بدءا أقول إنّ هذا المقال ليس أكثر من محصّلة قراءة في تاريخ مائة عام من المقاومة الفلسطينيّة التي لم تكن كلّها مسلّحة كما يقع في الظنّ عادة؛ وإنّما هي في جانب آخر قد يغفل عنه بعضنا في خضمّ هذه الأحداث المتتابعة منذ انتفاضة الأقصى الأولى، ثقافيّة أيضا؛ كما يبيّن ذلك الأستاذ الباحث قسطندي الشوملي في دراسة له عميقة، اطلعت عليها بالفرنسيّة. بل في عمل إبداعيّ فذّ هو رواية «أرض كنعان» للكاتب الفلسطيني المرموق عبد الكريم السبعاوي، وقد طلب منّي، لحسن ظنّه بي، أن أقوم بتقديمها؛ وقد فعلت، ونشرت الرواية عام 2021 في أكثر من 800 صفحة، مع تقديمي الذي يقع في 15 صفحة. وهي تضمّ رباعيّته المتكوّنة من «العنقاء» و«الخلّ الوفيّ» و«الغول» و«رابع المستحيل». لأقل إذن إنّ مقالي هذا مراوحة بين هذين الفلسطينيّين: الباحث والمبدع. وأقدّر أنّ عملهما مادّة غنيّة لسيناريو سينمائي محكم، أو مسلسل يروي ملحمة فلسطين.
صحيح أنّ هناك فروقا وظلالا خفيّة دقيقة بين عالمي البحث الأكاديمي المكتوب بلغة المفاهيم والأدب الروائي والسينما؛ فعالم الرواية إيهامي داخليّ، فيما الثاني طبيعيّ خارجيّ، والرواية تظلّ مسرودة في صيغة الماضي، حتى إن توخّى صاحبها صيغة المضارع؛ في حين أنّ السيناريو يُكتب في المضارع، لأنّ دلالة المضارع في الأصل دلالة استقبال.
وقد توخّى السبعاوي كما يفعل كبار الروائيّين المعاصرين، أسلوبا أقرب ما يمكن إلى السيناريو، سواء في تغيير التتابع الزمني للأحداث وقطع تدفّقها، أو في معالجة المكان والزمان، حيث يحكم الانتقال من مكان إلى آخر، ويضغط الزمن أو يمدّه؛ كلّما لزم.
والزمن الفلسطيني يبلغ ما ليس يبلغه من نفسه الزمن، وإن كنّا ننطلق في حدّه، من الأزمنة الحديثة، أي من نهاية الحرب العالمية الأولى حيث أصبحت فلسطين تحت انتداب بريطانيا العظمى، ومن وعد بلفور عام 1917 القائم على بعث وطن قوميّ لـ«الشعب اليهودي» في فلسطين. وكانت الأراضي الممنوحة لبريطانيا عام 1922 تشمل فقط المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن، وشرق الأردن دولة منفصلة قائمة بذاتها. والانتداب نفسه عمليّة تاريخيّة معقّدة مردّها إلى التدخّل الأوروبي من جهة، وإرث الخلافة العثمانيّة من جهة أخرى، فضلاً عن النسيج الفلسطيني الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المحلّي الذي يبرع السبعاوي في وصفه وتصويره وتوثيقه، وهو ينقلنا من فترة إلى أخرى حيث نقف على الهجرة الجماعيّة لليهود حتى الحرب العالميّة الثانية، وعلى صور وأوجه من التحالف بين الإنجليز والصهاينة، مثلما نقف على مقاومة المثقّفين من كتّاب وشعراء وصحافيّين، والزعماء الفلسطينيّين للانتداب، منذ ما عرف بأحداث حائط المبكى، وانتفاضة 1929، وتمرّد 1933، وثورة القسّام 1935، والثورة الشعبيّة 1936. وهم الذين أذكوا المشاعر الوطنيّة، وحافظوا على الشعلة الوطنيّة حيّة رغم القمع والرقابة العسكريّة التي كانت مسلّطة عليهم، والقيود التي كانت تكبّل التعليم، والصعوبات الماليّة وشتّى العراقيل التي كانت تحول دون طباعة الكتب ونشرها.
وقد شهدت الفترة الممتدّة من الحرب العالميّة الأولى إلى الحرب العالميّة الثانية ظهور الطبقة الفلسطينيّة الوسطى، ونوعا من التنمية الاقتصاديّة والتغيّر الاجتماعيّ؛ ممّا كان له أثر كبير في تطور الحياة الثقافيّة، وفي الحركة الصحافيّة التي أفسحت المجال للآراء السياسيّة والثقافيّة بالمعنى الواسع للكلمة، ونهضت بمقوّمات الهويّة الوطنيّة والمجتمع الفلسطيني معا. ومن خلال مضاعفة المعلومات عن الحياة والثقافة الفلسطينيّة في ظلّ الانتداب، توفّر الصحافة مفاتيح مهمة لفهم التحوّلات التي ميّزت المجتمع خلال هذه الفترة. ويبيّن الشوملي أنّه خلال العقود الثلاثة التي فصلت بين الحربين، من عام 1917 إلى عام 1948، كانت الصحافة في فلسطين أي تلك التي تصدرها الحركة الوطنيّة وقرينتها التي تصدرها المؤسّسات الدينيّة، وسيلة التعبير الرئيسَة، إن لم تكن الوحيدة. كانت هناك حياة سياسيّة وفكريّة وثقافيّة حيّة تتسع للموالين للحكومة، ولتيّار القوميّة العربيّة واليسار الاشتراكي والوطني، وللمقرّبين من مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، والآخرين المناصرين لراغب النشاشيبي.
وكانت هناك الجمعيّات الأدبيّة مثل جمعيّة نجيب ناصر «الحلقة الأدبيّة» في حيفا، و«مقهى الأدباء الصعاليك» للسكاكيني، وكان ملتقى للأدباء القادمين من البلاد العربيّة. وكانت هناك الأندية مثل النادي العربي في القدس والنادي الأرثوذكسي في غزّة، ورابطة الأدب الجديد التي أنشأها كمال الكيلاني عام 1933، ودار الإذاعة حيث أشرف الشاعر ابراهيم طوقان على القسم العربي، في القدس عام 1936؛ ومجلّتها «المنتدى» التي صدرت عام 1940.
وهو ما توثّقه رواية «أرض كنعان» التي تغطّي مساحة زمنيّة كبرى (مئة عام من تاريخ فلسطين)، وتشتمل على شخصيّات عديدة؛ ولكنّ السارد يكتفي بوضع عدد محدود منها في الصدارة، على أساس دورها الأساسي والمفصلي في مجريات القصّة، مثل يونس وقد تلفظه حوت اسمه الصحراء، وجوهر واليهودي صاحب الحمام، وسارة والباشا درويش متصرّف غزّة، وشيخ المشايخ تيمور الضرغام وغلامه يلماز، وشهوان ومريم، وفاطمة التي أحبّها يونس، وعلي الطاهر وعبد الوهاب والجازية، ونظمي بيك وحاييم وراضية وعبد الحميد وإسماعيل، والشيخ وحيد البتير وأحمد عارف الحسيني وسعدة، ومحمد هاشم واليوزباشي عزت… ولكلّ منهم قصّ مثل قطب الغوث وبدرية وخديجة وطفلها أحمد، وعزيزة وشريفة ويوسف سليل الأسرة اليافاوية، ونزلاء بانسيون روزا، ومدحت وهبة وفتوحاته النسائيّة وصديقه إلياهو في بار شالوميت، وينجت والحروب التي خاضها أو شارك فيها، والشملول والعمّ رزق، والمفتي محمد أمين الحسيني… وغير هؤلاء من شخوص كثيرة يرسمها الكاتب، بشتّى ملامحها وسماتها. على أنها أسماء تخيّرها السبعاوي بعناية لا تخفى؛ إذ لا يخفى أن الاسم في الرواية هو «سيد الدوال»، لما له من دلالات إيحائية أو كنائية. وكل هذا يسوقه الكاتب وهو يحرص على إبراز فردية كل شخصيّة من هذه الشخصيات وتفردها إبرازا قويا؛ ويتولى توجيهها بحسب علاقاتها بمجمل الشخصيات. فالرواية تتمثّل أكثر من ناحية من تاريخ فلسطين وبلاد الشام عامة وتاريخ العثمانيين والانتداب البريطاني، وعالم المقاومة الفلسطينية، والحرب التي خاضها العرب من أجل فلسطين: «الثوار اقتحموا معتقل صرفند وأطلقوا كل سجنائه.. بريطانيا العظمى بدأت في سحب قواتها من فلسطين إلى قاعدتها في قبرص».
بيْد أنّ الرواية لا تقدّم دائما المقاوم من حيث هو النموذج الإنساني الفائق في عالم المثل، أي ذاك الذي يخرق القوانين الطبيعيّة أو الشخصيّة الملحميّة، التي تضفي على البطولة معناها، وإنما هي تتمثّل أكثر صورة الفلسطيني المتماهي بخطابه، أكان دينيّا أم غير دينيّ، وصورة مكانه الجغرافي وفضائه التاريخي «غزّة» حتى أني لا أتردد في نعت هذه الرواية الاستثنائية بـ«الجغرافيّة/ التاريخيّة». وهذا الحوار مثال من بين أمثلة كثيرة، تعزز من وجاهة ما أسوقه: «كم عدد اليهود في هذه المدينة يا (شمعون)؟ – أربع عائلات فقط يا سيدي و(سارة) وأمها، وعائلة (كوهين) تتاجر بالذهب والفضة، وعائلة (عدس) تتاجر بالغلال، وعائلة (روكز) تتاجر بالقماش، وعائلة (يعقوب) وهي عائلة محسوبك».
ولا يتردّد السبعاوي في تقديم مساخر الممسوخين في عالم اضطربت قيمه ومثله. ولذلك نقف في الرواية على المضحك والغريب، وكلّ ما هو متنافر في تجسيد بعض الشخصيّات. وعليه فلا غرابة أن ينزع الخطاب فيها إلى الكلام الشفهي (اللهجة الفلسطينية)، والسخرية والطرفة الشائعة.
«أفقر العائلات جميعا – يسكنون غزة وقراها؟ الذهب والفضّة والغلال والقماش.. ماذا تركتم لعشرين ألفا – تركنا لهم الصحة والستر.. لا نسمعهم يطلبون في صلاتهم غيرها يا سيدي». مثال ذلك أيضا الإشارات الدقيقة الدالّة، مثل استشهاد القسّام، وتصوير حرب تحرير فلسطين الأولى التي خاضها العرب: «نصب الراديو على الطاولة المخصصة له وشبك اليريال.. وجه مؤشره على المحطّة.. انطلق صوت المذيع: القوات المصريّة التي عبرت حدود فلسطين تدخل مدينة بيت لحم لتصبح على بعد عشرة كيلومترات من تل أبيب.. القوات الأردنيّة تستلم مدن اللد والرملة والقدس من جيش الجهاد المقدّس، وتستحكم في مواقعهم التي تطوّق حارة اليهود.. سكّان المستوطنات يفرّون إلى تل أبيب بعد اجتياحها من قبل الجيوش العربيّة.. أمريكا وبريطانيا تضغطان على العرب في مجلس الأمن لقبول الهدنة».
أمّا هذه الوحشيّة الإسرائيليّة التي لن تنسى، فليست بظاهرة جديدة، في تاريخ المقاومة الفلسطينيّة، بل هي مظهر من مظاهر البدائيّة والمتوحّش في المستعمر، منذ احتلال فلسطين.
*كاتب من تونس