تزايد السباق بين أمريكا وروسيا، على الفوز بمفاتيح القرار الليبي، تزامنا مع تعثر اللقاءات بين الفرقاء المحليين، ما جعل الحل السياسي يبتعد كل يوم أكثر فأكثر. وأدى انهيار الثقة بين الزعماء السياسيين، إلى تمسك كل فريق بما لديه من مرتزقة، كي يُؤمن لنفسه، ولأنصاره طوق حماية عند الاقتضاء. يتزامن ذلك مع تجدد الحديث عن احتمال عودة العنف والصراع المسلح. ولوحظ في الفترة الأخيرة، وصول شحنات جديدة من الأسلحة، بحرا، إلى المتقاتلين في الجانبين، وهو مؤشر خطرٌ، يدل على إضمار نوايا غير سلمية. ينسحب هذا على قوات حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وأيضا على قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
تطابقٌ في المواقف
يتزامن التسليح المكثف هذا مع وصول المبادرة السياسية، التي أطلقها الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة عبد الله باتيلي، إلى طريق مسدود. ودعا باتيلي الفرقاء الرئيسيين، إلى اجتماع خماسي يضم كلا من رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، واللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس حكومة الوحدة الدبيبة، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالا. وعبرت واشنطن، على لسان السفير ريتشارد نورلاند، عن تطابق في وجهات النظر بينها وبين المبعوث الأممي إلى ليبيا، حول ضرورة إقدام حكومة الوحدة، على التفاوض مع مجلس النواب والدولة، والرئاسي والجيش، من أجل الاتفاق على خريطة طريق للانتخابات، مُنتقدا «أشخاصا» لم يكشف السفير عن هويتهم. لكنه أوضح أنهم جربوا إكراه حكومة الوحدة على الاستقالة، «لكنهم فشلوا لأن الليبيين لا يريدون حروبا أخرى» مؤكدا في الوقت نفسه، أن جميع الأطراف الداخلية والخارجية باتت على قناعة، بان «الانتخابات هي الطريق للاستقرار، وأن لا حل عسكريا في ليبيا» على ما قال.
أمرٌ شديد الصعوبة
ويُصرُ باتيلي على ضرورة التوصل إلى اتفاق سياسي بين مجموعة الـ5 كما سماها، وهو أمرٌ يراه نائب رئيس المجلس الرئاسي موسى الكوني شديد الصعوبة، لأن «من المستبعد أن يتفق النقائض». ولئن اتفق خطاب الأمريكيين وخطاب الروس، في التصريحات الرسمية، على ضرورة الحل السياسي، فإنهم غير قادرين على فرضه على أرض الواقع. وهذا ما يُفسر الدعم الأمريكي القوي للممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة باتيلي، وسعي روسيا، في الضفة الأخرى، إلى تعزيز دائرة تأثيرها، السياسية والعسكرية والاقتصادية في ليبيا.
وفي مقدم الأهداف التي تروم روسيا تحقيقها، المحافظةُ على عناصر «فاغنر» الذين دعاهم اللواء المتقاعد حفتر، أثناء هجومه على طرابلس في 2019 لمؤازرة قواته. وذكر تقرير للأمم المتحدة في عام 2020 أن ما يصل إلى 1200 من مقاتلي فاغنر كانوا يدعمون حفتر في تلك الحرب، لكن لا يُعرف عددهم اليوم. وقد تمكن الروس من إقامة قاعدة عسكرية بحرية في بنغازي (شرق) يمكن أن تشكل منطلقا لتوسعة التغلغل الروسي، في الضفة الجنوبية للمتوسط، ودول أفريقيا جنوب الصحراء.
خروج عن السيطرة
وفي السنة نفسها 2019 سيطرت قوّات حفتر على قاعدة الويغ الواقعة في منطقة القطرون بأقصى الجنوب الليبي، بعدما ظلت نقطة تمركز للمرتزقة التشاديين طيلة السنوات الماضية. وخرجت القاعدة العسكرية عن سيطرة الدولة الليبية، منذ العام 2012. وباتت قوات حفتر تُسيطر على إقليم فزان (جنوب) الذي كثيرا ما شهد توترات أمنية، بالإضافة لشعور عام بالغبن والتهميش.
ويختلف الموقف الروسي عن الأمريكي، إذ عبر الموفد الأمريكي الخاص إلى ليبيا، نورلاند، عن «تطابق» في وجهات النظر بينه وبين المبعوث الأممي إلى ليبيا. وإذا ما علمنا أن منتقدي باتيلي يأخذون عليه كونه يتفادى تسمية المعرقلين للمسار الانتخابي بالاسم، والمتمثلين في مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، ندرك أن الحوار الذي يدعو إليه لن يحل العقدة، وإلا لتفاهم عقيلة وتكالة مباشرة من دون الحاجة إلى إشراف الأمم المتحدة أو وصايتها. وظهر ذلك التطابق في المواقف، لدى مناقشة طبيعة الحكومة التي ستُصرف الأعمال، إلى حين إجراء الانتخابات، إذ اقترح الأمريكيون، على لسان السفير نورلاند، أن تكون «حكومة تكنوقراطية مؤقتة» مهمتها الوحيدة قيادة البلد إلى انتخابات حرة وشفافة، ذلك أن ما لا يريد أحدٌ رؤيته في ليبيا هو حكومة مؤقتة أخرى تستمر لسنوات. وتحدث نورلاند بوضوح، في حوار مع صحيفة «إندبندنت عربية» مُحذرا من أن غاية بعض الأطراف، التي لم يُسمها، هي إسقاط حكومة الوحدة الحالية، بينما تعتبر واشنطن أن وجودها «مهمٌ في كل عملية تفاوضية».
خطة لبناء قوة مشتركة
أما الملف الشائك الآخر الذي يؤرق الليبيين، فهو فشل خطة إخراج القوات الأجنبية من ليبيا، إذ عزا رئيس اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 عن المنطقة الغربية، أحمد أبوشحمة، فشل تلك الخطة إلى تعطُل لغة الحوار بين الأطراف السياسية، وتمسك كل طرف بالمرتزقة، والجهات المرتبطة بها. واعتبر أبوشحمة، في تصريحات خاصة لقناة «الأحرار» الليبية، أن انعدام الثقة بين الأطراف السياسية، وتأخير إجراء الانتخابات وتوحيد الحكومة، كلُها عناصر أفشلت توحيد مؤسسات البلاد، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، واستطرادا حالت دون معالجة ملف المرتزقة.
في هذا الإطار يسعى الليبيون إلى الحد من الخروق والوجود المسلح، لبعض التشكيلات، على طول الشريط الحدودي، إلى جانب تأمين الشريط نفسه، مما يحدث في دول جوار ليبيا الجنوبية، وخاصة النيجر وتشاد والسودان، من حروب أهلية وصراعات دموية. وأفاد أبوشحمة أن لجنة 5+5 التي تضم ضباطا من المنطقتين الشرقية والغربية، تقدمت إلى القيادات العليا، بخطة لتشكيل قوة مشتركة بين المنطقتين، تعمل على تأمين جنوب البلاد، حيث مؤسسات الدولة منهارة. لكن الخلاف السياسي بين الأطراف حال دون تقديم أي دعم لهذه الخطة على حد تعبير أبوشحمة.
مجال مفتوح للروس
إقليميا، يمكن القول إن ليبيا تأتي في مقدم المتأثرين سلبا، بتداعيات الحرب في السودان، بعدما أغلقت تشاد حدودها معها بالكامل. وهناك خشيةٌ من انتقال عناصر سودانية إلى الداخل الليبي، بُغية استخدامها منصة إطلاق لتنفيذ عمليات في الداخل السوداني. ويُعتبر السودان مجالا مفتوحا أمام الروس، الذين عززوا علاقاتهم مع قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو.
أما عن الملف الليبي فمن المؤشرات البارزة على الاهتمام الروسي المُتزايد به، الزياراتُ المتكررةُ لنائب وزير الدفاع الروسي يونس يفكيروف إلى ليبيا، وعددها ثلاث في السنة الماضية وحدها. والمُلاحظ أن رحيل (أو مقتل) زعيم مجموعة «فاغنر» الأمنية الروسية يفغيني بريغوجين، لم يُغير من أجندة التمدُد الروسي في ليبيا، ودول أفريقية أخرى جنوب الصحراء. وقُتل بريغوجين في ظروف غامضة في آب/اغسطس الماضي، بعدما كان يُعتبر رأس جسر التوغل الروسي في ليبيا والقارة الأفريقية جمعاء.
من واسع إلى أوسع
على الرغم من اشتداد سعير الحرب في أوكرانيا، تبدو موسكو ماضية في خططها للتمدد وتوسيع النفوذ في منطقة الساحل والصحراء. ولا تُخفي واشنطن مخاوفها من اتساع رقعة التدخل الروسي هناك، وهو أحد المواضيع المهمة التي قد يكون رئيس جهاز المخابرات المركزية الأمريكية وليم بيرنز ناقشه مع القادة الليبيين، خلال زيارته لطرابلس العام الماضي. والأرجح أن الموضوع الأساسي الثاني، الذي جاء بيرنز من أجله إلى ليبيا، هو تقديم طلب رسمي لتسلُم عناصر معتقلة في ليبيا من تنظيم «القاعدة» إلى جانب عبد الله السنوسي، رئيس المخابرات الليبية في عهد القذافي، وهو في الوقت نفسه صهره، للاشتباه في ضلوعه في الاعتداء على طائرة «بان أمريكان» التي أسقطت فوق قرية لوكربي البريطانية، العام 1988.
قيادة منقسمة
وأعلن الموفد الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي، الذي حضر اجتماع القيادات العسكرية في سرت، عن انطلاق العمل المشترك بين المراقبين الدوليين والمحليين، لمراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يعود إلى 2020. لكن مصير الصراع لن تُقرره اللجنة العسكرية، لأن أعضاءها يأتمرون بأوامر القيادة السياسية التي عينتهم، والقيادة منقسمةٌ على نفسها منذ انتخابات 2014.
والمُلاحظ أن واشنطن لم تقطع حبل التواصل مع الفرقاء الليبيين، وهو ما أكدته زيارة وليم بيرنز، الذي زار خليفة حفتر في مقره بالرجمة (شرق) مثلما أسلفنا. ولفت مراقبون إلى أن الروس، كثفوا بدورهم الحركة باتجاه المسؤولين الليبيين في الأيام الأخيرة، على الرغم من دخان الحرب المُستعرة في أوكرانيا، إذ استمر تمدُدُ روسيا في جنوب الصحراء، طيلة الفترة الماضية.
جنرالات انقلابيون
من التطورات اللافتة في هذا الصدد، أن إخراج فرنسا عُنوة من منطقة الساحل والصحراء، قابلهُ تكثيف للحضور الروسي في المنطقة. أكثر من ذلك، استطاع الجنرالات الانقلابيون في النيجر، دق إسفين بين الفرنسيين والأمريكيين، باعتمادهم سلوكا مختلفا مع كل من باريس وواشنطن. ففي الوقت الذي قطعوا فيه خيوط الحوار مع فرنسا، وفرضوا عليها إجلاء قواتها من بلدهم، استقبلوا في العاصمة نيامي فكتوريا نولاند، الشخصية الثالثة في الخارجية الأمريكية، وناقشوا معها مجمل القضايا المتعلقة بالانقلاب وتداعياته الإقليمية، بل وسمحوا لها بالاجتماع مع الرئيس المخلوع محمد بازوم. وهذا نوع من الاختراق تحققه الدبلوماسية الأمريكية، إذ لم تتوان عن استثمار الفراغ، في تلك المنطقة، للانتشار فيها تدريجيا، واحتلال المكانة التي كانت تتبوأها فرنسا في مستعمراتها الأفريقية السابقة.
رئيس صوري
ولعل أبلغ مثال على ذلك استحواذ الروس على المستعمرة الفرنسية السابقة جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث ما زال يُرابط قرابة ألف مقاتل من المجموعة الروسية «فاغنر». وقد احتلت المجموعة، حسب صحيفة «لوموند» الفرنسية، ما لا يقل عن 47 موقعا عسكريا في الأشهر الأخيرة. من هنا أتى حرصُ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الاجتماع مع رئيس هذا البلد، خلال القمة الروسية الأفريقية، في الثامن والعشرين من تموز/يوليو الماضي. لكن لم يرشح شيء عن رؤيتيهما لمستقبل العلاقات بين الطرفين، بعد رحيل بريغوجين. والأرجح، مثلما تؤكد تقارير عدة، أن ذلك الرئيس بات صوريا، وأن «فاغنر» والمستشارين الروس، هم الذين يسوسون البلد.
في خط مواز كثفت روسيا اتصالاتها مع الزعماء الليبيين، بتوجيه دعوات لهم لزيارة موسكو. ومن هؤلاء محمد تكالة رئيس المجلس الأعلى للدولة، الذي زار روسيا، وأجرى محادثات مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، حول الأوضاع السياسية في ليبيا، وسبُل الخروج من العطالة الحالية. وأفيد أن الجانبين متفقان على أنه لا وجود لحل سلمي للأزمة، إلا بإجراء الانتخابات المؤجلة منذ 2021. ولم يشر البيان الصحافي الصادر بعد الاجتماع، إلى مصير مجموعة «فاغنر» في ليبيا، وهو موضوع تم التطرق إليه بالتأكيد، في اجتماع بهذا المستوى. ومن المؤكد أيضا أن الروس أثاروا هذه القضايا، خلال الأسابيع الأخيرة، سواء لدى زيارة رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح إلى موسكو، أو بمناسبة الزيارة المماثلة التي أداها رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة إلى روسيا.
دور جزائري؟
ويُتوقع أن تلعب الجزائر دورا في المساعدة على إنهاء الأزمة السياسية في ليبيا، بعد تسلمها الثلاثاء الماضي مقعدا غير دائم في مجلس الأمن لمدة سنتين. ولئن لم يقم الجزائريون بمبادرات في الماضي للوساطة بين الفرقاء الليبيين، فإنهم محافظون على خطوط حوار مباشرة، ليس فقط مع الداخل الليبي، وإنما أيضا مع القوى الدولية المؤثرة في هذا الملف، وخاصة الثلاثي روسيا وأمريكا وفرنسا. وأظهر الجزائريون في أكثر من مناسبة، أن لديهم خطوطا حمراء في ليبيا، سواء للتدخل الأمريكي أم لوجود قوات «فاغنر» الروسية. وكان الرئيس عبد المجيد تبون رفع ورقة حمراء في وجه عناصر تنظيم «فاغنر» لدى إقدام حفتر على استخدامهم في حربه على طرابلس العام 2019.
يبقى أن بوصلة القوتين الدوليتين الفاعلتين في المشهد الليبي، روسيا وأمريكا، لا تُحركها سوى مطامع استثمار الموقع الاستراتيجي للبلد الممتد بين البحر المتوسط والصحراء الكبرى، وما يحويه باطنه من ثروات طبيعية ليس أقلها النفط والغاز والمعادن الثمينة.