تعودت أن أكتب مقالا في نهاية كل عام أستعرض فيه أهم الأحداث التي مرت علينا وتركت أثرها فينا، وستمضي معنا لمقبل الأيام والليالي. قد يبقى من هذا الاستعراض حدث أو حدثان يعطيان صبغة معينة لهذا العام تُحفر في الذاكرة، وتبقى علامة مميزة وفارقة على مرّ الزمان. فمثلاً عندما نذكر عام 2011 نتذكر ثورات الربيع العربي، وعندما نمر على ذكر عام 2012 نتذكر أول انتخابات حرة في مصر ووصول رئيس مدني للحكم في مصر لأول مرة. وعندما شنت إسرائيل عدوانها على غزة عام 2012 في عملية عامود السحاب/حجارة سجيل، من 14 إلى 22 نوفمبر، نتذكر موقف مصر آنذاك عندما بقي المعبر مفتوحا ليل نهار، ودخل إلى غزة 75 برلمانيا مصريا ورئيس الوزراء هشام قنديل، وأعلن الرئيس محمد مرسي «لن نترككم وحدكم يا أهل غزة»، فطارت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى الرئيس المصري لترجوه وقف إطلاق النار فورا.
وعندما نتذكر عام 2014 تقفز على الفور معركة الخمسين يوما في مواجهة غزة مع الكيان الصهيوني معركة الجرف الصامد/ العصف المأكول. لا ننسى يومها أن المعبر ظل مغلقا وصدر بيان عن وزارة الخارجية المصرية وصف تلك الحرب المدمرة على غزة، التي استخدمت فيها القنابل الفوسفورية لأول مرة، بأنها «عنف متبادل». وعندما نتذكر عام 2020 نتذكر اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب. ونتذكر كذلك وباء كورونا كيف استغلته الأنظمة العربية في وأد الموجة الثانية من الربيع العربي. ودعني أبدأ من الجزء الأخير من العام ثم أعود للوراء.
حرب الإبادة على غزة عاصمة العالم
أصبحت غزة كلمة السر للحرية والكرامة والصمود، 85 يوما من الإبادة تركت غزة كومة من حجارة وكشفت عن همجية الكيان الصهيوني، الذي يحلم باستكمال نكبة 1948
منذ 7 أكتوبر وحتى هذه اللحظة لا أخبار ولا تقارير ولا حديث إلا عن غزة وصمودها وتضحياتها، والمذابح التي ترتكب فيها جهارا أمام عيون العالم المنافق الذي يتحدث عن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا وكوريا الشمالية ويصمت صمت الأنذال عندما يتعلق الأمر بفلسطين وغزة وأطفالها ونسائها وشيوخها. إنها حرب الإبادة على غزة التي شنها الكيان الصهيوني وحلفاؤه الأمروأوروبيون، بعد أن قامت حركات المقاومة الفلسطينية بهجوم مفاجئ في ساعات الصباح الأولى ليوم 7 أكتوبر على مستوطنات غلاف غزة، استمر عدة ساعات أثبت أن هذا الكيان هش قابل للهزيمة، وهذا السر في سرعة وصول قائد الإمبريالية العالمية وقادة الاستعمار القديم لإنقاذه ومنعه من الانهيار. بناء متصدع وضع على رمال ليس له فيها جذور، ما أسهل أن ينهار لو أن الفلسطينيين لقوا الدعم والمساندة وتأمين لقمة العيش وشربة الماء وحبة الدواء من نحو ملياري عربي ومسلم. ولا بد من الإطراء على من يحاولون خرمشته في أكثر من جبهة. بعد هول الصدمة شنت إسرائيل هجوما شاملا على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وقطعت الماء والكهرباء والدواء والنفط والإنترنت. بقيت تقصف القطاع لغاية 21 من الشهر نفسه دون انقطاع، ثم بدأ بعدها الهجوم البري. كانوا يعتقدون أن ضخامة الهجوم الذي شاركت فيه أكثر من 100 طائرة وصبت من المتفجرات أكثر من قنبلتين نوويتين، ستؤدي إلى استسلام المقاومة. وهو ما طالبوا به وكم كانوا واهمين ومهزومين من الداخل، وهذه هي حرب الإبادة ضد المدنيين مستمرة لأنهم عجزوا عن كسر ظهر المقاومة، بل دفعوا أثمانا لا حصر لها في الأرواح والعتاد والآليات والاقتصاد والهجرة المعاكسة والاحتجاجات الدولية عبر عواصم ومدن العالم أجمع. لقد أصبحت غزة كلمة السر للحرية والكرامة والصمود والمظلومية في آن. 85 يوما من الإبادة تركت غزة كومة من حجارة وكشفت عن همجية هذا الكيان، الذي يحلم باستكمال نكبة 1948. «كنا نظن أن الدول العربية كلها حرة، وأن غزة الوحيدة تحت الحصار، اكتشفنا أن العالم العربي كله محتل إلا غزة»، هذه إحدى اليافطات التي يتم تداولها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، ما أدق هذا التعبير وأصدقه. انظروا إلى الدول التي تملك الجيوش والرتب والوزارات والطائرات تطأطئ رؤوسها وتختبئ وراء بيانات هزيلة تافهة لا تساوي الحبر الذي تكتب فيه. ممثلو سبع وخمسين دولة يجتمعون ويصدرون بيانا ولا يستطيعون أن يدخلوا قارورة ماء دون موافقة الكيان الصهيوني.
الخذلان جاء من سلطة أوسلو التي دفنت رأسها في الرمال، تتمتم حول ضرورة وقف القتال، وتجتمع مع شركاء حرب الإبادة الأمريكيين لبحث ما بعد هزيمة المقاومة. والخذلان جاء من مسؤولي الأمم المتحدة الذين تسابقوا في إدانة حركة حماس، واعتبارها تنظيما إرهابيا وإدانة العملية «الإرهابية». وأكثر من غاب عن المشهد، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، ومستشارة الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة، أليس ندريتو، وممثلة الأمين العام للأطفال والنزاعات المسلحة فرجينا غامبيا، وممثلة الأمين العام لمسألة العنف الجنسي الخاص بالنساء في النزاعت المسلحة، براميلا باتون. يبدو أن هؤلاء لم يروا كيف تصرف الوحش الجريح مدفوعا بغريزة الانتقام، فلم يبق مدرسة أو مستـشفى، أو وكالة دولية، أو عيادة طبية أو مجمعا حكوميا، أو دار حضانة أو مركز إيواء أو مستودعا للأونروا إلا وتعرض للقصف والتدمير. شعاره القتل ومزيد من القتل، يقتل طفلا كل عشر دقائق، ولم ينس القتل والاقتحامات في الضفة الغربية والقدس بسند غير مسبوق من قطعان المستوطنيين. اعتمدت الجمعية العامة قرارين لوقف إطلاق النار، الأول يوم 26 أكتوبر بغالبية 121 صوتاً يدعو إلى هدنة إنسانية، والثاني يوم الثلاثاء 12 ديسمبر بغالبية 153 صوتا، يطلب وقف إطلاق النار فورا. واعتمد مجلس الأمن قرارين 2712 بتاريخ 15 نوفمبر يدعو لهدن إنسانية، ثم القرار 2720 بتاريخ 22 ديسمبر الذي يدعو لتهيئة الظروف لتخفيف الأعمال العدائية. وهو قرار مهين للشعب الفلسطيني إذ سلم كل المفاتيح لإسرائيل. سواء وقف القتال أو توزيع المساعدات الإنسانية. إسرائيل رفضت كل تلك القرارات وصعدت من المجازر كما وكيفا. لقد وصل عدد الشهداء إلى أكثر من عشرين ألفا والجرحى أكثر من اثنين وخمسين ألفا عدا المفقودين والأسرى، والجرحى أكثر من 50000، 70% منهم من النساء والأطفال، لكن تحقيق أهداف حرب الإبادة في هزيمة المقاومة وإطلاق سراح المحتجزين ظل بعيد المنال. وكلما طالت الحرب دفعوا أثمانها، وكسبت القضية الفلسطينية العادلة، مزيدا من الأصدقاء والمدافعين عنها والمتظاهرين ضد جرائم الكيان العنصري الفاشي وجرائم الدول القليلة الداعمة له.
كوارث طبيعية
ستبقى ذكريات الزلازل المؤلمة في سوريا وتركيا علامة فارقة لعام 2023. فقد ضرب المنطقة زلزالان متعاقبان يوم 6 فبراير بقوة 7.8 (بمقياس ريختر) ولحق به بعد ساعات زلزال آخر بقوة 7.5. وقد أدى الزلزالان إلى قتل أكثر من 56 ألف شخص في تركيا ونحو 5000 في سوريا، وجرح أكثر من 120 ألفا، وترك الزلزالان خسائر فادحة تقدر بمئات المليارت أصابت مناطق شاسعة وتركت نحو عشرين مليون إنسان دون مأوى من الطرفين. كما لا ننسى مأساة الشعب المغربي بعد زلزال الحوز بقوة 6.8 يوم 8 سبتمبر مخلفا نحو 3000 ضحية و 5500 جريح. وأدى إلى تصدع كثير من المباني التاريخية. وبعد أيام من زلزال المغرب، وفي يوم 10 سبتمبر تعرضت مدينة درنة الليبية إلى فيضانات، بسبب إعصار دانيل، غير مسبوقة دمرت المدينة تقريبا بالكامل. وتركت آلاف الضحايا بلا مأوى. وقدرت المنظمات الإنسانية أن 8% من سكان المدينة قتلوا أو فقدوا أي ما يزيد عن 11 ألف شخص.
حرب رفاق السلاح في السودان
وفي هذا العام لا بد من أن نتذكر انفجار الأوضاع في السودان بين حلفاء الأمس الذين تآمروا على الثورة السودانية السلمية العظيمة. واستطاع عرابو التطبيع مع الكيان الصهيوني أن يجروا القيادات العسكرية إلى التصالح مع الكيان الصهيوني بحفنة دولارات. وهذه النتيجة «النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله». بدأت الحرب الأهلية يوم 15 أبريل بين قوات التدخل السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو، (حميدتي)، وقوات الجيش الذي يرأسه عبد الفتاح البرهان. الأزمة تفاقمت ولم تعد حربا أهلية بعد أن دخلت على الخط قوى عربية ودولية، تعمل على تفتيت الدول وتحطيمها خدمة للكيان الصهيوني في غياب فاجع لدور مصر.
لعل بداية العام الجديد تفتح الطريق أمام الشعب الفلسطيني لينال حريته ويسترد وطنه ويمارس حقه في الحياة والحرية والكرامة.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي