من فتاة بائسة وجائعة، ويتيمة في ملجأ وخادمة، ثم غاسلة صحون وأرضيات، الى أشهر نجمة في العالم، تلك هي مارلين مونرو، أو نورما جن، صاحبة أجمل طلة في تاريخ السينما العالمية، وأجمل رقة وخفة وغوى في ستديوهات هوليوود وزواياها الخفية، وعالمها الغامض، المترع بالمشاهير من ممثلين وممثلات، ومنتجين ومخرجين ومصوّرين ومهندسي صوت وديكور وإضاءة، ومصممي أزياء، وكاتبي سيناريوهات وقصص ومونتيرين ومختصين بالمكياج والملابس، وعاملين مختصين في صناعة النجوم وتنسيق الخطى لهم، من أجل السير الحثيث في اتجاه عالم الشهرة والفن والنجومية، تلك التي تحتاج إلى متابعين ومعدّين، ومصوّرين وصحافيين ومروّجين، ورسامين وخياطين، إضافة الى رؤوس أموال ومنفذين لعالم لا يعلمه حتى الفنان نفسه، من أمثال مارلين مونرو ذاتها.
عالم تتشابك فيه المصالح والأنانيات والنزعات والمخاوف والتوجّسات، قوى تتصارع على اكتشاف نجم ونجمة، لتحتكره وتصدّره كما تشتهي وتريد، لتوصله في النهاية إلى العنان، أو تحط من شأنه، فتقلل من قيمته وتعدّه مجرد كومبارس، ليس بذات أهمية، أو تجعل منه شعلة لا تنطفئ، تظل متوهجة تتغذى بالإعلام المستمر، والتصوير الدائم، والكتابة، والترويج الخارق والسابق لعصره، حتى يتربّع النجم على كرسي أبدي، لا يستطيع أحد بعد ذلك زحزحته منه، مهما بُذل من تشويش على مسيرة النجم، وتشويه لعمله وسمعته ورؤيته الفنية، بتسليط المنتفعين لينالوا منه بشتى السبل والطرق، التي يتقنها العاملون في هذا المجال اللذيذ والمتعب، والمخيّب أحياناً، والجاني للثروات والشهرة في غالب الأحيان.
نورما جن، أو الأيقونة الهوليوودية مارلين مونرو، وقعت أسيرة كل هذه الأدواء، داء الشهرة، والضوء الساطع القوي والمُبهر، شهرتها تخطت شهرة الملكات والأميرات، وكذلك النجمات السابقات في السينما العالمية، حصلت على المال الذي افتقدته في الطفولة وأيام المراهقة، وكسبت الرجال المفتقدين في بعض محطات حياتها، إذ هجرها العديد، أو تخلت هي عن الكثير منهم، حسدتها النساء لجمالها وفن الإغواء الذي كان لديها، وبحة صوتها النادرة، لهذا حاربنها ونلن منها بشتى الأساليب والأشكال، فطاردتها الشائعات والأقاويل والحكايات، وغصّت سيرتها بالعابرين من العشاق ورجال السينما، والصحافيين والكتاب والأدباء، وحتى الرؤساء، كالكاتب الشهير آرثر ميللر والرئيس جون كنيدي، وبسلسلة طويلة من الممثلين المولعين بها وبصورتها، وصوتها وهي تؤدي الأغنيات الخفيفة عبر طلتها الممتعة، المنطوية على كمية كبيرة من الدلع والغنج والرقة واللمعان الأنثوي، هذا الذي أدهش الأبصار وجعلها تطارد حركات هذه النجمة المُغوية والدلوعة، والبازغة كنجم بارق ومضيء في سماء السينما الأمريكية حينذاك، فصورتها لا تزال تحمل النظرة ذاتها لها، حين انطلقت في هذا العالم الحالم والساطع بالأضواء، المُغري والمفعم بهمستها العاطفية وهي تسود شاشة الواقع، حين يتحول إلى خيال مثير ومدهش وأخاذ.
حياتها منذ نشأتها وحتى وفاتها كانت لا تخلو من المفاجآت غير السارة غالباً، فهي تتحدّر من عائلة متواضعة وغير طبيعية، وبالأخص من جهة أمّها، فهي كانت في مستشفى للأمراض العقلية، والدها أي جد مارلين وجدّتها كانا من ساكني مستشفى الأمراض العقلية، أمها تعمل كومونتيرة للأفلام، امرأة مختلة، شقيقها أيضاً انتحر. الأم ليس لديها عمل دائم، لديها ولدان من زوج سابق لوالد مارلين، لكنهما بعيدان عنها وبصحبة والدهما، ثم صارا في ما بعد حصّة عائلة قامت برعايتهما، كون الأم غير قادرة على الرعاية، ومن ضمنهم مارلين ذاتها، فهي الأخرى كانت لدى ساعي بريد وقبلها كانت لدى عائلة أخرى، حتى انتهت في دار لتربية الأيتام والضالين. عملت نورما في كل الأشغال المتدنية، تلك التي لا تحتاج الى دراسة وشهادة علمية، حتى وصلت الى ما وصلت إليه من شهرة منقطعة النظير ، وغير مسبوقة لمن جاء قبلها وحتى لمن جاء بعدها، وصلت بالتدريج صاعدة الدرجات التي ستوصلها إلى القمة، إلى ذروة المجد، من فتاة فقيرة، منكسرة الجناح، شبه بلهاء، غير مثقفة، الى فتاة لامعة تحف بها الأضواء، ويلتف حولها المعجبون، ممثلة باهرة لا يدانيها أحد بنجوميتها وشهرتها الواسعة. لم تكن نورما محبوبة في طفولتها حتى من قبل أمها، ولا تعرف عن والدها شيئاً، إلى أن رأت ذات يوم حين شبّت في غرفة أمها صورة والدها، معلقة على الحائط، كانت تقف أمامها طويلاً متأملة الصورة، إلى أن مسكتها أمها متلبسة بالنظر إليها، فقالت أمها حين رأتها: هذا والدك. صورة الوالد حسب وصف مارلين لها، على أنه كان بشارب رفيع وقبعة مائلة وابتسامة خفيفة مرسومة على شفتيه، فصورته هذه التي تعلقت بها مارلين، كانت تشبه بالنسبة لها صورة كلارك غيبل الممثل الهوليوودي الشهير. بالطبع مارلين مونرو حين اخترقت العالم الهوليوودي وحظيت بلقب أشهر نجمة استعراضية، ستقف أمام نجم أحلامها، أو في الحقيقة أمام صورة والدها المجسّدة في كلارك غيبل، فهنا ستكون على قدم المساواة مع أشهر نجم في زمانه، وحلم كل منتج ومخرج، وكذلك حلم كل فتاة في ذلك الوقت.
كان زواج مارلين مونرو الأول من جندي في أسطول البحرية الأمريكية، هذا الزواج، حسب قولها، أنقذها من اليتم، كونها فتاة كانت تعيش في ملجأ، وثانية عاملة في مصنع لصنع المظلات، ترتدي دائماً اللون الأزرق، وهو لون بدلة العمل من الزي الموحد، لتتوالى بعد ذلك الزيجات على نحو غير مستقر.
إن صورة مارلين التي غزت الشاشة السينمائية العالمية، جعلت المنتجين يلهثون وراءها، وكذلك أصحاب المجلات الشهيرة، أولئك الذين كانوا يحاولون الإيقاع بها، عبر المال لعرض جسدها عارية لغلاف مجلة، في البدء كانت تتمنّع، كون هكذا أمر سيحرق صورتها الفنية مستقبلاً، لكن سوء الحال والمزاج والحاجة إلى المال لشراء سيارة مثلاً أو فيلا، كان الدافع لقبولها هذا العرض، ما أدّى بها لاحقاً مع قضايا أخرى لا تعد ولا تحصى الى تدهور حالتها السايكولوجية. إنها نورما جن الفتاة اليتيمة والخادمة وغاسلة الأرضيات والعاملة، طارت شهرتها ذات يوم لتغطي سماء المشاهير وعارضي الأزياء ومبتكري الموضة، وكذلك ستبهر المخرجين والمنتجين والعاملين في الشأن السينمائي، عارضين عليها أتفه الأدوار مقابل مال وفير، لكن مارلين مونرو التي انطلقت من القاع إلى القمة، وباتت تعرف كل شيء، أمست تتقبّل القليل من الأدوار وترفض الكثير، لتواصل حياة المشاهير وتتخبط مثلهم في هالات الضوء والشهرة، وكذلك في حالات اليأس والكآبة والمرارة، منتهية الى العزلة والآلام النفسية والروحية، لتُنهي بعد ذلك حياتها بالانتحار.
ترجمة باسم محمود، المدى.
شاعر عراقي