كتب الروائي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني روايته «رجال في الشمس»، ولم يكن مضى على نكبة فلسطين سوى بضعة عشر عاماً (العام 1963). كانت سنوات تراجيديّة، طويلة بما يكفي (من كان يتخيل أنها ستمتد إلى 75 سنة!) لتمتلئ بصرخات بالغة المأساوية، ملوّعة، مخيَّبة بعد عقود من نضال امتدَّ منذ ما قبل النكبة، وما توقف حتى اليوم. ولم تكن ثورة الفلسطينيين قد انبلجت بعد. كانت خاتمة «رجال في الشمس» صيحة، ما زال صداها يتردد في كل صوب: «لماذا لم تدقوا جدران الخزان»! عبارة مُعَذِّبة سكنت في وجدان الفلسطينيين منذ ذلك الوقت، ذلك أن فيها قدراً هائلاً من اللوم والتقريع، لا يشبهه إلا اللوم الذي تلقاه سعيد س، بطل رواية «عائد إلى حيفا» (1969)، من ابنه المتروك في حيفا، والذي سيحمل اسم دوف، الجندي في الجيش الإسرائيلي.
كانت العصابات الصهيونية في عام النكبة، قد اتّبعت في حيفا ما درجت عليه في مختلف القرى والمدن العربية التي طردت سكانها؛ كانت تحاصر البلدة، ترتكب فيها أفظع المجازر، ولا تنسى أن تترك طريقاً واحداً للهرب، للخروج من البلاد. هكذا حشرت العائلة الحيفاوية في مكان بعيداً عن البيت، بعيداً عن الطفل المتروك هناك، وحيداً بلا حول، لتدفع العائلة بعيداً عن البيت، وعن ولدها الرضيع خلدون. وعندما تعود العائلة، بعد 19 عاماً، بعدما أتاحت هزيمة الـ 67 للأسرة الحيفاوية العودة (ويا لها من مفارقة! أن تتمكن الهزيمة من لمّ شمل الفلسطينيين) للبحث عن خلدون. وكان الأخير ما زال في البيت، والبيت تقريباً على حاله، لكن البيت والابن الآن لعائلة إسرائيلية، وبعد جدال، قال خلدون/دوف، لأبيه (البيولوجي): «كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا، وإذا لم يكن ذلك ممكناً فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا طفلاً رضيعاً في السرير».
وفي «رجال في الشمس» كان التقريع ذاته، لرجال قضوا في حجرة خزان ملتهبة، على أمل عبور الحدود الصحراوية إلى جنة الكويت. دقائق فقط في صمت الخزان ولهيبه كانت كفيلة بأن يعود أبو الخيزران، والذي أراده الكاتب فلسطينياً هو الآخر، مهزوماً يريد أن يقود الجميع إلى الهزيمة، أن يعود ليجد الفلسطينيين الثلاثة جثثاً هامدة.
قاد صهريجه نحو أقرب مزبلة، ليرمي هناك، فوقها، بأبو قيس، وسعد، ومروان، الفلسطينيين الحالمين، الهاربين، الخائبين.. وفي قلب الصحراء رمى أبو الخيزران بصرخته اللاذعة اللئيمة: «لماذا لم تدقوا جدران الخزان». شقّت العبارة وحدها مسارها الخاص بعيداً عن الرواية. بَنَتْ لنفسها مكاناً، كالعبارات الشكسبيرية التراجيدية العابرة للأزمان والأجيال. استهلكت وقتاً ومناظرات وكتابات تفكّر في المعنى الذي قد يكون الكاتب يرمي إليه، وكان من بين التفسيرات العديدة أن الكاتب إنما أراد أن يتوجه للعالم بالقول: «لماذا لم تسمعوا طرقات جدران الخزان»، إذ لا يمكن أن يكون الفلسطينيون الثلاثة قد ماتوا من دون أن يصرخوا، أن ينادوا، أن يخبطوا بأقدامهم، أن «يلعبطوا» على الأقل. لا بد أنهم فعلوا كل ذلك، فيما «أبو خيزرانة»، كما راح يناديه موظف الحدود، فيما يخوضان بثرثرة ثقيلة ومائعة. ولا بدّ أن الصحراء الرملية اللاهبة، والشاسعة بلا أمل، لم تجب بغير الصدى.
في الواقع، لم تكن عبارة أبو الخيزران منصفة، فما الذي يفعله الفلسطينيون منذ حوالى قرن سوى أنهم يصرخون، بمختلف ألوان القول والصراخ، سوى أنهم يدقون الجدران، مختلف أنواع الجدران.
فيما العالم لا يكتفي بإشاحة الوجه وحسب، إنما قد يسهم أيضاً في قتل الصوت، وكتمه، ومطاردته. وإذا تحدثنا عن المذبحة الجارية تحت سمع وبصر العالم، على راداراته وشاشاته، فهل من حجة سيرمي بها العالم يوماً تقول إن الفلسطينيين لم يدقوا، أو لم يدقوا بالقدر الكافي؟! فليست الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي وحدها تدقّ، فلسطينيو العالم الغاضبون (الفلسطينيون ومن في حكمهم) ملأوا الشوارع والساحات ووسائل النقل العامة بالصراخ والأعلام والكوفيات ومختلف أشكال النداء.. بشكل متواصل منذ 65 يوماً. قبل سنوات فقط كانت صورة واحدة لضحية، صورة الطفل إيلان الكردي ميتاً على الشاطئ إثر انقلاب قارب مهاجرين، كفيلة بأن تقلب الدنيا، صورة واحدة دفعت بأوروبا لتبدل سياستها بخصوص اللاجئين، وأن تشرع مختلف الأبواب لهم بعد صورة إيلان، المؤثرة والحزينة بلا حدود. نحن اليوم أمام سيل يومي هائل من صور غزة وفيديوهاتها، كل صورة، كل فيديو، كفيل بأن يقلب الكرة الأرضية برمتها.
غزة موزعة الآن في كل مكان في أرجاء الكوكب، تدق، تدق، بأعلى ما في الصوت، ولكن لا حياة لمن تنادي، وعلى وجه الدقة: لا قلب ولا ضمير.
٭ كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»