فوق الخمسين يوماً هي عمر الحرب الحالية بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال، ولم تزل القضية الفلسطينية تحتل مركز الصدارة، دون منازعٍ تقريباً، في دائرة الاهتمام العالمي ووسائل الإعلام المتعددة، ولم تدنُ منها ربما في الأيام الأخيرة، وإن على استحياءٍ، إلا تطورات الحرب في أوكرانيا في لفتةٍ مفعمةٍ بالدلالة والمغزى.
ولست أبالغ إذ أزعم أن الشعوب العربية قاطبةً، أثبتت أنه على الرغم من تزييف الوعي عن طريق أنظمةٍ تتقاطع مصالحها مع إسرائيل، من منطلق الانضمام للمعسكر الغربي والعباءة الأمريكية تحديداً، منذ زمنٍ أبعد مما تحب هذه الأنظمة أن تعترف به، فإن هذه الشعوب أو الجماهير العربية أو سمها ما شئت، على الرغم من الإفقار والإرهاق، ما زال يربطها ببعضها بعضا الكثير، فهي تتعاطف بعمقٍ وصدقٍ وحرارة، وأنها وقد ردت المقاومة كرامتها، تتابع تطور الأحداث حابسةً أنفاسها بين ألمٍ عميقٍ وغضبٍ أعمق من مشاهد الضحايا (خاصةً الأطفال) والدماء والدمار، ورجاءٍ في أن تُمنى إسرائيل بهزيمةٍ ثقيلة موجعة ومهينة تشفي غليل الناس، والشاهد أيضاً أن الدائرة الإسلامية الأوسع، على امتدادها الجغرافي، تشارك في المجمل في هذه المشاعر المتأججة، لا على مستوى الشعوب فحسب، بل والإدارات أيضاً التي أدهشنا بعضها بتصريحاتٍ وصورٍ من التضامن، فاقت تلك الفاترة المترددة التي لا تقدم رجلاً إلا لتأخر الأخرى، التي تتحفنا بها الدول العربية؛ كما أن التضامن شمل القوى التقدمية في العالم من قبل أناسٍ بلغ بهم الوعي درجةً متقدمةً، وقد سئموا وضجوا من حديث المظلومية الصهيوني، وصاروا يرفضون فكرة ومبرر هذا الوجود الغاصب وجرائمه المتكررة في حق الشعب الفلسطيني والمحيط العربي بصفةٍ عامة.
يحدث كثيراً في مجرى التاريخ أن يُعبِرَ فصيلٌ ما بتحركاته عن تطوراتٍ أعمق في بنية العلاقات الدولية، من دون إدراكٍ من هذا الفصيل لذلك الدور الذي ألقاه عليه التاريخ
بطبيعة الحال ولأهمية الحدث، فقد اتصلت التغطيات والمقالات والتحليلات، طيلة هذه الفترة وانصبت على الحرب بدايةً بعنصر المفاجأة والتطور النوعي المذهل لشعبٍ محاصرٍ، بل سجين، إلا أن السؤال الذي بات يشغلني هو: لماذا الآن أوما مغزى ذلك التوقيت بالتحديد؟ لا شك في أن عرقلة مشاريع التطبيع التي لا تضاهي سرعتها سوى بذاءتها، لعبت دوراً في اختيار التوقيت، إلا أنه في رأيي، أن مجمل التطورات العالمية، وإن لم يؤثر في تحديد الوقت، فقد كان له دورٌ فاصلٌ ومحوري في التمهيد عن طريق خلق المناخ العام، وفي مجمل الاستجابة وتطور الأحداث منذ اندلعت الحرب، ولا بد هنا من التنويه بأنه يحدث كثيراً في مجرى التاريخ أن يُعبِرَ فصيلٌ ما بتحركاته عن تطوراتٍ أعمق في بنية العلاقات الدولية، من دون إدراكٍ من هذا الفصيل لذلك الدور الذي ألقاه عليه التاريخ. باختصار، فالصورة العالمية الأكبر تتمثل في كوننا أمام غروب شمس الإمبراطورية الأمريكية، وانحسار الثقل النسبي للغرب بصفةٍ عامة، وليس ببعيدٍ عن ذلك في رأيي الخاص ما نراه من ضعفٍ وترهلٍ في الطبقة السياسية الأمريكية، عنوانها الأنصع رئيسٌ هرم تنازعه الرئاسة شخصيةٌ إشكاليةٌ هوجاء ومدانةٌ بأحكامٍ قضائية، ترامب، وجملة الفضائح التي بلغت ذروتها في الهجوم على الكونغرس. لو أننا عدنا إلى الوراء قليلاً، إلى بضعة أعوامٍ الماضية، سنجد العديد من الإشارات والتحليلات المبثوثة هنا وهناك، تمثل إرهاصات وعيٍ والتفاتٍ إلى تعاظم دور الشرق، متمثلاً في الصين والهند، بما لهما من ثقلٍ اقتصادي متعاظم، قبالة الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وبالطبع فهذا ليس منبتاً، بل يبنى على تقدمٍ وثقلٍ اقتصادي آسيوي بصفةٍ عامة، سبقتهما فيه اليابان وكوريا ودولٌ أخرى.
في سياقٍ متصلٍ تماماً، يتعين دائماً أن نذكر أنفسنا بأن إسرائيل مشروعٌ غربيٌ استعماريٌ بامتياز، وإن سعى ذلك الكيان لتسويق نفسه مع دولٍ أخرى في صورة خدماتٍ وتبادلٍ للتقنيات، خاصةً السيبرانية والعسكرية، كما هي الحال مع الهند على وجه الخصوص، وفي سعيٍ للاستقلال والانعتاق ربما من بقاء العلاقة مع الولايات المتحدة شرطاً وجودياً، إلا أن بلداً كالصين لا حاجة خاصة به لإسرائيل، وعلاقته مع العرب أكثر طبيعيةً، ولا يحتاج إلى كلب الحراسة ذاك للسيطرة على البلدان العربية وتخويفها؛ كذلك الحال مع روسيا، بل إن شواهد عدة تدل على قابليةٍ وانفتاح لدى هذه الدول (بغض النظر عن رأينا في أنظمتها الحاكمة) للدور الصيني المتعاظم، على الأقل في المجال الاقتصادي الذي قطعت فيه شوطاً بعيداً بالفعل. لقد رأينا بادرةً أو تعبيراً عن ذلك العالم الجديد المتشكل، بما فيه من ميل الميزان نحو الشرق في الموقف من حرب روسيا على أوكرانيا، فقد كان للدورين الصيني والهندي وعلاقتهما الاقتصادية المستمرة مع روسيا، خاصةً في مجال الطاقة، أبعد الأثر في دعم وتعضيد موقفها، على الرغم من كل ما أغدقه الغرب على أوكرانيا، وها نحن نرى اليوم مدى تضعضع الوضع الأوكراني، بل الأهم من ذلك سأم تلك الدول الغربية الداعمة وتساؤلاتها، بل شكوكها عن جدوى استمرار ذلك الدعم.
شيءٌ قريبٌ من ذلك رأيناه في الحرب على غزة، باستثناء الهند للأسباب التي أسلفنا، فهي لا مصلحة لها مع إسرائيل تجد علاقاتها الاقتصادية المتشعبة والمربحة مع الدول العربية، كما أن ضرب أو إضعاف ذلك الترتيب العالمي الرأسمالي الغربي يصب في مصلحتها نوعاً ما؛ من المنطلق نفسه تماماً يتعين أن نقيم أو نفهم إقدام الولايات المتحدة على إرسال حاملتي طائرات، فهي يقيناً ليست لحرب حماس وإنما لمنع نيران تلك الحرب من الامتداد إلى دول الجوار، وردع العناصر المناوئة في هذه الدول من أن تسول لها نفسها الدخول على خط الاشتباكات، كحزب الله مثلاً، وتثبيت الأنظمة التي تدور في الفلك الأمريكي، ومن ثم تأمين مجمل الوضع الإقليمي، أمريكي التخطيط والتنفيذ، ومصادر الطاقة، بل نفهم الضوء الأخضر الأمريكي والغربي في البداية لإسرائيل. لم نعد على أعتاب عالمٍ جديدٍ فحسب، بل خطونا بضع خطواتٍ فيه؛ عالمٌ يؤذن بانكسار الهيمنة والسيطرة الغربية المطلقة، وأحادية القطب التي سادت عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وهو عالمٌ يحمل في طياته العديد من الفرص لنا كعربٍ، كما لغيرنا بالطبع كأمريكا اللاتينية مثلاً، للإفلات من ربقة السيطرة الأمريكية المذلة، ما توفرت الإرادة بالطبع، وهذا شرطٌ ليس بالتافه، والأكيد أن إسرائيل، مهما بلغت قوة ترسانتها، سيتراجع موقفها مع انحسار السيطرة الغربية.
يوماً ما، حين يُكتب التاريخ، فإنني على يقينٍ من أن حرب السابع من أكتوبر ستُذكر كأحد الشواهد على بداية نهاية الإمبراطورية الأمريكية، وخطوة مهمة في طريق تشكل عالم جديد يستعيد الشرق فيه ثقله، الطبيعي والمستحق، عقب قرونٍ من الانكفاء.
كاتب مصري