غزة ـ «القدس العربي»: تسود اليوم حالة من الكارثة الإنسانية في غزة، إذ تزيد المعاناة والخوف بعد مئة يوم من الحرب على القطاع، لا يوجد غذاء كافٍ، والدواء غير متاح، والرعاية الصحية تضعف في المستشفيات، والمواطنون يعانون، ويموتون في ظل هذه الأوضاع المأساوية، ولا تظهر أي نهاية قريبة لهذا الصراع.
ويطالب كل من التقت بهم «القدس العربي» بضرورة التحرك بسرعة للتصدي للظلم والتضييق على الأبرياء.
وتزداد الأوضاع في غزة بمختلف قطاعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية سوءا، حيث حول الاجتياح البري الإسرائيلي المتواصل في شهره الثالث، قطاع غزة على العموم بما فيه من مواطنين وممتلكات ومصالح سواء كانت حكومية أو مؤسسات خاصة إلى أنقاض.
وصارت الحياة هناك مقلوبة رأسا على عقب، لا يعرف الناس من شدة المعارك وضراوتها أن يعيشوا أيضا في معسكرات النزوح التي أقامتها منظمات الإغاثة الإنسانية المحلية والدولية ومخيمات النازحين العشوائية.
ويقول يوسف أبو الريش وكيل وزارة الصحة في غزة إن معظم العائلات والأسر النازحة أو التي التزمت البقاء داخل غزة، ارتقى أعداد كبيرة منها شهداء.
وأضاف لـ«القدس العربي»: «العدد الكبير استشهد في حالات مختلفة إما تحت الأنقاض من جراء القصف الصاروخي الممنهج على الأبنية؛ فتسقط بكامل طوابقها على أسر بأكملها لم ينجُ منهم إلا من كتب الله له العيش».
وتابع «المعاناة تتفاقم وعلامات الموت فيها على رأس كل ساعة، ارتكب الاحتلال مجازر مروعة في خانيونس، ومخيم الشاطئ وحي الشيخ رضوان وجباليا شمالي قطاع غزة، وفي المنطقة الشرقية في مدينة رفح جنوبي القطاع».
وبين أن الأعداد كبيرة من الجرحى، إذ بلغ عدد الجرحى منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر في العام المنصرم إلى هذه اللحظة بلغ أكثر من ستين ألف جريح ضجت بهم مستشفيات قطاع غزة دون أي وجود للمعدات والمساعدات الطبية حتى يتلقى هؤلاء الجرحى العلاج بسرعة حسب حالتهم الصحية.
وبجانب ما سبق يكمل وكيل الوزارة «هناك استهداف متعمد للطواقم الطبية وإدارتها خلال أداء عملها سواء كان بالوصول السريع إلى موقع الحدث أو أماكن القصف أو بإجراء الإسعافات الأولية مباشرة في أماكن القصف».
ويضيف «سيارات الإسعاف قصفت باستهداف جوي إسرائيلي مباشر وعملية إعاقة الفرق الطبية في الوصول إلى المشافي لتقديم خدمات العلاج للمصابين مستمرة».
الأوضاع الصحية للمواطنين
لا رعاية صحية، لا دواء في المستشفيات الحكومية والخاصة، بعد أن عجزت المنظمات الدولية الإغاثية في توفير الدواء المطلوب سواء كان للنازحين وللاجئين في الإيواء أو في دعم المستشفيات الحكومية عبر وزارة الصحة التي أعلنت في وقت سابق عن حجم الكارثة، وبأن الوضع الصحي في قطاع غزة في كارثة حقيقية حيث انهيار المنظومة الصحية في ظل عدم توفر المساعدات أو أوليات خدمات الطوارئ للمرضى في ظل حالات إطلاق النار والقصف الصاروخي على مدار أيام الحرب التي لم تتوقف؛ فصار الموت في ازدياد من جراء نقص الأدوية الأساسية.
جابر رضوان مواطن من مدينة خانيونس يقول إنه لم يشهد ما يحصل في تاريخ الحروب التي مرت عليه وهو في العقد السادس من عمره ويقول: «كارثة إنسانية حقيقية بمعنى الكلمة، الناس يموتون بأبسط شيء، دواء الحمى لخفض حرارة الجسم، هذا الدواء الذي لا يكاد أن يساوي شيئا يموت الناس بسببه».
ويشير إلى أن الأدوية المنقذة للحياة مقطوعة تماما، قائلا لـ«القدس العربي»: نحن لم ننتظر أحدا يساعدنا، ويمد يد العون لينقذ هذا الشعب الذي يبحث عن الحرية والحياة».
ويتساءل «ولكن أين إخوتنا العرب، أين إخوتنا من المسلمين؟ يا عالم والله لا أصدق ما يجري لنا، وهؤلاء يشاهدون المرضى في المستشفيات بلا دواء».
ويواصل «أنا لا أتحدث عن الذي قتلته الآلة الحربية الإسرائيلية وسحلته سحلا ومن قبلها حولت بيته إلى ركام، لا أتحدث عن هؤلاء، أتحدث عن المرضى والجرحى، والله حرام». فمضى ذاهبا إلى خيمته وهو يقلب كفيه.
أما النازح جهاد التركماني فينوه لـ«القدس العربي» خلال حديثه إلى أنهم يخشون من الأوبئة بسبب انعدام الرعاية الصحية وغياب الأدوية العلاجية بكل أنواعها.
ويتحدث عن إحدى بناته التي نجت من قصف صاروخي دمر منزله فوق أسرته فقتل أخواتها الأخريات وأخاها أشرف الذي بدأ يتعلم الحبو إذ كانت تدربه على النهوض، فتصحو في كل صباح ثم تأخذ بيد أخيها الصغير؛ لتعلمه كيف يبدأ خطوات المشي بنفسه وهو صغير استعدادا لانطلاقه نحو الحياة.
هكذا فقدت هذه البنت شقيقها الصغير فدخلت في حالة نفسية صعبة تحتاج فيها إلى جرعات علاجية؛ لأنها صارت مضطربة وتصرخ بأعلى صوت، تنادي أخواتها وهي في حالة صدمة كبيرة لم تتحملها هذه الطفلة التي لم تبلغ الخامسة عشرة.
يقول التركماني: «ابنتي ميادة تعاني من اضطراب نفسي حاد تحتاج إلى استشارات طبية وعلاجية عاجلة حتى لا تتطور الحالة».
يختم جهاد حديثه والأسى يقطع قلبه المكلوم والممتلئ بالجراح «كما تعلمون، العلاج النفسي يحتاج إلى متابعة وسرعة، واليوم نحن نعاني، لا علاج ولا رعاية صحية ولا أي شيء، ننتظر الفرج من الله».
معاناة الحوامل
هالي الدالي طبيبة نساء وولادة تعيش في مراكز الإيواء تقول: «تقابلنا حالات ولادة كثيرة، بعضها حرج يحتاج إلى تعامل ربما طبي لتحديد طبيعة الوضع النهائي».
وتشير خلال حديثها لـ«القدس العربي» إلى «أن الحوامل يعانين خاصة في الشهور المبكرة من الحمل، فالتعب والخوف يؤدي إلى سقوط الجنين عند حالات كثيرة».
وتضرب الطبيبة مثالا على حديثها «إنهاء الحمل أو موت الجنين حصل لفتاة كانت في حملها الأول في حاجة إلى تعامل جراحي أو طبي على مستوى المستشفيات خاصة أنها تعاني من أمراض مزمنة مع الحمل وتحتاج إلى إشراف طبي بحيث لا يتضرر الجنين أو الأم؛ وكانت النهاية المؤسفة موت الجنين؛ لأن إمكانات المستشفيات وصلت إلى الصفر».
وتواصل حديثها «من كتب الله له الحياة، ومن أسعفه الحظ؛ كانت حالته الصحية في مقدور اجتهاداتنا، وفي حدود إمكاناتنا، فقدمنا له يدن العون».
وتؤكد أن معاناة الحوامل لم تر لها مثيلا من قبل، فضلا عن خطر حالات الولادة قائلة: «أغلب الحالات مصنفة على أنها حالات قابلة للوفاة خاصة في الأوقات التي لا تخلو من إهمال من كل الأطراف في ظل عدم توفر الرعاية الصحية المتكاملة».
وتتابع «لا عزاء لأحد، هكذا هو الحال هنا في قطاع غزة لا أكل ولا شراب، حتى صار المواطنون يبحثون عن بقايا طعام في المنازل المدمرة التي غادرها أهلها في أيام الحرب الأولى حين اشتداد القصف؛ يبحثون عن بقايا طعام لسد رمق الأطفال الجوعى».
الجوع والفقر
لا دواء ولا غذاء صارت مترادفات بالنسبة للمواطنين هنا في مخيمات قطاع غزة، حيث بطون الناس خالية، هناك من يمضي يوما كاملًا بلا أكل، وهناك من يمضي يومين بلا لقمة خبز في جوفه.
يقول نائل أبو الكاس النازح من مدينة غزة: «صارت الناس تقتات من أوراق الأشجار لتسد بها رمق الجوع الكافر، الذي قال فيه الإمام علي: لو كان رجلا لقتلته».
وأكد لـ«القدس العربي» أن الجوع حصد أرواحا تعذر عليها الحصول على الأكل والشرب لمدد متباعدة لانقطاع المواد الغذائية الأساسية، فأصيب الكثير بسوء التغذية التي عصفت بالمواطنين.
ويشير إلى أن الأطفال الصغار وحديثي الولادة الأكثر تضررا، متسائلًا: «من أين تأتي أم الرضيع باللبن وأمعاؤها خاوية؟ من أين تأتي باللبن لهذا الرضيع وإسرائيل تحرمهم كل شيء؟».
أميمة ياسين مهندسة تشتكي من أن الأوضاع صعبة والجوع صار يحاصر الناس من كل الاتجاهات، لا يوجد أي شيء متوفر للشراء حتى إن وجد في الأسواق أو محال البيع فهو غالٍ ومكلف.
وتتضاعف المعاناة بالنسبة للأسر الفلسطينية في خيام النزوح، تقول أميمة لـ«القدس العربي»: «لا توجد أدنى محاولة للحصول على المال لنشتري به مستلزمات في ظل هذه المأساة، إنه ألم… ألم صعب تحمله أكثر».
صعوبة الحصول على النقد
صارت عمليات التداول بالنقد في حركة البيع والشراء شحيحة، والموظفون يجدون صعوبة بالغة في الحصول على رواتبهم نسبة للخروج المستمر للعملة الصعبة (الدولار) الذي تشهده كل القطاعات الاقتصادية يوميا بأكثر من مليون دولار عن طريق المسافرين وهم كثر.
هذه الممارسات، والإجراءات الضارة باقتصاديات قطاع غزة أثرت في عمل الجهات الرسمية والخاصة، فصار المواطنون عاجزون عن تسلم رواتبهم من المصارف بعد أن ارتفع سعر الصرف من جراء المضاربات الضارة على وجه العموم.
ويغادر يوميا موظفون أجانب ومحليون، ومواطنون أيضا عبر معبر رفح بعد تفاقم الأزمات والحروب الممنهجة في قطاع غزة.
الخبراء الاقتصاديون
أشار عدنان عبدالعال الباحث الاقتصادي إلى أنه منذ الحصار الإسرائيلي على غزة قبل اندلاع الحرب، كانت الحكومة في القطاع تواجه تحديات مالية كبيرة، جعلت اقتصاد البلاد مثقلا بالكثير من الأزمات.
ويوضح لـ«القدس العربي» من الأزمات الاقتصادية «سعر الصرف، ومعدلات النمو المنخفضة، والإيرادات غير الكافية، أدت الحرب إلى تفاقم هذه القضايا جميعها».
وأكد أن هذه المشاكل أدت إلى عجز حاد في ميزانية الحكومة في غزة وعدم القدرة على الوفاء بالالتزامات المالية، بما في ذلك دفع الرواتب والأجور.
وتوقع بأن هذه المشكلة ستتفاقم بشكل مستمر ما لم تُحل الأزمة، ويتم التوصل إلى حل سياسي يعيد الأمل والاستقرار أو إمكانية تعافي الاقتصاد مستقبلا.
وأكد مسؤول اللجنة الإغاثية في خيام النزوح في رفح المهندس الزراعي سليمان ضهير، أنه بسبب النزوح وتدمير الأراضي الزراعية أخفق الموسم الزراعي في كثير من المناطق في قطاع غزة بسبب عدم التمويل، وبسبب عدم وجود إستراتيجية اقتصادية على وجه العموم في قطاع غزة. وشدد على أن «مشكلة الإيواء والنزوح والتهجير داخل قطاع غزة تتفاقم، والعالم العربي والعالمي لا يبدي أي اهتمام حقيقي».
وقال لـ«القدس العربي» إن «تأثير الحرب في الاقتصاد حاد».
وتابع: «بصورة عامة، فإن إدارة الأزمات المالية تتطلب تحليلًا دقيقا للظروف الاقتصادية والإنسانية والإغاثية، واتخاذ إجراءات صارمة وعادلة للتعامل معها في ظل الحروب، فهذه الأشياء ليست وليدة اللحظة ولا بالجديدة».
مآل الأوضاع في القطاع
يشدد المتحدثون لـ«القدس العربي» أن ما يحدث من قتل للمدنيين هو إبادة جماعية، وأصبحت حصيلة الضحايا تتجاوز 23 ألف شهيد، ويطالبون أن تجد القوى العالمية والمنظمات الإنسانية حلًّا لهذه الكارثة، وضمان الحياة الكريمة للمدنيين في قطاع غزة.