من المعلوم أن النطاق السياسي في الولايات المتحدة يتقاسمه حزبان كبيران، الحزب الديمقراطي، حزب الرئيس الحالي جو بايدن والحزب الجمهوري، الذي ينتمي إليه الرئيس السابق دونالد ترامب. في حين يميل البعض للرأي القائل، بأن سياسات الحزبين متطابقة، وأن الخلافات بينهما ليست جوهرية، يرى آخرون أن الديمقراطيين هم أقرب للتعاطف مع قضايا شعوب الجنوب، من الجمهوريين الذين يستند حزبهم إلى مجموعة من الأصوليين واليمينيين. هذه الفكرة، التي تنطلق من أن الحزب الديمقراطي هو حزب الأقليات الدينية والعرقية، الذي كان يوفر للعرب والمسلمين مساحة للتفاعل السياسي والاجتماعي، تبدو اليوم محل تساؤل، وكذلك التبشير بمستقبل أفضل للمنطقة لمجرد قدوم قيادة ديمقراطية، وليس أدل على ذلك من سياسة الإدارة الحالية وموقفها المتواطئ من العدوان الإسرائيلي على غزة.
هناك بين كل هذا وجهة نظر أخرى تذهب لتفضيل الجمهوريين على الديمقراطيين، خاصة بعد أن ارتدى الديمقراطيون لباس اليسار الجديد، الذي يفرض مزيداً من التدخلات الخارجية، بحجة نشر الديمقراطية، كما يسعى لفرض احترام القيم الغربية الليبرالية المتعلقة بتشجيع المثلية الجنسية والإلحاد. بنظر أولئك فإن خطورة هذا «المشروع الديمقراطي» تبدو أكبر، خاصة إذا ما أراد فرض هذه القيم على جميع دول العالم.
لم تكن هناك في أي فترة من التاريخ خطوط فاصلة حاسمة يمنح بموجبها الجمهوريون أفضلية على الديمقراطيين
بعض السياسيين في بلادنا كانوا معجبين بفكرة تقاسم السباق الانتخابي بين حزبين رئيسيين، في دول الجنوب لم تكن فكرة توحيد الجهود في إطار برنامج حزبي جامع لما يساوي نصف الناخبين أمراً سهلاً، بل إن ما يحدث في أغلب تلك البلدان هو العكس، حيث تتعرض الأحزاب والجماعات والتيارات السياسية لانقسامات وانشطارات متتالية. في الولايات المتحدة نفسها لا تبدو الخطوط الفاصلة واضحة، كما نتوقع، فكثيراً ما يتبنى جمهوريون أفكاراً هي أقرب لأفكار الديمقراطيين، في حين يكون الديمقراطيون بدورهم في مثل تشدد الجمهوريين. من أمثلة ذلك أن الضغوط على إيران بسبب الملف النووي، لم تقل حدتها في عهد الديمقراطيين، كما كانت تشير رؤى المتابعين. ولّد هذا إحساسا بأن ما حدث إبان فترة الرئيس الأسبق باراك أوباما من تقارب بين واشنطن وطهران وتوقيع اتفاق مشهود لم يكن سوى محطة استثنائية. الاشتباك بين ما هو جمهوري وما هو ديمقراطي يظهر أيضاً في حالة الرئيس أوباما، الذي تم استقبال فوزه بحماس من قبل السود والملونين، باعتباره أول رئيس من أصول افريقية للولايات المتحدة. السود، الذين كانوا، وما يزالون، يعانون من التهميش والعنصرية المتوارثة كانوا يرون في أوباما النبي، الذي سيخلصهم من كل آلامهم، والذي سيجري إصلاحات اجتماعية هيكلية تسهل عليهم الصعود الاجتماعي. لم يحدث ذلك بالطبع، ولم يستطع الرئيس أوباما تنفيذ عهود بسيطة متعلقة بالبرامج الاجتماعية والتأمين الصحي، ناهيك عن القيام بثورة لإعادة تقسيم الثروة، كما كان يرجو ناخبوه. هذا الاشتباك ليس جديداً ولم تكن هناك في أي فترة من التاريخ خطوط فاصلة حاسمة يمنح بموجبها الجمهوريون أفضلية على الديمقراطيين، فمنذ البداية ارتبط الحزب الديمقراطي بشخصيات محورية في التاريخ الأمريكي مثل توماس جيفرسون، في حين ارتبط الجمهوريون بالزعيم الأشهر إبراهيم لنكولن. إذا كنا نعتبر مجازا أن الحزب الديمقراطي هو حزب الملونين، فإن علينا ألا ننسى أنه في فترة الصراع ضد العبودية، كان الحزب الجمهوري هو الأعلى صوتاً لصالح تحرير العبيد.
حالياً لا يبدو أن الحزب الجمهوري تجاوز أزمة دونالد ترامب، هذه الأزمة التي كان محورها التساؤل عن طريقة وصول رجل الأعمال المعروف بسلوكه الغريب إلى أعلى هرم السلطة، هذا التساؤل مهم، خاصة أن الرئيس السابق مرشح بقوة للعودة للرئاسة. ساهمت تجربة ترامب، المثير للجدل، في ترسيخ الصورة السلبية للجمهوريين، والتي كانت تختزلهم في صورة بيض مغرورين، جهلاء، ومنغلقين. هذه كانت الصورة، التي استفاد منها الرئيس الأسبق باراك أوباما، والتي ضمنت له الفوز بولايته الرئاسية. ترامب، الذي اشتهر بعباراته المهينة والبذيئة، التي تقلل من شأن المرأة، كان قدم بخطابه العنصري والجنسوي أكبر خدمة للمنافسين الديمقراطيين عبر الظهور بمظهر المعادي للأقليات والنساء. ساهمت سياسات ترامب الانغلاقية بعد ذلك من قبيل محاولة منع دخول المهاجرين والتخلص من أكبر عدد من المقيمين بشكل غير شرعي، في إظهار الجمهوريين بمظهر غير إنساني. لهذا الخطاب الشعبوي أنصار بالتأكيد، خاصة من المجموعات البورجوازية البيضاء، إلى جانب أنه لا يمكن إنكار شعبية ترامب لدى كثير من الأصوليين الأمريكيين، الذين وصل بعضهم لحد القول بأنه رئيس مرسل من الرب، وبأنه حتى وإن بدا بعيداً عن التعاليم الإنجيلية، إلا أنه أشبه بكورش ملك الفرس، الذي قدم كثيرا من الخدمات لليهود وللديانة اليهودية، وإن لم يعتنقها. مع هذا كان من الصعب الاعتماد على هذه المجموعات المتحمسة وحدها في مقابل الملايين من أبناء الأقليات، الذين تم استعداؤهم بشكل فج. يكفي أن نذكر هنا تصريحات ترامب المسيئة للأفارقة، وتصريحاته المعادية للمهاجرين، كقوله إنهم «يسمّمون دماء بلدنا»، أو كقوله، إبان دعوته لبناء حائط على الحدود الجنوبية، إن المكسيك تتعمد أن ترسل لأمريكا المجرمين وتجار المخدرات والمغتصبين.
مثل ما هو الحال في دول أخرى فإن العامل الذي يجذب أكبر عدد من الناخبين ليس السياسات الخارجية، أو الرؤى الفلسفية، بقدر ما أنه السياسات الداخلية والوعود المباشرة بتحسين حياة الناس، يكتسب الأمر أهمية أكبر في الولايات المتحدة، التي تحوي أعداداً كبيرة ممن باتوا لا يستطيعون الحصول على مسكن أو دخل مناسب. في هذا يحدث اشتباك آخر بين الحزبين، حيث يتنافس كلاهما في تقديم شعارات تبث الأمل في الناس، وتعد بمزيد من العدالة الاجتماعية، وإن كان كل منهما يقدم ذلك بطريقة مختلفة. مؤخراً صدر كتابان مهمان لفهم التعقيدات الانتخابية الأمريكية وهما «حزب الشعب» لباتريك روفيني، و»أين ذهب كل الديمقراطيين؟» لكل من روي تايكسيرا وجون جاديس. الكتابان يركزان على أسباب انفضاض الناس عن الحزب الديمقراطي. يعزز هذا «الانفضاض» من فرص الحزب الجمهوري، الذي تشير الإحصائيات إلى أنه كسب كثيراً من المؤيدين من خارج حاضنته التقليدية، أي البيض البورجوازيين، خلال الأعوام الأخيرة. ظاهرة ازدياد المؤيدين من أصحاب الخلفيات الافريقية أو الآسيوية أو اللاتينية للحزب الجمهوري تبدو لافتة ومثيرة للدراسة، أكثر من ظاهرة وجود بعض المنتمين لما سميناه «البورجوازية البيضاء» في صفوف الحزب الديمقراطي، فالأخيرة، وعلى عكس الأولى، يمكن تفسيرها ببساطة برفض أولئك لخطاب الحزب المتعصب والمنغلق.
من الطرائف هنا أن روي تايكسيرا وجون جاديس، اللذين يحللان اليوم أسباب ما يحصل للحزب الديمقراطي من ضمور، كانا كتبا في عام 2002 كتاباً بشرا فيه بصعود الديمقراطيين، وأنهم سيمثلون قريباً غالبية الناخبين. كتابهما ذاك، «الغالبية الديمقراطية الصاعدة»، لقي اهتماماً كبيراً بعد فوز الرئيس باراك أوباما، حيث تم الاحتفاء به وبكاتبيه والتعامل معه كنبوءة. هزيمة الديمقراطية هيلاري كلينتون ووصول دونالد ترامب، ثم حصوله على تأييد كبير من شرائح واسعة جعلا تايكسيرا وجاديس يراجعان أفكارهما من خلال هذا الكتاب الجديد، الذي يلفت لخطورة انشغال الديمقراطيين بقضايا نخبوية لا يجتمع حولها جميع الأمريكيين، كقضايا التحول الجنسي والبيئة والمناخ والحق في الإجهاض.
كاتب سوداني