كلما حل اليوم العالمي للغة العربية أجدني مدعوا لأدلي بدلوي في الموضوع. وكنت في كل مرة أتناول قضية العربية من زاوية جديدة. ومن خلال مختلف المشاركات استخلصت أن من بين المشاكل التي تعاني منها اللغة العربية تكمن في أنها جسد لا يختلف كثيرا عن جسد عروة بن الورد الذي كان يقسمه إلى جسوم كثيرة، ويظل يحسو قراح الماء، والماء بارد. أما العربية فكان كل جسد تُقسَّم إليه يحسو من مائها ما يتلاءم مع خصوصية جسده، وما يشفي به غلة يوم، ويظل ينتظر، أو لا ينتظر يوما عالميا آخر ليتذكر حسوته منه. أما اللغات العالمية الأخرى فلكل واحدة منها جسد واحد لا يتفرق إلى أجساد. فهناك مجارِ متعددة تنهل كلها من معين أصل.
كانت مصر في بداية نهضتها موئل الاهتمام والبحث في العربية، وظلت مركز التوجيه الذي استفادت منه كل الأقطار العربية في صيرورتها. ثم تعددت المراكز في مختلف الأقطار العربية، وصار كل يسهم بشكل أو بآخر في تعدد المجهودات واختلافها، لا في توحيدها ومركزتها وتوجيهها إلى غاية واحدة. وكما كان الاختلاف في الاجتهادات في تطوير العربية والدفاع عنها، من بين أسباب تبدد المجهودات وتقاطعها وتكرارها، كانت الوحدة تجمع بين كل من يريد النيل منها تحت أي ذريعة من الذرائع التي تذهب من الغيرة والدعوة إلى اجتهاد، إلى الدعوة إلى الهجوم عليها، وادعاء تخلفها وعدم صلاحيتها. وهذه الوحدة المزعومة، وإن تنوعت المقاصد، ظلت معاول تشكك في اللغة العربية وصلاحيتها للعصر الذي نعيش فيه.
تتجلى هذه المعاول الممولة والموجهة ضد الأمة العربية الإسلامية في اختيارها لرموز هامة في التراث العربي، في جوانبه الدينية والتاريخية واللغوية، ظنا منها أنها باستهدافها إياها، باسم التجديد، وإعادة القراءة، وعدم التقديس وهلم جرا من الادعاءات، تساهم في التنوير والتحديث. فبعد تناول أبي هريرة، والبخاري، في الحديث، كان الدور على الشافعي في الفقه، وعلى سيبويه في النحو. والأغرب أن من يخوض في كل مجال من تلك المجالات له القدرة والكفاية في تناول أي منها بنفس المهارة واللعب اللغوي، لا يثنيه في ذلك كون كل اختصاص له رجالاته الذين يعرفون زواياه وخباياه. فالذي أخنى على صحيح البخاري وقضى عليه، يتحدث عن اللغة العربية زاعما أنها بلا منطق، وأنها ذكورية وضد الانثى. والأمثلة التي يسوقها تدعو إلى السخرية. تتمثل عنصرية العربية في أنها تقول في المذكر: مصيب، وقاض، ونائب. ولكنها في المؤنث تقول: مصيبة، وما أدراك ما المصيبة. وفي قاضية تعني الموت المحقق، وكذلك في النائبة التي هي مثل المصيبة. وهو لا يقترح علينا ماذا كان على العربية أن تقول في مؤنث تلك الكلمات، ولو استعرض صاحبنا مؤنثَ: طبيبة، وحكيمة، وسلطانة، وأدبية، وشاعرة وغيرها من الكلمات المؤنثة لوجد نفسه يهدر ويخرف، وأن اكتشافه الأنثوي محض هراء.
نجد التوجه نفسه لدى من كرس ثلاثة مؤلفات كاملة تحمل عنوان: «جناية» جعلها متصلة بـ«سيبويه» في النحو (2002)، و«البخاري» في الحديث (2004)، و«الشافعي» في الفقه (2005). وحتى العناوين الفرعية أكثر دلالة: فمع سيبويه نجد الرفض التام لما في النحو من أوهام، ومع البخاري، نجد «إنقاذ الدين من إمام المحدثين». أما الشافعي: «تخليص الأمة من فقه الأئمة». إنه العالم العلامة: زكريا أوزون الرافض، والمنقذ، والمخلص. لقد جمع فأوعى، وخلص التاريخ العربي الإسلامي من كل الذين ساهموا في النحو والحديث والفقه، وما علينا سوى جني ثمار مجهوداته الجبارة من أجل التقدم والتحرر من تركة الماضي البئيسة.
يطرح الكاتب عدة أسئلة وجيهة، وهي من الأسئلة التي يطرحها الجميع. لكن إجاباته عنها ضعيفة وتدل على جهل باللغة، وبالشعر الذي يستشهد به. يبدو ذلك في مقارنته بين القرآن الكريم والنحو العربي، وفي الخلط بين اللغة الكتابية، واللغات الشفاهية. يتحدث عن لا منطقية النحو العربي، ولا عقلانيته، وما شابه هذا من الآراء التي تصدى لها النحاة العرب في مختلف الأزمنة. سأتوقف على سؤالين يطرحهما بعد تأكيد أن لغتنا لم تنتشر في أيامنا المعاصرة في مختلف أرجاء المعمورة، بل تناقص انتشارها بين أهلها، والأمر في ذلك يعود إلى سببين. يلخص أولهما في التخلف العلمي والفكري والاقتصادي. والثاني في تعقيد قواعد لغتنا وتأكيد أن لغتنا صعبة ومعقدة.
أما عدم انتشار العربية عالميا فغير صحيح. إن شعب العربية حاليا في كل الجامعات العالمية. والباحثون في اليابان والصين والروس والألمان وغيرهم ممن درسوا العربية في مؤتمرات حضرتها يتكلمون العربية أحسن العرب. درَّست العربية في ليون، وأكد لي الكثير من الطلبة غير المغاربيين أن العربية لغة منطقية، وتعلمها بسيط جدا لأنها مبنية على قواعد مضبوطة، ويكفي امتلاك أوزانها ليسهل التعامل معها. في جامعة الأميرة نورة قلت لهن مرة: لكل الطلاب العرب مشاكل في المنهج واللغة إلا في موريتانيا فمشكلتهم مع المناهج لا اللغة. فسئلت لماذا؟ فكان جوابي: لقد درس الطلاب في المحضرة المتون العتيقة للغة العربية، فتمثلوها شفاها وكتابة، وكانت لغتهم سليمة. لذلك لا غرابة أن نجد ارتجال الشعر يتأتى للموريتانيين أكثر من غيرهم من العرب.
كتاب سيبويه نتاج مراحل سابقة لعلماء أدركوا خصوصيتها وعبقريتها وأسرارها، وليس كما يدعي صاحب الجناية. وما الانطلاق من ضبط بنية العربية في مادة (ف.ع. ل) سوى دليل على عبقرية فذة. إنها العبقرية نفسها التي ضبطت أوزان الشعر العربي، وهي التي أسست أول معجم للغة العربية. تواترت المجهودات النحوية في بغداد والبصرة والكوفة وقرطبة، وغيرها. وفي ضوء تلك المجهودات أنتج تراث امتد على عدة قرون، وهي التي تسمح لنا إلى الآن، وما بعد الآن لقراءة الشعر الجاهلي في ضوء القواعد التي أرساها كتاب سيبويه. ولا يتأتى هذا لأي لغة من لغات العالم.
إن ما قام به البخاري، وسيبويه، والشافعي والجرجاني، والزمخشري، والجاحظ، والتوحيدي، وسواهم في كل الاختصاصات لهو دليل على عراقة هذه اللغة، وعلومها المختلفة في التراث العربي. أين من تلك المجهودات ما نقوم به اليوم؟ هذا هو السؤال الذي علينا طرحه على أنفسنا بدل ادعاء تقديم بدائل مؤسسة على أوهام وأغراض لا قيمة لها. لا ننكر أن هناك مجهودات طيبة، قام بها علماء، لا مشعوذون، لتبسيط قواعد العربية، وتطوير النحو العربي. فما الذي يجعل هذه المجهودات لا تتحقق في الواقع؟ هنا أجدني أتفق مع الكاتب في السبب الأول. أما السبب الثاني فلا قيمة له. إن ما يقوم به أمثال هذا الكاتب جزء من السبب الأول. إنه دليل على التخلف الفكري والثقافي والعلمي، وإن حاول أصحابه ادعاء التجديد والتطوير.
نجد إلى جانب ذاك التخلف الدال على غياب سياسة لغوية عربية موحدة، تبدد الجهود وتوزعها في الأقطار العربية حيث كل قطر له سياسته الخاصة. وعلاوة على ذلك فهناك حرب على العربية من الدعاة إلى الفرنكوفونية والأنغلوفونية. ورغم كل ما يقال عن العربية اليوم فإنها في وضع أحسن مما كانت عليه في القرن الماضي بسبب تطور وسائل الإعلام التي ساهمت في جعل العربية الفصيحة مقبولة ومتداولة بين الناس العاديين.
*كاتب من المغرب