قصيدة «القمر» أو ابتداع حكايات خرافية تستلهم متخيل الأساطير وتتناص مع القصة القرآنية، ونجد ذلك في قصيدة «الباشق». وبالتالي، فإنّ الرمز مثل فتنة للشاعرة في هذا الديوان، كما مثل فتنة لقارئه، ولتعليل هذه الفتنة الشعرية كان على هذا القارئ تشغيل آليات التأويل لقراءته وإنتاج معناه. وقد حاولت الشاعرة بواسطة رموزها، كما رأى الباحث عمرو كناوي في السياق نفسه، «أن تكسر القيود، وتواجه مختلف الجبهات، علّها تخلص المرأة والرجل معا من قوى الغشم والاستبداد، لكن ثمة معيقات ومثبطات تقول بعكس المبتغى، حيث الواقع أقوى وأعتى. وتبقى فرصة انتظار ما ستجود به الشمس عند شروقها، من انفراج وتحرر وانعتاق، حتى يستشعر المغبونون والمقهورون بقرب زوال المحرقة. وما دام الواقع لا يرتفع، فإن صرخة الشاعرة ستبقى صداحة متعالية الأصوات، تندد بلهيب الشمس وجبروت الليل حتى إشعار آخر».
ضمن المقاربات النصية الأخرى، درس أخ العرب عبد الرحيم «شعرية الألم بين سطوة البوح ونزيف الذاكرة» وركز محمد نفاذ على موضوع «السخرية وتشكيلاتها الفنية في ديوان: تصبح فرسا» وبحث يوسف غازي «سؤال التحول في المنزع الشعري» عند الشاعرة، ولاسيما في ديوانها «شيء له أسماء» وتتبع محمد الرياحي «حضور المشهد السينمائي» من خلال نماذج شعرية يقترحها لإبراز التقاطع بين البناء الشعري والبناء المشهدي السينمائي، إذ تنخرط كتابتها الشعرية – كما يقول- ضمن الكتابات العابرة للأجناس، التي تطوع الإمكانات التعبيرية في الآداب والفنون المختلفة في سبيل التعبير عن الرؤيا والموقف، غير عابئة بالقوالب؛ «فالقضايا التي تسكن الشاعرة والسياسية والمناضلة أكبر وأجلّ من أن يكبح جموحها وإلحاحها، نمط فني واحد ومنضبط. لذلك فالتجربة الشعرية للشاعرة مليكة العاصمي تتسم بالانفتاح والتركيب، يمكن التعاطي معها من وجهات نظر مختلفة ومن منظورات متعددة».
وقد صدر، بموازاة انعقاد هذه الندوة، كتاب تحت عنوان «شاعرة الأسئلة الكبرى: دراسات ومقاربات لشعر مليكة العاصمي» (منشورات دار الثقافة، الدار البيضاء 2023) أشرف عليه الباحث خالد قدروز، وجاء في تقديمه: «إنه محفل نقدي-قرائي يزخر بدراسات ومقاربات ينحو أغلبها منحى نصّيا تطبيقيا يقتنص أدقّ التفاصيل ويسبر دفائن النص ويحصي الشاذة والفاذة».