كان الناس على مدى مئات السنين يتوجهون إلى القدس من جهة الغرب بنفس المشهد المعروف: تلة مرتفعة يعلوها قبر متميز. وأضيف للتلة مسجد مع مرور السنين، أما المباني التي عليها فبدأت تختفي وراء مبان أخرى. ارتبطت بالمكان أساطير وقصص كثيرة خلال هذه السنين، أشهرها صوفي يهودي مقدسي بحسبه تعدّ هذه التلة فتحة المدينة “بتحا دكراتا”، أي المكان الذي يربط بين القدس العليا والقدس السفلى. حسب التراث، هو المكان الذي سيظهر فيه المسيح بن يوسف، الذي سيبشر بقدوم المسيح بن داود.
في تلك السنوات، كان معروفاً بأن المبنى يستخدم مقبرة إسلامية، ومن عام 1929، جرت فيه أعمال تخريب، وخطوا على الجدران كتابات مثل “العربي الجيد هو العربي الميت”. وفي العام 2011 نجا من محاولة إحراق. ومؤخراً، اقتحموا أبوابه رغم موقف سلطة الآثار وبلدية القدس المسؤولة من هذا القبر. وتم تبييضه ووضعوا شمعداناً على أحد القبور، ولافتة جديدة على المدخل كتبوا عليها أنه قبر بنيامين بن يعقوب.
حسب أقوال يعقوب حن، وهو من رعايا بيرسلاف وناشط رئيسي في تغيير طبيعة المبنى، فإن التراث الذي يربط بين بنيامين بن يعقوب، والد سبط بنيامين، والمبنى، غير جديد. وأشار إلى “الكتاب الصحيح” الذي كتب في العصور الوسطى، والذي يصف التاريخ اليهودي، وفيه: “دفن بنيامين في القدس رغم أنف اليبوسي”.
كلمة “اليبوسي” تعني القدس وأمامها التلة بين شارع “شتراوس” وشارع “يحزقيل” في الحي الحريدي بالقدس. وحسب أقوال حن، تجمعت في السنوات الأخيرة مجموعة حريديم في الحديقة التي أقامتها البلدية قرب القبر لإحياء ذكرى موت بنيامين. لاقت المبادرة نجاحاً هذه السنة عقب قرار الجيش الإسرائيلي تقليص الاحتفالات بالأم راحيل في القبر الموجود على مدخل بيت لحم بسبب الحرب. وشرح حن أنه وبسبب القول في التوراة بأنها توفيت أثناء ولادة بنيامين – حسب التراث، مات بنيامين في نفس تاريخ اليوم الذي ولد فيه – تاريخ الاحتفال به وبأمه متشابه. “لقد جاء الآلاف إلى هنا”، وصف حن الاحتفال في هذه السنة. وحسب قوله، القبور الأربعة الأخرى في المبنى هي قبور أولاد بنيامين: بلاع وبخار واشفال وحافين.
لكنه شرح ينفيه الباحثون. وحسب قولهم، المدفون هناك جنديان مسلمان سقطا في العام 1251 في معركة بين فصيلين من جيش السلطنة الأيوبية. السلالة الأيوبية التي مصدرها كردستان، حكمت أجزاء واسعة من الشرق الأوسط في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. الحاكم الأشهر الذي ترأس هذه السلالة هو صلاح الدين الأيوبي، الذي احتل القدس من يد الصليبيين.
الجنديان اللذان دفنا في المبنى ينتميان لعائلة القيمري، وهي عائلة بارزة يعيش أبناؤها في القدس حتى الآن. مع مرور الوقت، أضيفت للمنشأة ثلاثة قبور أخرى، دفن أشخاص آخرون من عائلة القيمري في قبرين. لذا، سمي المبنى بالقيمرية.
حسب أقوال البروفيسور ريخف (بوني) روبين، مدير معهد أبحاث يد إسحق بن تسفي، كان المبنى جزءاً من عدة مبان بارزة للعيان أحاطت بالقدس القديمة من كل اتجاه. “كل من جاء إلى القدس من جهة الغرب عن طريق لفتا أو الطريق الرومي شاهده، وهذا الأمر الذي كان يبشر بالاقتراب من القدس”، قال روبين.
ضيوف وأصحاب بيت
إن تحويل قبور شيوخ أو قبور أولياء مسلمين إلى قبور أولياء يهود، ظاهرة سائدة جداً. عملياً، ينسب لبنيامين بن يعقوب قبر آخر قرب “كفار سابا”. ودفن فيه، حسب التراث الإسلامي، حكيم اسمه النبي يامين. ولكن حسب ادعاءات المؤمنين اليهود، حافظ الاسم العربي على اسم بن يامين، وهذا دليل على صدق ادعاءاتهم. الباحث دافيد آساف من جامعة تل أبيب، شار في منشور “فرحة السبت” إلى وجود تقاليد أخرى حول مكان دفن بنيامين في غور بيت نقوبا في الجليل.
“حتى العام 1948 تشارك اليهود والمسلمون في تقديس المكان”، قال البروفيسور دورون بار الذي حقق في تاريخ الأماكن المقدسة. وحسب قوله، فإنه “كان اليهود في مرات كثيرة هم الضيوف، وكان المسلمون أصحاب البيت”.
بعد العام 1948، قال بار، بدأ اليهود في عملية الاستيلاء على الأماكن الإسلامية المقدسة. وحسب قوله، تمت العملية على الأغلب بتشجيع من السلطات في السبعينيات. وفي العقود الأخيرة، قال، أصبحت عملية أكثر تلقائية. الأشخاص الذين هم بحاجة إلى مكان مقدس قرب البيت يأخذون مبنى إسلامياً ويقدسونه. هكذا تحول أو أصبح هذا يرتبط بالإيمان: قبر النبي داود إلى قبر دافيد، وقبر النبي صموئيل إلى قبر شموئيل هنفيه، وقبر أبو هريرة إلى قبر الحاخام غملئيل، وما شابه.
دورات لدراسة الزوهر
العلاقة التاريخية للمؤمنين في الديانتين بهذه المنشأة بدأت تتطور قبل سنوات كثيرة. التراث الصوفي اليهودي حول التلة بدأ يتعزز عند بداية استيطان اليهود لمنطقة، في الوقت الذي تجمع في هذا المبنى أوائل الفروسيين في القدس، وهم تلامذة العبقري من فلناه، وهؤلاء كانوا يقيمون حلقات في خيمة لدراسة الزوهر وتوراة أرض إسرائيل.
بعد سنوات كثيرة، وصف الكاتب حاييم بئير كيف أنه أثناء الحصار في 1948 تجمع الصوفيون هناك وأقاموا صلاة لطلب الخلاص، صلاة “بعدها تم تخفيف الوضع بشكل كبير”. بالنسبة للعرب، في المقابل، دفن في هذا المكان ليس أقل من ثلاثة من أنبياء الديانة التوحيدية: موشيه، ويشوع، ومحمد. هذا التراث أثر على المندوب السامي البريطاني جون تشنسلر، الذي قرر تسمية الشارع القريب بشارع الأنبياء. وحتى الآن، هذا هو اسم أحد الشوارع المهمة في مركز مدينة القدس.
في نهاية القرن التاسع عشر، بدأت الأحياء اليهودية في الظهور قرب القيمرية، وفي الوقت نفسه، تم بناء مسجد قربها. ثم بدأوا يسمون المكان “النبي عخشا”، على اسم أحد صحابة النبي محمد، ونسبوا المسجد له.
في ضوء تاريخه الأثري، بدت جمعية الآثار “عيمق شفيه” غاضبة بسبب التغييرات. “لو أرادت سلطة الآثار والبلدية لأغلقت المبنى على الفور”، قالوا في الجمعية. “ولكنهم مكنوا مجموعات حريدية متطرفة من تحويل القصة الثرية للقدس إلى قصة أحادية الأبعاد ومختلقة، وتبقيه مهملاً وخرباً. كتابات الغرافيك التي كتبت على جدران المبنى وداخله، واللافتات التي علقت عليه والتي تشبه لافتات المركز القطري لتطوير الأماكن المقدسة، تدل على أنها لا تنوي إعطاء المبنى الإسلامي ما يستحق من الاحترام كجزء من تاريخ المدينة”. في المقابل، الدكتور توفيق دعادلة، الذي فحص تاريخ المبنى، رحب بدخول اليهود إليه: “إذا استخدموه، فلن يسمحوا بتدميره على الأقل. استخدام المبنى سيعمل على إحيائه”.
جاء من بلدية القدس: “عملت البلدية على إزالة مخالفات البناء التي حدثت في المكان ومحاولة السيطرة عليه. وعملت أيضاً إلى إعادة الوضع لسابق عهده، وسمحت بوصول أي شخص إليه”. يجب التأكيد أن البلدية لم تصادق على تغيير استخدام المكان كمقبرة إسلامية. مدير سلطة الآثار ايلي اسكو زيدو، قال إن سلطة الآثار تنوي العمل بالتعاون مع البلدية على إغلاق هذا المبنى.
نير حسون
هآرتس 15/1/2024