في كتابه “هوس القراءة”، الصادر حديثا في ترجمة عربية أنجزها أنس غطوس، عن دار الوسم الكويتية، يسرد لنا الكاتب والقارئ الأمريكي جو كوينن تجربة طويلة وثرية مع القراءة، وصلت إلى حد الهوس، وأن الكاتب القارئ، لم يعد باستطاعته أن يضيع دقيقة واحدة لا يقرأ فيها. إنه شيء أشبه بالمخدر الذي يسيطر على الجسم، ويدفع المدمن لتناوله مهما كانت الظروف.
المؤلف يتطرق لعشرات الأفكار الخاصة بالقراءة واقتناء الكتب ويستعرض في صفحات طويلة ما قرأه من كتب في كل المجالات بما فيها الأدب والفلسفة والمنطق وعلم الأديان، ويؤكد على الفائدة الكبرى التي استفادها طوال حياته، وأنه كلما قرأ واستفاد، ازداد شغفا، ولدرجة أنه لم يحصل على رخصة قيادة للسيارة إلا بعد سن الخمسين، ذلك أنه يستطيع أن يركب القطار أو الباص وفي يده كتاب، بينما لا يستطيع ذلك وهو يقود سيارة.
هناك أيضا إحصائية سنوية لما كان يقرأه سنويا، وهو رقم جيد، أو لنقل رقم أسطوري بالنسبة للقراءة، ولا أعتقد من السهل على قارئ حتى لو كان متفرغا أن ينجزه.
تعرض أيضا لمشاكل التعلق بالكتب، ونسيان نفسه في المكتبات، والتخلي عن مواعيده العاطفية وغيرها من أجل الوقوف في صف طويل، للحصول على كتاب رائج صدر حديثا، ويتقاطر الناس لاقتنائه. يقول أن بإمكانه أن يصبر حتى يستقر الكتاب على رفه في المكتبات، لكنه لا يستطيع الصبر، لا بد أن يأتي بالكتاب يقلبه بشغف، ثم يضعه في خطة قراءته التي تتسع يوميا بإضافة الجديد. هو لم يذكر شيئا عن الحصول على توقيع المؤلف على الكتاب، فالمهم ليس خط المؤلف أو بصمته، ولكن ماذا أضاف له شخصيا.
ولأن كوينن قارئ متمكن، فلا بد أن تمر عليه جميع أصناف الكتب، تلك الكلاسيكية المهيبة الجامدة، الممعنة في الرزانة، والرخيصة التافهة التي يكتبها عاطلون، ومتسكعون من أجل الرزق، وقد ينجح مسعاهم. وقد تعرض لكتب الأعلى مبيعا التي تدعمها مجلات محترمة، وتلك التي يدعمها نقاد أو قراء كتب يستكتبون خصيصا للدعاية، وٍقال بأن معظمها لا يمكن قراءته، وأنه مجرد كلام بلا إبداع يملأ الورق. والقارئ الحقيقي لا يمكن أن يتورط بإضعاف بصره، وتشتيت ذهنه في مثل تلك الكتب، لكن إن تحول الأمر إلى عمل يأتي بالمال، فلا بأس من اقترافه بين حين وآخر، أي أن يكلف بواسطة مجلة تدفع أجرا بكتابة مراجعة لكتاب ما.
ومعروف طبعا أن مهنة قراءة الكتب ومراجعتها قبل صدورها بفترة وجيزة، من الوظائف الرائجة في الغرب، وتعتبر من أساسيات تدشين الكتب، والذي يتابع تلك المسائل، يعثر مثلا على كتاب سيصدر قريبا، معروضا على أمازون، وهناك من كتب عنه مراجعة، قبل أن يصدر.
أيضا كتّاب المراجعات قد لا يكونون قراء فقط، ولكن حتى كتّاب لهم تاريخ كتابي يهم دور النشر أن تستفيد منه.
لكن متى يبدأ الشغف بالكتب، والرغبة المزمنة في القراءة؟
يقول كوينن وأقول معه، حسب تجربتي كقارئ، أن الأمر يبدأ مبكرا جدا، أي بمجرد أن يتعلم الشخص كيف يقرأ الحروف ويكتبها، وقد تكون رغبة شخصية، أو من رغبات العائلة التي يكون ربها قارئا ولديه مكتبة في البيت، ويحث أبناءه على القراءة. يقول كوينن أن والده كان قارئا، لكن ليس بالصورة التي تشكل هو بها، صحيح كان لديه كتاب في يده من حين لآخر، ولديه مكتبة في البيت، ويقرأ الصحيفة يوميا، لكن هو أي جو، لا يتوقف عند هذه الحدود التي يتوقف عندها والده. إنه يركض خلف الكتب، ويلهث من الركض، ينام وفي يده كتاب، ويستيقظ، ليذهب إلى الحمام، وفي يده كتاب أيضا، إنه هوس لا محدود، جنون لكن لا يضر أحدا كما يصفه.
بداية هوس القراءة
غرقت في كتاب الأمريكي القارئ، وتخيلتني في صفحات كثيرة منه، فقد أصبحت قارئا مبكرا أيضا، قارئا لكل ما يمكن أن يقرأ، ابتداء من المجلات المصورة، ومجلات الأطفال، والألغاز المسلية، والكلمات المتقاطعة، إلى ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة.
وقد تحدثت مرة عن الأستاذ رفعت ضرار صاحب إحدى المكتبات في مدينة بورتسودان، وكان صديقا للوالد، وكان يأتي أسبوعيا بكتاب جديد، يلقيه لنا من فوق الحائط، ونتنافس نحن الأخوان في البيت، على قراءته، وبالطبع نقرأه كلنا، وفي نهاية الأسبوع ثمة اختبار صغير من الوالد يعرف به من قرأ ومن لم يقرأ؟
هذا الطقس كان بداية لهوس القراءة عندي، حيث تعرفت بعد ذلك على مكتبات الجوار، وكانت في معظمها أكشاكا صغيرة، ضيقة، لكن مكتظة بالكتب، ويمكن أن تدخر من مصروفك المدرسي كل أسبوع لشراء كتاب، أو استعارة كتاب منها.
ولا أستطيع أن أصف تلك المتعة الغريبة التي كنت أحس بها، حين أحصل على كتاب، إنه الرفاهية التي أبحث عنها، بينما زملائي في المدرسة يذهبون للعب كرة القدم.
وأظن أن تلك المتعة رافقتني حتى الآن، فما زلت أرتجف نشوة كلما اقتنيت كتابا جديدا.
فقرة أخيرة عن القراءة الإلكترونية، قراءة الكيندل والآيباد، فقد تحدث كوينن عنها أيضا، وذكر أنها ليست قراءة حقيقية، ولكن قد تكون اضطرارية، فالقارئ المتمرس ينفر منها، ذلك أن تعامله مع الكتب أبوي أو أخوي، فهو يحسها أرواحا تعيش معه، وتتحدث معه بينما الشاشات مجرد بقع مضيئة جامدة بلا أي شعور.
هنا أيضا أتفق معه، وأستغرب فعلا أن كثيرين تخلوا عن القراءة الورقية، وتنازلوا عن الإحساس بأنفاس الكتب وروائحها، ونشاطها من حولهم.
٭ كاتب من السودان