كثيرا ما تطالعنا في وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك، بداية كل عام، خطط يضعها البعض في صور أو فيديوهات، يقررون فيها عدد الكتب التي سيقرأونها في العام الجديد، وأسماء بعضها وصور أغلفتها، مع ذكر ما قرأوه في العام الماضي، مع كثير من الفخر. وتشمل تلك القراءات في الغالب روايات عربية ومترجمة، مع قليل جدا من أصناف المعرفة الأخرى كالتاريخ، والفلسفة، والعلوم، التي يمكن الاستفادة منها في الحياة عموما.
أعتقد أن هذا التقليد، أي وضع الخطط، الذي يصور للمتابع أنه ملزم للقارئ الذي وضعه، صعب التنفيذ جدا في عالمنا العربي، الذي لا تستطيع أن تعرف فيه كيف سيبدأ يومك، وكيف سينتهي، وأي عوائق أو مصادفات، قد تعتقل يومك وتبعدك عن القراءة، وفي البلد التي تسود فيها صعوبة العيش، أو عدم الأمان والاستقرار، لن تكون القراءة خيارا مناسبا أبدا، فالقارئ في هذه الحالة يود أن يعثر على ما يطمئنه على حياته أولا، وما يمكن أن يفعله لتوفير لقمة عيشه، ولن يلهث خلف الكتب لقراءتها. ولو كان من عشاق الكتب فعلا، فإنه قد يلمسها أو يقلبها من حين لآخر، حين يمر بمكتبات، لن يشتري منها، وأذكر حين كنت أعمل في السودان، في وظيفة شاغلة لحد بعيد، أن أحسست بصدأ في تفكيري، وقررت أن أقرأ رغم عدم وجود وقت، حملت إلى العمل كتاب «رحلة المليون» لغادة السمان، وهو كتاب شيق وسلس، وظللت أفتحه في الاستراحة، أو في فواصل العمليات، أقرأ صفحة أو صفحتين وأغلقه، واستمر الأمر لشهور، ولم أستطع إكمال الكتاب إلا بعد أن سافرت وعملت في وظيفة أقل إشغالا، وظيفة فيها ساعات عمل محددة، تنتهي دائما، ويظل ثمة وقت جيد وعظيم، قرأت فيه آلاف الكتب بعد ذلك، وتعرفت على إنتاج كتّاب كنت أسمع بهم سابقا، أو قرأت قليلا من كتبهم مثل ماركيز ويوسا، وميلان كونديرا، أيضا قرأت ما أفادني في الكتابة من تاريخ وجغرافيا وعلم اجتماع، وهذه المعارف أسميها خامات الكتابة، أي يمكن تشكيل أعمال روائية جيدة بالاتكاء عليها.
سألت أحد القراء يوما، وكان من الذين توطدت صلتهم بي، وأجده كثيرا في معارض الكتب المختلفة: هل فعلا تقرأ تلك الكتب التي تضعها كل عام في خطتك القرائية للعام الجديد؟ رد: ليس تماما، أحاول قراءتها، وقد أنجح أو أفشل، ليس لعدم وجود الوقت، فأنا لا أعمل في وظيفة، ولكن ربما لعدم تفاعلي مع الكتاب أصلا، حيث أتركه وأذهب لغيره، وتجد دائما أن كتبا في الخطة ألغيت، وكتبا أخرى أضيفت، لم تكن في ذهني حين خططت للقراءة، وقد كنت شغوفا ومتشوقا لقراءة كتاب «بجعات برية» للكاتبة الصينية تشونج تشانج، الذي وصف بأنه ملحمة لثلاثة أجيال من النساء الصينيات، ومرتبط بتاريخ الصين عموما، ورغم الكم الكبير من المعلومات في الكتاب، إلا أنني لم أستطع التقدم فيه، وألغيته من الخطة ولم أعد إليه. أيضا قال لي قارئ آخر، إنه ظل منذ التسعينيات، يخطط لقراءة رواية ماركيز الشهيرة «مئة عام من العزلة»، ولم يستطع إكمالها قط، دائما هناك ما يعوق تقدمه فيها، إما ظروف اجتماعية أو نفسية، هكذا ظلت رواية مخططا لقراءتها من دون أن تقرأ.
وبسبب مثل تلك الخطط، حتى لو لم تنجز، قد تكون ثمة فائدة، حيث قطعا ستتكون مكتبة للذين يستطيعون شراء الكتب، ورصها في مكتبات، هذه المكتبة لن تكون مهجورة بالتأكيد طوال الوقت، ولكن قد يعود إليها المرء، أو الأجيال الجديدة في بيته، ويبدأون في نبش الكتب.
أنا اقرأ كثيرا كما ذكرت في مقالات سابقة، اقرأ منذ زمن طويل، ولكن لا أذكر أبدا أنني وضعت خطة مسبقة، تضم كتبا لا بد من قرأتها، فأنا أعتمد على القراءة العشوائية، من بين كتب أقتنيها من المكتبات، أو معارض الكتب، وهذا يعتمد على تذوقي الشخصي، أحيانا يعجبني الكتاب فأغوص فيه لأنهيه في وقت قصير، وأبحث عن غيره، وأحيانا لا يلائم تذوقي فأتركه، وربما أعود إليه أو لا أعود حسب وقتي، وفي هذا السياق، ضاعت مني كتب كثيرة تعتبر مهمة، مثل كتب الفكر، والتصوف التي تحتاج لتركيز كبير في القراءة، بينما تظل كتب التاريخ أثيرة لديّ، ولا أعرف هل نرحل للتاريخ كثيرا بسبب ضجرنا من الحاضر، أم لاستخلاص العبر؟
أنا أعتقد أن الأمر مجرد متعة قرائية، ومعرفة لأحوال الناس قديما ومقارنتها بأحوالنا الآن. وربما للاستفادة منها حين أكتب نصا يأخذ شيئا من نكهة التاريخ. أعتقد أيضا أن أدب الرحلات مهم جدا، فهو أدب في الغالب صادق، ويزودك بالمعرفة المطلوبة بطريقة سلسة. شيء لا بد من ذكره لواضعي خطط القراءة السنويين، فالقراءة يجب أن تكون قراءة مكتملة وليست ناقصة، بمعنى أن القراءة ليست قراءة الروايات فقط، فالشعر يحتاج قراءة، والفكر يحتاج قراءة، والعلوم الاجتماعية تحتاج قراءة، وأعرف دورا للنشر همها الرئيسي ليس نشر الروايات، ولكن نشر الكتب الأخرى التي تفيد القارئ أكثر مما تفيده الروايات، حتى لو كان عائدها المادي ضئيلا.
والذين يقرأون كتاب «هوس القراءة» الذي تحدثت عنه في مقالي السابق، يعثرون على خيوط كثيرة، تظفرهم بالقراءة الصحيحة.