الأبارتهايد الجنوب افريقي سقط غير مأسوف عليه سنة 1991 ، وكان فوز نلسون مانديلا بمنصب رئاسة جنوب افريقيا سنة 1994 ، رمزا للبناء الجديد ، الذي لا يعني فقط ، زوالا نهائيا لنظام الفصل العنصري في جنوب القارة السمراء ، وإنما خطوة حثيثة نحو ، هزيمة كونية لفكرة المركزية الأوروبية ، التي هيمنت على العالم لقرون طويلة ، ومازالت ورغم شيخوختها ، تحيا على رصيدها ، وأرباح استثماراتها في ما يسمى بالعالم الجديد، وعلى اقتصاد التخلف الذي أورثته لبلدان الجنوب ، المتحفزة لأخذ زمام المبادرة التاريخية وتصحيح المعادلة القائمة، بحسبة جديدة لا تفوق عرقي أو ديني أو عسكري فيها ، ولا تعصب يعميها ، حسبة قيم العدل الإنساني .
الملفت ان سنة قيام نظام الأبارتهايد وتبلوره كشكل رسمي للحكم في جنوب افريقيا ، هي نفسها سنة قيام النظام الصهيوني على جزء من الأراضي الفلسطينية سنة 1948 ، سقط الأول رافعا يديه ، وسلم بالأمر الواقع بعد صراع مرير، فكانت نهاية عاقلة، وهي بذلك قد حقنت الدماء والأرواح وفتحت مخارج للتسامح ، وأما الثاني ، الأبارتهايد الصهيوني ، فهو مازال يكابر ويعافر ويتسبب بتشريد وتعذيب الملايين، ويحاول التهرب من مصيره المحتوم بالقفز للأمام ، مستعينا بغطرسة القوة ، وبالحقن والمغذيات الغربية التي هي الأخرى لها اعمار افتراضية ، لا يمكن أن تدوم .
يقول جو بايدن ان لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها، وهو بهذا المعنى يذهب للتأكيد على الدور الذي تلعبه إسرائيل في ترسيخ الهيمنة الغربية على العالم، من خلال هيمنتها على الشرق الأوسط ، بزعامة القطب الأوحد أمريكا.
أريد لإسرائيل أن تكون قاعدة حراسة متقدمة لمصالح الغرب الاستعماري في المنطقة، بمعزل عن الدولة التي تتزعم هذا الغرب، وجرى توظيف نتائج الصراعات الأوروبية على تقاسم العالم ، في الحربين العالميتين ، لتنفيذ هذا المشروع الاستيطاني، منذ وعد بالفور، ونتيجة لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية ، ولكون نازيتها قد بطشت باليهود ، أصبحت هي الأكثر مديونية للصهيونية وبكل المعاني السياسية والأخلاقية والنفسية ، وبدفع من المنتصرين في الحرب تماهى الدور الناشئ لمشروع إقامة الكيان الصهيوني مع النزعة الأوروبية الغربية غير المتجانسة مع اليهودية ، فأخذت تدفع بالمشروع دفعا، لتسهيل نقل يهود أوروبا إلى فلسطين كوطن بديل بحماية غربية دائمة، ليضربوا بذلك عصفورين بحجر واحد ، ضمن الغرب أولا- وجود قاعدة دائمة له في واحدة من أخطر مناطق العالم ، وثانيا – تخلص من عقدة التجانس المفقود تاريخيا مع اليهود في اوروبا الغربية !
الأبارتهايد الأول
السيطرة على الأرض وإزاحة سكانها الأصليين وإحلال المستوطنين البيض محلهم وعزلهم مع تجريدهم من الحقوق المدنية التي يتمتع بها البيض ، هو جوهر الأبارتهايد الذي يعني حرفيا “اقصاءهم ونبذهم” ، ومن ثم ابتزاز حاجاتهم المعيشية، واستغلالهم كقوة عمل منتجة اضافية للثروة، مما يزيد من تركيزها بجيوب الطبقة المتحكمة من معشر البيض، المسيطرين على الأرض وما عليها، لقد سيطر المستوطنين الأوائل على قرابة 87 في المئة من الاراضي ورحلوا ثلاثة ونصف المليون من السود إلى مساحات محددة لا يبارحوها إلا برخص يأمر بها أصحاب القرار.
منذ الولادة يصنف السكان إلى أربع فئات لا تزاوج بينها ، ولكل منها حقوق وواجبات مختلفة عن الأخرى، السيادة بينها للعرق الأبيض، وأدناها هو للسود ، وليس لما بينهما من هنود وملونين كما للأسياد الحاكمين المالكين ، وهنا لعبت الكنائس الأوروبية التبشيرية دور المشرعن الأخلاقي واللاهوتي لهذه القسمة اللاأخلاقية بين البشر، لا لشيء سوى لأن بين أيادي الأقلية البيضاء قوة قسرية تخضع الآخرين ، مدعومة بمدد من دول المنشأ ، دول المركز الاستعماري في الغرب الذي يعتبر نفسه سيدا للعالم .
الأكثرية السوداء صاحبة الأرض محكومة من الأقلية البيضاء ، التي استوطنت جنوب افريقيا وحكمتها حكم الأسياد للعبيد ، وكانت الاقلية تتشدق بالتحضر والتطور والديمقراطية ، البيضاء ، التي تتداول السلطة السياسية سلميا وبانتخابات حرة ، حصريا للبيض ، اما السود فلا حق لهم في الاختيار، لذلك اختار السود طريق التصدي وبكل أشكال النضال المتاحة ، لكنس هذا الحكم المشين وإقامة حكم ديمقراطي عادل.
ورد في الكتاب السنوي لحكومة جنوب افريقيا العنصرية عام 1976 ” لدى إسرائيل وجنوب افريقيا شيء واحد قبل كل شيء مشترك ، كلاهما موجودان في عالم يطغى عليه العداء ويسكنه أناس من السود” !
الطبعة الثانية مركزة
قبل قيام الكيان الصهيوني بعقود ، عملت الوكالة اليهودية على استخدام أسلوب الترغيب والترهيب في الاستيلاء على ما تيسر من أراض فلسطينية ، وتوسع هذا الاتجاه بعد الحرب العالمية الأولى مع سيطرة الاحتلال البريطاني وانتدابه ، اصبحت هناك بؤر استيطانية بحماية بريطانية ، ومن هنا برز الوعي الوطني الفلسطيني المبكر ، معبرا عنه في عدة هبات وثورات كان أبرزها ثورة 1920 وثورة البراق 1929 والثورة الكبرى 1936 – 1939 وقبلها ثورة عز الدين القسام 1935 ، وأخذ التصادم يتسع مع تسلح المستوطنين والمهاجرين الجدد ، بإسناد مباشر من سلطات الانتداب البريطاني، فقامت العصابات الصهيونية المسلحة ، شيترن ، والهاغانا ، وارجون ، وبلماح ، وبيتار ، بما يلزم لإرهاب الفلسطينيين ، وتزايد تواطؤ سلطة الانتداب البريطاني مع الحركة الصهيونية ووكالتها اليهودية ، مما مكن اليهود من السيطرة على الكثير من المرافق العامة المهمة ، واستعجلوا بريطانيا على إنهاء الانتداب ، وعندما عرضت بريطانيا موضوع انهاء انتدابها على الأمم المتحدة وقتها ، كانت الأخيرة على دراية بالنزاع الدائر بين عرب فلسطين واليهود ، فصدر قرار 181 لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود .
قامت دولة إسرائيل 1948 على نحو 57 في المئة من أرض فلسطين، في حين أن تعداد اليهود حينها لا يشكل سوى 33 في المئة من السكان ، ويشكل الفلسطينيون نحو 67 في المئة !
مع الحروب العربية الإسرائيلية ، استكملت إسرائيل احتلال كامل الأراضي الفلسطينية ، وأخذت تلوح باحتلال المزيد من دول الجوار العربي ، وتعاطت مع فلسطينيي الحرب الأولى ، 1948 ، على أنهم من رعاياها غير اليهود ، ورسميا ، سيكون لهم وعليهم ما لليهود ، وهذا ما لا يتفق مع واقع الحال ، أما المهجرون والمبعدون فلا يحق لهم العودة لمدنهم وقراهم ، وقد صودرت أملاكهم ، وبالنسبة لسكان الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 سكان غزة والضفة والقدس الشرقية ، فإنهم يخضعون لسلطة الاحتلال المباشرة أمنيا ومدنيا ، وبعد اتفاقية أوسلو عام 1993 ، تكونت سلطة الحكم الذاتي المؤقتة ، في الضفة وغزة ، تحت المظلة العسكرية والأمنية والاقتصادية الإسرائيلية، ومنذ قيام تلك السلطة يتزايد الاستيطان وتتركز سياسة العزل ، والتعامل القمعي مع أي معارضة ، تحولت غزة إلى سجن كبير ، والضفة والقدس الى جزر مقطعة مهددة بالتهويد والتهجير والإبادة .
تقبر إسرائيل بالجملة كل الوعود ، بإقامة الدولة الفلسطينية ، وتراكم هذا الواقع أدى إلى تفجر العديد من المواجهات والانتفاضات ، ولم يردع ذلك إسرائيل ، وكانت تزداد شراسة بفضل الرعاية والحماية الغربية المطلقة ، حتى أعلنتها حربا شاملة على كل الرافضين للاستسلام والتسليم بالضم غير المعلن ، أما مصير السلطة فهو الخنق والتعجيز، وصار الدفاع عن البقاء هو الملاذ الأخير ، ملاذ المقاومة وبكل الوسائل المتاحة ، للخلاص من السجون الأبدية والقتل المجاني ، والإذلال العنصري .
من فظاعات الأبارتهايد الأخير هو الإذلال الاقتصادي الذي يمارسه المحتل الصهيوني بحق الأيادي العاملة الفلسطينية والتي لا تجد أمامها سبيلا للحصول على قوتها ، فتقبل العمل في المستوطنات الصهيونية ، وتضطر للمساهمة في تشييد مستوطنات من يستعمر الأرض ، وبشكل آخر يمارس المحتل الصهيوني سياسة الإعاقة للاقتصاد الفلسطيني تتعامل مع سلطة الحكم الذاتي ومخصصاتها المالية!
إنهاء الاحتلال أولا:
قال نلسون مانديلا : “نعلم جيدا أن حريتنا منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين ” كان مانديلا مدركا لتعقيدات الوضع الفلسطيني والتي تجعل من فرص الحل العاقل والعادل وعلى الطريقة الجنوب افريقية ترف ، فالأقلية البيضاء وصلت الى باب مسدود لا يسمح لها بغير التراجع، أما إسرائيل فهي مازالت تلعب دور القاعدة المتقدمة للغرب الإمبريالي وهي تستورث دور الضحية في أعين الغرب.
وليس مصادفة أن يكون حزب نلسون مانديلا ، حزب المؤتمر الوطني الافريقي ورئيسه سيريل رامافوزا ، هو بعينه من يكون خير المناصرين لنضال الشعب الفلسطيني ، وهو بعينه من يرفع دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية لارتكابها جريمة الإبادة بحق أهالي غزة ، ويطالب المحكمة بإصدار قرار احترازي لوقف إطلاق النار، وقال رامافوزا معلقا على خطوة جنوب افريقيا تلك قائلا : لن نكون أحرارا ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني أيضا.
لا مفر من وحدة الصف الفلسطيني ، وتجسيدها في لحمة وطنية غير قابلة للكسر ، ودون وصاية أو إقصاء، وتجديد وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية ، التي مازالت أمريكا تضع اسمها على خانة الإرهاب المجمد.
إن الارتقاء لمستوى التضحيات الجسيمة للشعب الفلسطيني، هو أقل ما يمكن أن يقدمه أصحاب القرار في كل الفصائل الفلسطينية ، للشعب المنكوب، الذي أصابه ما لم يصب شعبا آخر.
كاتب عراقي