غزة بين شبكة «سي إن إن» والرقيب الإسرائيلي: الخضوع طواعية

حجم الخط
0

موقع The Intercept، الإخباري والصحافي الأمريكي الذي يفرد مساحة واسعة للاستقصاء والتحليل السياسي، نشر مؤخراً تحقيقاً موثقاً عن واقع تغطية شبكة CNN الأمريكية للحرب التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزّة؛ كتبه دانييل بوغاسلو المحرر المتخصص في تغطية البيت الأبيض والسياسة الخارجية للولايات المتحدة وأدوار وسائل الإعلام المختلفة في هذه الميادين. وقد تضمن التحقيق سلسلة تفاصيل، مثيرة تماماً والكثير منها جديد يُكشف النقاب عنه للمرة الأولى، حول هيمنة مكتب الشبكة في القدس المحتلة على كلّ، وأيّ، مادة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية تخصّ دولة الاحتلال؛ حيث يتوجب إخضاع جميع هذه المواد لمراجعة المكتب، بمعنى التدقيق والتصويب والحذف والتعديل قبيل إجازة البثّ أو النشر.
وهذا الكيان الصهيوني، الذي يتفاخر أنصاره وأصدقاؤه وحماته في الغالبية الساحقة من الديمقراطيات الغربية بأنه «الواحة الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط، يُخضع جميع مؤسسات الأنباء الأجنبية العاملة لديه لقواعد صارمة يضعها رقيب معيّن من الجيش الإسرائيلي، هو الذي يقرر المواضيع التي يعتبرها «خارج نطاق الإخبار» كما يراقب المقالات التي يرى أنها مؤذية أو غير ملائمة للنشر. وإلى هذا، وفي سبيل تعزيز السلطة الرقابية أكثر، يتوجب على كلّ صحافي أجنبي بطلب بطاقة اعتماد لدى دولة الاحتلال أن يوقّع على تعهد يُلزمه بالخضوع لاشتراطات الرقيب.
من جانبها لم تتأخر شبكة CNN في المبادرة إلى إجراءات ذاتية لا تجعلها أكثر طواعية تجاه الرقابة الإسرائيلية، فحسب، بل تضيف مقداراً إضافياً من انحيازها الطبيعي إلى دولة الاحتلال ومحاباة بياناتها الرسمية وغير الرسمية بصدد حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة؛ إذْ لجأت الشبكة إلى تعيين عسكرية إسرائيلية سابقة في وحدة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، لتكون مراسلتها المعتمدة في تغطية وقائع الحرب في القطاع. وفي تفسير هذا السلوك، ورداً على استفسار مكتوب من بوغاسلو، أوضح ناطق باسم الشبكة أنّ إخضاع الموادّ لمراجعة مكتب القدس «يستند إلى حقيقة وجود العديد من الفوارق المحلية النوعية والمعقدة التي تستوجب التدقيق الإضافي للتأكد من أنّ التغطية دقيقة ومحددة ما أمكن».
هذا هراء بالطبع، يتغافل ببساطة عن حقيقة أنّ الرقيب الإسرائيلي يفرض حظراً مسبقاً، وقاطعاً لا استثناءات فيه، على ثمانٍ من موضوعات الحرب في قطاع غزّة خصوصاً، ولكن بالجيش والأجهزة الأمنية المختلفة في دولة الاحتلال عموماً. وكان إيميل داخلي مؤرخ في 26 تشرين الأول (أكتوبر) العام المنصرم، حول «المعايير والممارسات الجديدة» موجّه إلى جميع مراسلي ومحرري الشبكة؛ قد نصّ على وجوب وصف وزارة الصحة الفلسطينية بأنها «خاضعة لـ حماس» خاصة حين تتضمن الإشارة إحصائيات حول الضحايا؛ حتى إذا كانت صادرة في الضفة الغربية أو في أي مكان آخر. كما حثّ الإيميل على أن أية تغطية للكلفة الإنسانية الناجمة عن الحرب يتوجب أن «تغطي أيضاً السياق الراهن الجيوسياسي والتاريخي الأعرض للقصة»؛ بغرض واضح هو تجريدها من أيّ بعد يتصل بجرائم الحرب الصريحة، ويحيلها إلى «أضرار مجاورة» تشهدها كلّ الحروب.

هذا الكيان الصهيوني، الذي يتفاخر أنصاره وأصدقاؤه وحماته في الغالبية الساحقة من الديمقراطيات الغربية بأنه «الواحة الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط، يُخضع جميع مؤسسات الأنباء الأجنبية العاملة لديه لقواعد صارمة يضعها رقيب معيّن من الجيش الإسرائيلي

وضمن توجيه مستقل، صادر عن المدير الأعلى لإدارة «المعايير والممارسات الجديدة» في الشبكة، كتب دافيد لندسي: «بينما تتواصل حرب إسرائيل ـ غزّة، ينخرط ممثلو حماس في خطاب تحريضي ودعاوة عدائية. معظم هذا سبق أن قيل مراراً، فلا قيمة له. يتوجب أن نحاذر في منحهم منصة للتعبير». وهذه لغة توجيهية تحيل إلى أوامر مماثلة صدرت عن إدارة الشبكة عند ابتداء الحرب الأمريكية ضدّ أفغانستان، يشير بوغاسلو، وتمثلت في مطالبة المراسلين بأن يخفّضوا أرقام الوفيات المدنية مقابل تذكير المشاهدين بأنّ ما يشهدونه من عنف كان نتيجة مباشرة لهجمات 11 أيلول (سبتمبر).
وأمّا المحظورات الثمانية فهي تبدأ من كيفية تغطية اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، وتمرّ بأخبار الرهائن الإسرائيليين، ولا تنتهي عند أنباء الأسلحة والمعدات التي يحدث أن تغنمها المقاومة الفلسطينية خلال المواجهات العسكرية. ولهذا فإنّ القصف الإسرائيلي ضدّ أيّ هدف في قطاع غزة، بما في ذلك المشافي والمدارس والمخابز والملاجئ، يجب أن يوصف بـ«انفجار» ولا يُنسب إلى الجيش الإسرائيلي إلا إذا صدر بيان رسمي إسرائيلي بذلك؛ ولا مكان في اللغة لمفردات وتعابير مثل «إبادة» أو «جريمة حرب» أو «تطهير عرقي» أو «تهجير قسري»؛ والمعلومات الصادرة عن الجيش الإسرائيلي يتوجب أن تُبثّ بسرعة، على نقيض المعلومات الفلسطينية حيث من الضروري التروي والإبطاء في إذاعتها. وهذه، وسواها من تعليمات وتوجيهات صادرة عن إدارة الشبكة، تتطابق بمقادير مدهشة مع «الأمر» الذي أصدره الرقيب الإسرائيلي العسكري الأول، الجنرال كوبي ماندلبليت، الذي لم يكترث مكتبه بالردّ على الاستفسارات.
ورغم أنّ انحياز وسائل الإعلام الأمريكية إلى السردية الإسرائيلية ليس جديداً ولا طارئاً، كما قد يقول قائل، محقاً بالطبع؛ إلا أنّ ذلك القديم المترسخ لا يلغي، ولا يجوز له أن يطمس، التفاصيل الصارخة التي تتكدس كلّ يوم، وربما كلّ ساعة، حول مستويات الانحطاط المهني خلف ذلك الانحياز. ولعلّ ما يصحّ أن يكون جديداً على المشهد المستعاد هو ذاك الذي بات يتضح أكثر فأكثر لدى شرائح شتى من مكوّنات الرأي العام العالمي، بصدد جرائم حرب نكراء وفظائع ليس لأيّ بصر أن يغمض عنها؛ حتى في قلب الحكومات والقوى والأحزاب والجماعات التي لم تكن تبصر أيّ شرّ في سلوك «واحة الديمقراطية» الإسرائيلية هذه.
وحين تقول الأرقام إنّ الرقيب العسكري الإسرائيلي مارس رقابته، بمعنى أنه راجع أو عدّل أو حظر، ما مجموعه 6,500 مادة صحافية (طبقاً لإحصائية إسرائيلية هذه المرّة، أنجزها «معهد الديمقراطية» في القدس المحتلة) فإنّ أضعاف هذا الرقم يتوجب أن تكون أيضاً نتاج الرقابة الذاتية الطوعية، التي يمارسها الصحافي نفسه على نفسه، لاعتبارات شخصية أو مهنية أو سياسية. هذا عدا عن حقيقة أنّ أولئك الذين يراقبون أنفسهم بأنفسهم، يمكن أيضاً أن ينتقلوا إلى التلفيق الطوعي والتطوعي، ضمن سياق السعي إلى التقرّب من الرئيس في العمل، أو إرضاء الشبكة، أو حتى الرقيب الإسرائيلي ذاته.
وذات يوم غير بعيد شنّ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حملة ضدّ الصحافة الأمريكية، فاتهمها على نحو خاص بنشر «الأخبار الزائفة» مما يجعلها «عدوة للشعب الأمريكي بأسره». ومعروف أنّ صحيفة «بوسطن غلوب» قادت الهجوم المضاد في وجه ترامب، فذكّرته بأنّ «عظمة أمريكا تعتمد على دور الصحافة الحرّة في الجهر بالحقيقة أمام القويّ» وبالتالي فإنّ وصم الصحافة بالعداء للشعب أمر «لا ـ أمريكي، بقدر ما هو خطير على اللحمة المدنية التي تشاركنا فيها على امتداد قرنين ونيف». والأرجح أنّ سلوك الإعلام الأمريكي عموماً، وشبكة CNN خصوصاً، في التعمية على جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزّة وعموم فلسطين؛ سوف تجعل تلك الواقعة أضحوكة مشتركة، متبادلة تماماً بين ترامب وثقاة «اللحمة المدنية»!
ذلك لأنّ الخضوع طواعية، وليس الإخضاع قسراً؛ والتلفيق ذاتياً، وليس الرضوخ رقابياً؛ هي بعض الصياغات ما بعد الحداثية لعلاقة شبكة CNN مع الرقيب الإسرائيلي خصوصاً، ودولة الاحتلال الإسرائيلي عموماً؛ من دون إغفال البرهة السياقية الراهنة، الحاسمة والقاطعة والفارقة، لانفلات التوحش الإسرائيلي من كلّ رادع أو عقال، على مرأى ومسمع مليارات البشر، في مشارق الأرض ومغاربها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية