عمان ـ «القدس العربي»: لا يحتاج المشهد الأردني السياسي للإغراق في المشاهدات والتكهنات والتحليلات، فالنص الملكي الذي خاطب الجميع على مستوى المواطنين والمؤسسات وأجهزه الدولة واضح مباشر وصريح مساء الإثنين في لقاء مهم سيادياً مع نخبة الجنرالات. من هي الفئات التي تمثل الأصوات التي دعا الخطاب الملكي لعدم الالتفات لها وهي تحاول إبعاد الأردن عن خدمة الأشقاء والدفاع عنهم؟
سؤال في غاية الأهمية يمكن طرحه في المجال الحيوي السياسي فقط داخلياً أعقب طرح تلك المداخلة الملكية على هامش لقاء مع عدد كبير جنرالات الوقت الحاضر ونخبة من جنرالات عسكريين وأمنيين متقاعدين في لقاء حيوي. مجدداً، ألح سياسيون ومراقبون على طرح السؤال نفسه عن ماهية تلك الأصوات التي يدعو الخطاب الملكي لتجاهلها، بمعنى تجديد الالتزام الحرفي المنتج بالوقوف مع الشعب الفلسطيني أردنياً.
الإجابة قد لا تكون واضحة أو مباشرة، لكن مجرد صدور مثل هذه الدعوة في لقاء عسكري أو مع رموز المجتمع من الطبقة التي خدمت في مواقع سيادية، يعني أن هناك بعض الأصوات وعلى الأرجح في المجتمع النخبوي في الداخل والخارج هي التي تريد إبعاد الأردن عما يسميه بعض أجنحة التيار الليبرالي بالمستنقع الفلسطيني الآن.
تداعيات ومخاطر
وهنا تأكيد على الثوابت المعلنة المتعلقة بطبيعة فهم الأردن لتداعيات ومخاطر العدوان والقصف الإسرائيلي الهمجي حالياً على قطاع غزة، ثم طبيعة فهم الأردن أو قيادته العميقة لمآلات وتداعيات هذا العدوان وانعكاساته المحتملة على القضية الفلسطينية.
من حيث المضمون، كان لقاء الجنرالات في القصر الملكي حيوياً ودفع شخصية خبيرة وعسكرية مسيسة مثل وزير الداخلية الأسبق وعضو البرلمان مازن القاضي، إلى تعليق يختصر الكثير من مسافات التحليل وهو يتحدث عقب اللقاء عن «دبلوماسية مبطنة بالتهديد» وفقاً لصحيفة «عمون» المحلية.
لأي جهة موجه التهديد الذي قصده القاضي هنا؟ هذا أيضاً سؤال فرعي لكنه مهم. والمقصود طبعاً التهديد على أساس الثوابت؛ بمعنى أن الأردن لا يقول لهجتين في سياق المسألة الفلسطينية، لا في الغرف المغلقة ولا في الإعلام، ولا باللقاءات المحلية ولا بتلك المشاورات مع المجتمع الدولي.
الأردن كما قال يوماً لـ «القدس العربي» رئيس الوزراء الحالي الدكتور بشر الخصاونة، يتحدث خلف الستارة وأمامها بلهجة واحدة في الموضوع الفلسطيني، والأردن كما قال عدة مرات القاضي نفسه لـ «القدس العربي» في موقع جيوسياسي يدفعه طبعاً للاحتراز والتحفز والمراقبة.
لكن القاضي من المؤمنين بأن أحداً في العالم أو في المجتمع الدولي أو حتى بين القوى الكبرى أو القوى الأساسية في الإقليم يمكنه معالجة أي ملف في إطار السعي للاستقرار والأمن في الإقليم دون الأردن ودوره واحتياجاته الأساسية.
رسائل عميقة
من هنا يتحدث القاضي عن تلك الدبلوماسية المبطنة بالتهديد، فالملك في لقائه مع الجنرالات بالقصر طرح عدة رسائل عميقة. وأولى تلك الرسائل أو على رأسها تلك التي تقول إن الأردن في الاستعصاء ضد مشروع اليمين الإسرائيلي؛ بمعنى أن المملكة لن تسمح بحالة تحل فيها القضية الفلسطينية على حسابها. طبعاً، قالها الملك وهي مكررة بالمناسبة في إطار طمأنة الرأي العام، لكن تكرار هذا الموقف الآن وفي الوقت الذي يعلن فيه الجيش الإسرائيلي سعيه لتغيير الوضع في قطاع غزة وفي جنوب لبنان، مؤشر حيوي ليس علي الثابت الملكي الأردني فقط، لكن على جمع الوسائل والتقنيات وكل أوراق القوة في الاتجاه المعاكس لمخططات اليمين الإسرائيلي، بدلالة أن هذا الكلام لم يكرر مع مسؤولين مدنيين، بل مع شخصيات سبق أن خدمت على مستوى رؤساء الأركان في المؤسسة العسكرية وعلى مستوى مديري الأجهزة الأمنية.
والمقصود أن تصل الرسالة طبعاً بالمعنى السيادي هنا. وعنوان الإطار الذي يمكن الاستدلال به هو ذلك الذي يقول إن الأردن جاد في التصدي لمشروعات اليمين الإسرائيلي، وإن أي محاولة لتصفية القضية الفلسطينية على حسابه سيعقبها استعداد تام للاشتباك حتى سيادياً أو عسكرياً. وهو الاستنتاج الذي سبق أن ناقشت فيه «القدس العربي» رئيس الديوان الملكي الأسبق الدكتور جواد العناني، في مناسبة مماثلة لأدبيات الخطاب الملكي نفسه.
وكان رأي العناني الذي كتبه في أحد المقالات ثم علق عليه وناقش تفصيلاته مع «القدس العربي» أن الأردن يحدد مساحته ومصالحه وثوابته، وأن موقف المؤسسات المرجعية فيه يصل إلى حد الاستعداد للاشتباك عسكرياً إذا ما انتقل الخطر إلى المملكة.
وتفسير انتقال خطر اليمين الإسرائيلي إلى المملكة معروف اليوم، ولا يستطيع الأمريكي ولا الإسرائيلي ولا رموز تلك الأصوات التي يدعو الملك مباشرة وبصراحة لعدم الالتفات لها، إنكار التعريف الأردني؛ فقد سبق أن قيل عدة مرات بأن التهجير خط أحمر وأن انتقال الصراع إلى الضفة الغربية وتهجير السكان منها إعلان حرب على الأردن.
يعني ذلك ببساطة، أن لقاء القصر مع جنرالات الماضي والحاضر هو رسالة للخارج بمقدار ما هو تثبيت للثوابت في القضية الفلسطينية للداخل، لكن التحذير الأهم هو لتلك الأصوات التي ينبغي أن تسمع ما قيل في ذلك الاجتماع الاستثنائي الأهمية.
وهي نفسها الأصوات التي قال الملك بعدم الالتفات لها وهي تحاول إبعاد الأردن عن خدمة الأشقاء والدفاع عنهم.
وفي باب التحليل، يمكن القول إن الحديث هنا عن بعض المدارس الدبلوماسية والسياسية في الداخل الأردني، وعن أصحاب بعض الاجتهادات بما فيها اجتهادات بعض الموظفين البيروقراطيين التي تؤمن مجدداً بأن الخطة الأمريكية في القضية الفلسطينية «قدرية» أو تقترح البقاء في «التكيف» فقط مع الأمريكي والإسرائيلي. والنص المرجعي في حوار الجنرالات لا يقبل الاجتهاد، وما ألمحت له «القدس العربي» في تقرير سابق لها، يتكرر من زاوية تحديد مسارات التكيف بعد الآن في إطار الثوابت المعلنة فلسطينياً.