ثمة أسئلة طرحت بخصوص خلفيات زيارة جوشوا هاريس مساعد وزير الخارجية الأمريكي إلى الجزائر، وهل تهم العلاقات الجزائرية الأمريكية، أم تتعلق بمنظور استراتيجي أمريكي للمنطقة؟
قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، حدثت تحولات كبرى في منطقة الساحل جنوب الصحراء، غيرت بشكل كبير المعادلة الأمنية والعسكرية والاستراتيجية في المنطقة، فالانقلابات التي حصلت في مالي، وبوركينافاسو، والنيجر، وإفريقيا الوسطى، اعتبرت مؤشرات على توسع روسي في المنطقة، فيما اعتبر الانقلاب في الغابون، مجرد تغيير في بنية السلطة.
قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، كانت الاستراتيجية الأمريكية والأوروبية، تركز على مزيد من الضغط على الجزائر من أجل منعها من تقديم دعم لوجستي لروسيا في المنطقة، وكانت ورقة الغاز الجزائري، تخفف هذا الضغط وتمنعه من الوصول إلى إدارة صراع حدي مباشر معها، إذ نجحت واشنطن والعواصم الأوروبية بإقناع الجزائر بلعب أدوار معاكسة لرهانات روسيا في المنطقة (تأمين الغاز لأوروبا) بما دفع موسكو إلى أن تجمد دعمها لعضوية الجزائر في البريكس، حيث علل وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف وقتها رفض بلده انضمام الجزائر إلى البركيس بأن العضوية مفتوحة على دول تتوفر فيها معايير وزن وهيبة ومواقف الدولة في الساحة الدولية.
في الواقع، لا يعد التوصل إلى تسوية نهائية للصراع بين الجزائر والمغرب هو الرهان الاستراتيجي للدبلوماسية الأمريكية، فما يهمها في هذه المرحلة، هو تسقيف الصراع
الوضعية قبل العدوان الصهيوني على غزة، كانت محكومة بهذه المعادلة، ومع ذلك، حصلت تطورات أخرجت جزءا من دول الساحل جنوب الصحراء عن الحسابات الأمريكية، وكانت هناك إشارات أمريكية واضحة بعدم وجود ضمانات تمنع وقوع اختراقات أخرى في المنطقة إن لم يتم التحرك السريع في اتجاه تحييد الدور الجزائري، وتسوية التوتر بين الجزائر والمغرب.
من جهة العلاقة بين المغرب والجزائر، فعلى الرغم من قطع الجزائر، وبقرار منفرد، العلاقات الدبلوماسية مع الرباط، ورغم مؤشرات عدة صدرت من الجزائر تحسب ضمن خانة التصعيد ونقل الصراع من المستوى المنخفض إلى صراع عسكري، إلا أن مرحلة ما قبل الحرب الإسرائيلية على غزة بقيت محكومة بحالة من التصعيد الكلامي والهدوء الميداني.
لكن، بعد العدوان على غزة، سجل تحول في إدارة الصراع، إذ استهدفت جبهة البوليساريو مدينة السمارة لمرتين في أقل من أسبوع واحد، ونقلت وسائل إعلام موالية للجبهة قرارها بتوسيع العلميات القتالية «النوعية» داخل المدن المغربية، وهو ما دفع المغرب إلى الرد القوي عن طريق ممثله الدائم بمجلس الأمن السيد عمر هلال، والتهديد بأن المغرب سيختار الوقت والمكان المناسبين للرد على هذا التصعيد.
من زاوية السياق الدولي، ثمة تطورات كان لها تأثيرها في الدفع بهذه الزيارة وتحديد أجندتها، منها قرار جامعة الدول العربية عن تنظيم الدورة السادسة للمنتدى العربي الروسي بمدينة مراكش في 20 من شهر ديسمبر الجاري، ومنها أيضا، الترتيبات التي كانت جارية لزيارة الملك محمد السادس إلى الإمارات العربية المتحدة وذلك قبل زيارة هاريس للجزائر، والتي كان من أهم مخرجاتها صفقات ضخمة يتعلق جزء كبير منها بدعم المغرب لكسب قضية الصحراء(صفقة تمويل مشروع ميناء الداخلة في الأقاليم الجنوبية، وتمويل أنبوب الغاز النيجيري المغربي)، كما كان من مخرجاتها أيضا ترتيب مشروع القرار العربي بالجمعية العامة للأمم المتحدة لوقف شامل لإطلاق النار بدعم روسي، والذي حظي بموافقة 153 عضوا.
التطورات الأخرى مست فاعلين دوليين مؤثرين في قضية الصحراء، وهما إسبانيا التي تسارع الخطى من أجل تعزيز علاقتها الاستراتيجية مع المغرب، وذلك بالمرور إلى السرعة القصوى (الحدود، مراقبة أجواء الصحراء)، وذلك ما يفسر زيارة وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس إلى الرباط. وفرنسا، التي تقوم بخطوات مرتبة وهادئة من أجل إصلاح علاقتها الدبلوماسية بالمغرب، وذلك حتى لا تفوت المشاريع الضخمة التي تخص تهيئة بنيته اللوجستية والرياضية والعمرانية لتنظيم كأس العالم 2030، الذي سينظمه المغرب بشراكة مع إسبانيا والبرتغال.
هذه المؤشرات تبين السياق التفصيلي لزيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي إلى الجزائر، وتكشف تخوفا أمريكيا من مواجهة محذورين أمنيين كبيرين، من الصعب مواجهتهما في آن واحد، أولهما هو حصول السيناريو الذي حذر منه الأمين العام الأممي في منطقة الشرق الأوسط من جراء السياسة الحربية العدوانية ضد غزة (سيناريو تهديد أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط برمتها) وسيناريو الحرب بين الجزائر والمغرب، والذي طالما حذرت منه الأمم المتحدة، واعتبرت أنه سيكون مدخلا لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة كلها بما في ذلك أمن أوروبا.
قد يطرح البعض سؤال تأثير الحرب الإسرائيلية على غزة على ما يجري في المنطقة المغاربية ومنطقة الساحل جنوب الصحراء، والجواب، أنه بفعل تحويل أمريكا وجزء من أوروبا دعمها من أوكرانيا إلى إسرائيل، أضحت روسيا متحررة أكثر من الضغط، وأضحت أكثر قدرة على توسيع نفوذها في منطقة الساحل جنوب الصحراء، كما أن الضغط على الجزائر قد خف، وصار بإمكانها أكثر من أي وقت مضى القيام بالمناورة لتقديم الدعم اللوجستي لموسكو لكسب عضوية البريكس في الجولة المقبلة.
وفي المقابل، فإن المغرب، صار يمتلك أوراقا كثيرة تتيح له فرصا واسعة للمناورة، منها ما سبق ذكره مما يتعلق بالتمويل الخليجي للاستثمارات التي تساعد المغرب على كسب قضية الصحراء ورفع مؤشرات التنمية بها، ومنها ما يرتبط بلعبه بورقة العلاقة مع روسيا، ومنها ورقة تقوية العلاقة مع إسبانيا وسعي باريس إلى إصلاح علاقتها بالرباط، لكن تبقى الورقة الأكثر أهمية، هو اقتناع الولايات المتحدة الأمريكية بمخاطر تصعيد عسكري بين المغرب والجزائر، يقود إلى إشعال ثلاث مناطق استراتيجية لا طاقة للإدارة الأمريكية بتحمل كلفتها.
زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي جوشوا هاريس تندرج في هذا السياق، أي سياق تباين أوراق الضغط لدى الطرفين، ووجود مصلحة أمريكية استراتيجية في تأمين المنطقة، ومنع حدوث زلزال مواز لما يحدث بالشرق الأوسط سيجعل قدرتها على ضبط فاعلية كل من روسيا والصين أمرا مستحيلا.
سؤال أفق الزيارة، يبقى مفتوحا أمام خيارات عدة، أقلها هو تسقيف التوتر بين الجزائر والمغرب إلى الحدود التي كانت عليها قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، وأعلاها إقناع الجزائر بتسوية نهائية لملف الصراع مع المغرب، بحيث تكون إشارة خطاب العرش حول الواجهة الأطلسية مدخلا للحل، من خلال تمكين الجزائر من فرص الاستثمار بهذه الواجهة على غرار دول منطقة الساحل جنوب الصحراء.
في الواقع، لا يعد التوصل إلى تسوية نهائية للصراع بين الجزائر والمغرب هو الرهان الاستراتيجي للدبلوماسية الأمريكية، فما يهمها في هذه المرحلة، هو تسقيف الصراع ومنع وصوله إلى مديات تكون فيها روسيا المستفيد الأكبر منه. لكن المسافة بين الاستراتيجي والواقعي، قد تبتعد أكثر إن شغل المغرب ورقة روسيا، ثم ورقة إنهاء التطبيع، ولذلك، لا يبعد أن تكون رسالة الإدارة الأمريكية إلى الجزائر هي أن توقف ما يسمى بــ»الخيارات العسكرية» ضد المدن المغربية، وأن تنخرط الجزائر بجدية في الموائد المستديرة لتسوية الصحراء، في مقابل، أن تحصل الجزائر على ضمانات أمريكية بألا تكون العلاقات المغربية الإسرائيلية، أو العلاقات المغربية الإماراتية، موجهة ضد أمنها واستقرارها.
كاتب وباحث مغربي