كيسنجر الآسيوي 

حجم الخط
0

فور إذاعة نبأ وفاة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر عن أزيد من مئة عام، تنشّط انقسام الرأي حوله مجّدداً، بين من يتهمه بالتسبّب بحروب وإبادات وديكتاتوريات وكوارث، وبين من يقدّر للرجل باعه الطويل في الدبلوماسية، وإسهامه في إشاعة النظرة الواقعية إلى العلاقات الدولية.
لكن كيسنجر، وعلى ما تشدّد عليه الدبلوماسية الأمريكية السابقة تيريسيتا شيفر، المختصة بمنطقة جنوب آسيا، «كان أكثر اهتماماً على الصعيد الفكري بالاستراتيجية من الديبلوماسية، ولو أنه أقرّ بحاجته إلى الاثنتين».
والحال أنه لا يمكن إبداء القول والرأي في كسينجر بمعزل عن الالتفات الى منطلقه الفكري – الاستراتيجي هذا، الذي طوّره منذ أبحاثه الجامعية. فهو منشد إلى تجربة الاستقرار النسبي الطويل في أوروبا الذي أمّنته ترتيبات مؤتمر فيينا 1815. يقارن نفسه بهذا المعنى بمهندس أوروبا المحافظة هذه، المعادية لأي انبعاث لنهج الثورة الفرنسية، المستشار النمساوي كليمانس فون مترنيخ.
لقد انبنى استقرار أوروبا بعد إلحاق الهزيمة بنابليون الأول على قاعدة التوازن بين مجموعة من النظم الملكية وحصر الشرعية بالعروش بدلا من اعتبارها مستقاة من إرادة الشعوب. كيسنجر ارتبط بهذه القناعة: إيجاد الاستقرار من خلال التوازن بين الدول القوية. في الوقت نفسه كان لكيسنجر منزع يقول بأن التوازن يمكن خدمته بشكل أفضل إن اتخذ شكل المثلث. أي إذا كانت هناك ثلاث قوى أساسية تتوزع النفوذ فيما بينها. هذا في مقابل الخماسي أو السداسي الذي عرفته أوروبا بعد مؤتمر فيينا، ما سمح في نهاية المطاف بفرط عقد التوازن، وفي مقابل الثنائي القطبي الذي جنح اليه العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى احباط الانتظارات المتفائلة بنظام دولي ذي نفحة ليبرالية في نهايات تلك الحرب. بالنسبة إلى كيسنجر، لا يكون التوازن كلاسيكيا ومتينا الا بأقوياء ثلاثة، ومن هذا المنطلق كان سعيه للتقارب الأمريكي الصيني مطلع السبعينيات. ضرب الثنائية القطبية بالثلاثية كتمهيد لحسم الحرب الباردة لصالح القطب الأمريكي. في الوقت نفسه ظل كيسنجر لا يؤمن بالأحادية القطبية، ولا بالثنائية، ولا بالتعددية، فقط بالمثالثة الكونية. من هنا يُقرأ.
تساءلت شيفر قبل سنوات قليلة إن كان كيسنجر، مع الدور الذي لعبه لترجيح كفة سياسة مد اليد للصين، في عز تطرفها الأيديولوجي زمن الثورة الثقافية، قد تسبب بصعود الصين على الصعيد الكوكبي. وهي ترى أن انفتاحه على الصين سمح بإيجاد الظروف الملائمة لهذا الصعود، لكن العناصر التي تفسر الطفرة الصينية من بعد ذلك ينبغي إيجادها في المسار الذي اجتازه هذا البلد من بعد ماو، والقائم على التحديث الاقتصادي والتكنولوجي من دون التحديث السياسي بالمعنى التعددي – الليبرالي، الأمر الذي كان يصعب للمراقبين الأمريكيين في نهايات الحرب الباردة استشرافه، فهم كانوا يتصورون أن التحديث الاقتصادي والانفتاح التجاري سيقودان لا محالة إلى اللبرلة السياسية.
عندما يتعلق الأمر بالصين لا يعود من المتسع الاكتفاء بالقسمة بين سرديتي «جرائم كيسنجر» و»عبقريته الديبلوماسية». لقد ساهم كيسنجر، بِحثّه إدارة رئيسه ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالصين الشعبية، والحط من التحالف مع تايوان إلى رتبة «العلاقة غير الرسمية»، بالمسار المفضي إلى محاصرة السوفيات أكثر فأكثر، وإلى فتح المجال أمام الصين كما لم يحصل من قبل. في الهند تحديداً هذا نقاش لم ينقطع. تطغى فيه النظرة المستهجنة لصنيع كيسنجر، وتسببه بعزل الهند، بالنقلة السريعة مطلع السبعينيات من العدائية الأمريكية مع الصين إلى التواطؤ معها. وهو ما كان رد الهند عليه بتدخلها لتأمين الاستقلال لبنغلاديش وإلحاق الهزيمة نهاية العام 1971 بباكستان، الدولة اللدود التي أمنت الطريق للتقارب الأمريكي الصيني ويظهر أن كيسنجر أعلم الصين وقتها بأن بلادهم لن تمانع تدخل بكين ضد الهند لإنقاذ باكستان وهو ما لم تقدم عليه الصين.
كيسنجر مسؤول بهذا المعنى عن تقوية الصين على حساب الهند، وبشكل استراتيجي في آسيا، ما اضطر الهند حينذاك لأن تزداد تقربا من السوفيات، ولأن تمضي قدماً في اتجاه القنبلة النووية (ما فاقم عزلها غربيا في السبعينيات)، كما في إطار تدهور حال الديمقراطية فيها منتصف السبعينيات مع فرض أنديرا غاندي حال الطوارئ وتجميدها النظام الدستوري التعددي لعامين.
الا أن هذه الضغينة الهندية تجاه كيسنجر لا تلغي في المقابل النظرة الأخرى التي تقول بأن من تسبب بكل هذا هو جواهر لال نهرو وسلالته، وتحديدا حين تمنع نهرو مطلع الخمسينيات عن الانخراط بالحرب الباردة إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، ما أسهم بإضعاف موقفها في الحرب الكورية، واشتداد نقمتها من ثم على الهند.

فور إذاعة نبأ وفاة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر عن أزيد من مئة عام، تنشّط انقسام الرأي حوله مجّدداً، بين من يتهمه بالتسبّب بحروب وإبادات وديكتاتوريات وكوارث، وبين من يقدّر للرجل باعه الطويل في الدبلوماسية

يبقى أن النظرة التي تحمل على كيسنجر لأنه غلّب الصين الشعبية على الهند هي التي تطغى إلى الآن. في المقابل، تبرز مقاربة للديبلوماسي السينغافوري كيشور مهبوباني عنوانها الأبرز، أن «البراغماتية الواقعية» التي انتهجها كيسنجر واستمرت بعده حتى نهاية الحرب الباردة ساهمت بالفعل بالتوازن والاستقرار وبعنف أقل في آخر عقدين من الحرب الباردة، في مقابل النظرة «المثالية الليبرالية» التي سادت في عقود ما بعد الحرب الباردة، والتي أدت إلى مفعول عكسي. وبالتالي، يطرح مهبوباني ضرورة استعادة نهج الواقعية البراغماتية الكسينجري من أجل احتواء دور الصين المتصاعد، لأن ما حدث هو أن دور الصين خرج عن السيطرة بعد تراجع الواقعية البراغماتية وليس في زمن اعتمادها.
كمستشار للأمن القومي سعى كيسنجر نهاية الستينيات للتقارب مع فيتنام قبل الصين. فهو مساهم أساسي في بلورة «عقيدة نيكسون» في يونيو 1969 التي أعلمت الولايات المتحدة حلفاءها الآسيويين على أثرها بأن عليهم من الآن فصاعدا بتأمين العديد للحروب، ولأمريكا أن تكتفي بمدّهم بالعتاد والمال، لا القتال بدلا عنهم. ترجم ذلك بتخفيض الوجود العسكري في فيتنام الجنوبية وفتح خط تفاوضي سرّي تولاه كيسنجر مع فيتنام الشمالية. لكن هذه المفاوضات اصطدمت بتصميم هانوي على ضم الجنوب، ورفض فكرة دمج الفيتكونغ الموالين لها فيه بنظام جديد ينبثق عن انتخابات مراقبة دولياً. لقد أدى اصطدام المفاوضات الأمريكية الفيتنامية الشمالية بالحائط إلى تغليب الرأي القائل بضرورة الانفتاح على الصين. هذا في وقت أدى فيه هذا الاصطدام إلى توسع الحرب الفيتنامية إلى كمبوديا. كذلك، كان للاصطدام العسكري بين السوفيات والصينيين عام 1969 دور في جعل الصين متحينة لوصول كل من كيسنجر ثم نيكسون إليها. اليوم في فيتنام أيضاً هناك نقاش حول إذا كانت المسارعة إلى رفض مقترحات كيسنجر وقتها قد تسببت بفتح المجال لدور صيني متعاظم ارتد سلباً على فيتنام بعد ذلك، حين اجتاح الصينيون شمالها عام 1979.
أياً يكن من شيء يبقى أن زيارة كيسنجر إلى بكين في يوليو 1971 أسرعت بإنهاء القرن العشرين قبل أوانه، وبولادة قرننا بشكل مبكر للغاية. لقد وافق نيكسون على هذه الزيارة رغم كثرة شكوكه آنذاك حيال مؤهلات كيسنجر التفاوضية، بخاصة بعد فشل الأخير مع الفيتناميين. لكنه كان معجباً بقدرة كيسنجر على الكتمان. والزيارة كانت سرية للغاية، وعلى نحو سينمائي. إذ كان المعلن وقتها أن كيسنجر يزور العاصمة الباكستانية وأن أزمة صحية ألمت به استدعت نقله إلى المستشفى. والحقيقة أنه انتقل وقتها إلى بكين. وما بين زيارتيه لبكين في بداية الصيف 1971 ومنتصف الخريف، كانت الصين التي تمر بفترات التخبط الداخلي جراء ثورتها الثقافية تشهد تصفية لين بياو، الذي كان يعدّ سابقاً لوراثة ماو، والذي جاءت زيارة كيسنجر تشعره بأن ماو أخذ يتقرب للأكثر اعتدالا على حسابه.
وربما يكون لين بياو، الرجل القوي في الجيش والحرس الأحمر، حاول ساعتها الاتصال بالروس، ما استدعى تحطم طائرته. لقد سقط نابليون الثورة الصينية صريعاً بين زيارتين لكيسنجر. الخاسر الآخر كان حزب الكيومنتانغ في تايوان. فقد سُحِب من تحتهم البساط، هذا قبل أن يسهم الانتقال من مرحلة الواقعية البراغماتية بل السينيكية مع كيسنجر إلى المثالية الليبرالية بعد نهاية الحرب الباردة، في إعادة تدوير الحاجة إلى تايوان غربياً، هذه المرة بتقديمها لا كحزب وطني صيني ينازع الشيوعيين على الشرعية الإمبراطورية في البر الصيني، وإنما كتجربة ديمقراطية ليبرالية تسعى للانفصال بالكلية عن «مفهوم الصين».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية