لا تُغمض عينيك عمّا ترى. أنظر. الوعي أهمّ من المعرفة. لا تبتذل المشهد الفجائعي الفلسطيني بآراء لا جدوى منها. إفهم المقصود من الدمار والخراب، والموت والفاجعة. هذا لا يحدث عبثاً. ليس ثمّة عبث في الواقع. ما تراه ليس مسرحية، إنه الموت الأحمر الذي يعانيه الفلسطينيون. يعانونه ظلماً، وبمعرفتنا نحن الذين نشاهدهم يعانون، ولا نفعل شيئاً. لا جدوى من الصمت، ولا من الانفعال المكبوت. لا من المعاضدة، ولا من التوتر الفارغ. لا من الانحياز، ولا من عدمه، أيضاً. المسألة أكبر من هذه المفهومات كلها. إنها مسألة الحق في الحرية والوجود. والموت العاصف الذي يلفّ الفلسطينيين لا تُواجِهه إلا الحياة، الحياة الواعية التي أدركتْ سبب وجودها وضرورته: المقاومة. وهو ما يفعله، اليوم، الفلسطينيون الأُباة، في وجه الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الطامع في ابتلاع أرضهم، وإبادتهم، قبل أن يتفرّغ للجيران: قبائل العرب المسمّاة دُولاً، تلك التي لا تزال غائبة عن الوعي، بلْ هي دول صورية بلا دَوْر تاريخي يُذكَر. «قبائل اقتلْ جاري، لكن، دعْني أحيا، أحيا ولو بلا أمل في النجاة».
لا تَسْتسْهِل القِلّة، ولا تأمن إلى الكَثْرة. حال العالم العربي اليوم تشبه حال هنود أمريكا حينما غزاها الأوروبيون في أواخر القرن الخامس عشر. كان الغُزاة قِلّة في مواجهة قارة راسخة الحضارة، عديدة الأقوام: الإنْكا، المايا، الآزْتيكْ، لكي لا نذكر إلا القبائل العظمى منهم. بخبث لا مثيل له إلا خبثهم الآن مع قبائل العرب اللاّهية، فَرّق غُزاة أوروبا الدمويون بين الممالك الهندية إلى أن قضوا عليها جميعاً. قضوا على الامبرطوريات التاريخية، واحدة بعد أخرى، مستغلّين الخلافات التافهة بين مكونات الهنود الذين لم يكونوا يعرفون ما هو الاستعمار، وبالخصوص في شكله الاستيطاني اللاإنساني، الذي نعرفه نحن الآن. نحن «هنود الشرق» الذين نعرف أكثر ممّا يعرف الناس، كلهم، مآسي الاستعمار وويلاته، لماذا نتفرّج خانعين على تدمير غزة، وإبادة سكانها، بقوة الحديد والنار، دون أن نحرّك ساكناً؟ هل هو الخوف؟ أم هو العمى، أم هو الجهل؟ أم هو الاستسلام الخائب لمن يريد أن يُبيد أهلنا، ونحسب أنه لن يؤذينا، كما حسب، قبلنا، الهنود الذين «كانوا أبرياء»؟ لكننا، نحن، لسنا أبرياء من دم أهلنا في غزة مهما تدبَّرْنا من أعذار ومهاترات. المقاومة لا دين لها. والسياسة بلا استراتيجية تاريخية عبث محض، حتى لو دَرّتْ مليارات الدولارات. النقود ليست وعْياً اجتماعياً، ولا هي حِكْمة، ولا هي حضارة حتى لو بَنتْ أبراجاً من زجاج، وإن كانت تساعد الحاكم على قهْر المحكومين، ويمكن لها إن تنشئ مهرجانات باذخة، وبرّاقة، لكن بلا مستقبل، أو إبداع.
والآن، ها هم الفلسطينيون يتعرضون لغزو استعماري بواسطة قوّة صهيونية «سبارطية» مدعومة من الغرب العتيق بمنطقه الحديث المفعم بالزيف، مرتكزة على مزاعم دينية واهية، واعتبارات أسطورية بلا يقين. ونحن نبدو لا مبالين، أو لسنا مُبالين بما فيه الكفاية. لا حول لنا، ولا قَوْل. وحده، فعل المقاومة الفلسطينية الشجاع، الذي هو فعل جسدي حيّ، وليس فكراً لاهوتياً ميتاً، يمنحنا بصيص أمل يتراءى لنا في نهاية النفق الذي تفرضه علينا همجية هذا الاستعمار الجديد اللامعقول. المقاومة، إذن، وليس الثروات الباذخة التي لا جدوى فيها دون حرية، هي هدفنا المجيد. ومع ذلك، ما نزال نتفَرّق صامتين، متابعين استسلامنا للكارثة التي ستجتاحنا، قريباً، بلا ريب، وربما، تُلقي بنا في مهاوي العدم.
وفي النهاية، إذا لم يكن انحيازنا للدفاع عن أهل غزة المظلومين حقّاً بسبب الانتماء الإنساني، والغيرة الأخلاقية، والوضع الجغرافي، فليكن من أجل العدالة.
كاتب سوري