يصف الكثيرون حرب إسرائيل المستعرّة ضد غزّة منذ أكثر من مئة يوم بأنّها من أكثر الحروب قسوة في التاريخ الحديث، إن لم تكن الأقسى، بالمقاييس كافة. فقد أزهقت أرواح عشرات الآلاف من المدنيين العزّل في زمن قياسي، ودفنت الآلاف تحت ركام البنايات في أحياء سويّت بالأرض. وشرّدت مليوني فلسطيني من أهل غزة بعد أن دمّرت البنية التحتية وقطعت كل سبل الحياة. وبات واضحاً أن الهدف هو جعل الحياة مستحيلة. وهو ما يحدث أمام أنظار العالم وأنظار مؤسسات ومنظّمات عالميّة شتّى تتراوح ردود فعلها بين العجز والتخاذل والتواطؤ. كما تشترك في التواطؤ ودعم الإبادة الولايات المتحدة وحلفاؤها.
أضحت وحشية الممارسات الإسرائيلية وساديّتها واضحة للعيان، خصوصاً أن الجنود الإسرائيليين لا يتردّدون، بل يتبجّحون ويتفاخرون، بتوثيق أفعالهم الشنيعة وينشرونها على وسائل التواصل الاجتماعي، وكأنهم يتحدّون العالم الذي يتساءل كثيرون فيه: يا ترى من أين يأتي كل هذا الحقد وهذه العنصريّة؟ وقد نجد أجوبة على هذين السؤالين في المناهج التدريسية الإسرائيلية، والخطاب التلقيني فيها، من حيث تمثيله للأنا الجمعيّة، وتصويره لتاريخ العلاقة بالآخر وبالحيّز الجغرافي والسياق التاريخي، وبالتالي للأساطير المؤسِّسة للدولة.
يلتحق كل إسرائيلي وإسرائيلية بالجيش مباشرة بعد إكمالهم الدراسة الثانويّة.
كنّا قد سمعنا وقرأنا في العقود الأخيرة الكثير من النقد بخصوص مناهج التدريس في المنطقة، وفي فلسطين بالذات. وكيف أن الكتب المدرسيّة تلقّن الكراهيّة وتشجّع على التطرّف، ومعظم هذه الانتقادات كانت تأتي على ألسنة سياسيين غربيين محافظين وتوظّف للضغط على السلطة الفلسطينية أو لابتزاز الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) والتهديد بخفض تمويلها، لكن دراسة موّلها الاتحاد الأوربي ونشرها معهد جورج إيكرت لأبحاث الكتب الدراسية الدولي، فنّدت ادعاءات اليمينيين بأن الكتب المستخدمة في المدارس الفلسطينيّة معادية للساميّة. وتبيّن أن مصدر حملات النقد هذه هي تقارير تنشرها مؤسسة IMPACT-se ومكاتبها في لندن ورامات غان في إسرائيل، بالإضافة إلى فبركات من منظّمة أخرى يرأسها أحد المستوطنين، تأخذ على عاتقها مراقبة الإعلام الفلسطيني. واحد من أهم البحوث التي قاربت الكتب المدرسيّة الإسرائيلية هو «فلسطين في كتب التعليم الإسرائيلية: الأيديولوجيا البروباغندا في التعليم» الذي أنجزته نوريت بيليد-إيلحانان في عام 2012 وصدر عن آي بي تاوروس، وبيليد-إيلحانان أستاذة اللغة والتعليم في الجامعة العبرية في القدس ومترجمة وناشطة. والجدير بالذكر أن ابنتها سمادار، قتلت في عملية انتحارية في القدس 1997، لكن ذلك لم يغيّر من قناعاتها السياسية. وألقت اللوم آنذاك على الاحتلال وسياساته قائلة «هذه ثمار أفعال إسرائيل»، ولم تتغير مواقفها الثابتة بعد عملية طوفان الأقصى.
تتكفّل الكتب المدرسية الإسرائيليّة بنزع الإنسانيّة رمزياً وخطابياً عن الآخر الفلسطيني، وتصوّر وجوده مشكلة أو عائقا أمام بقاء وتمدّد الدولة الصهيونيّة
ركّزت بيليد-إيلحانان في كتابها على 17 كتابا مدرسيا في مواضيع التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية من مختلف المراحل في المناهج الإسرائيلية. وما خلصت إليه هو أن نزع الإنسانية عن الفلسطيني وتجريده منها هو أحد القواسم المشتركة في الخطاب التعليمي، الذي يرسّخ النبذ والإقصاء الرمزي والخطابي للآخر، الذي لا ينتمي إلى العرق المتفوق. لا وجود ولا حضور حقيقي للفلسطيني كإنسان متعدد الأبعاد له تاريخ عريق وعمق ثقافي متجذّر في المكان/البلاد. وعندما يظهر الفلسطيني على صفحات الكتب فهو يظهر ليجسّد خطراً أو تهديداً ديموغرافياً يجب الحد منه، وإبعاده، أو يظهر كعدوّ لا بد من محاربته. ولا يظهر أبداً كإنسان متساوٍ يعيش على الأرض ذاتها. وتذكر بيليد إنّه لا توجد صورة واحدة طبيعيّة لأنسان فلسطيني في مئات الكتب الإسرائيلية. فهو قد يظهر مرسوماً بشكل علي بابا (في اتّكاء واضح على الأرشيف الاستشراقي الذي يقصى الآخر إلى عالم الخيال والحكايات والماضي الخرافي، بدلاً من وجوده في الحاضر الملموس)، أو قد يحضر في صورة تظهر فلاحاً مع ثور ومحراث (أيْ: الآخر المتخلّف عن ركب الحداثة والرافض للتطوّر). وتقابل صورة هذا الآخر في المخيال الجمعي، أو في الكتاب، صور «الرواد الصهاينة» الذين جلبوا المعرفة والحداثة والتكنولوجيا إلى أرض أُهْمِلَت، فحولوها من صحراء إلى أرض خضراء. ويُغَربَل الماضي في هذه الكتب بغربال أيديولوجي دقيق بالطبع، يأخذ منه ما يشرعِن ويرسّخ الأسطورة الصهيونية حول «ولادة إسرائيل». فتُجرّد الوقائع من سياقها التاريخي وتسلخ عن جذورها وتُذكر كنتائج وحقائق، وتقيّم بحسب مقدار إيجابيّتها وإسهامها في تأسيس الدولة. على سبيل المثال، تُصوّر الخطة داليت، التي نفّذت التطهير العرقي للفلسطينيين والاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين في 1948، تصوّر على أنّها كانت «نجاحاً ساحقاً» لأنّها دعمت قوة اليهود في الدولة الجديدة». ويدرس الطلاب أن العرب (لا يسمّون فلسطينيين بالطبع لأن ذلك يعني اعترافاً بهويتهم الوطنية) هربوا بعد 1948. وتصوّر النكبة على أنها «حل ناجح» لمشكلة ديمغرافية مخيفة، حتى إن أول رئيس إسرائيلي، حاييم وايزمان (1874-1952) الذي كان يعتبر من المعتدلين، يصفها بأنها «معجزة». وحين تضطر الكتب إلى التطرق إلى المذابح التي ارتكبها الصهاينة، فإنها تجد الأعذار وتعزو ما حدث إلى أمور تقنية. مثلاً، في مذبحة دير ياسين (1948)، لم يعمل مكبّر الصوت وبذلك لم يسمع المختبئون الأوامر بالخروج، ولهذا السبب كانت أعداد الضحايا كبيرة! أما تبرير مذبحة قبية (1953) في الضفة الغربية التي قتل فيها الجنود الإسرائيليون، بقيادة شارون 69 فلسطينياً، فنقرأ أن الجنود الإسرائيليين لم يدركوا أن الفلسطينيين كانوا داخل البيوت حين فجّروها. يُغيّبُ القاتل في هذا الخطاب، وبذلك فالفلسطينيون لا يُقتَلون، بل يموتون جرّاء أخطاء. ونجد صدى هذا اليوم في الإعلام الغربي المتحيّز الذي يستخدم «ماتوا» للفلسطينيين و «قُتِلوا» للإسرائيليين، مع الإصرار على ذكر الفاعل في الحالة الثانية وإغفاله دائماً في الأولى.
أما تعامل الكتب مع الضفة الغربية فنجد أنه يشرعن حركة الاستيطان فيها، ويبرّر استعمارها بالتركيز على رواية المستوطنين أنفسهم. فتصوّر الأراضي المسلوبة والمصادرة من أصحابها على أنّها أراضي الدولة و«السكن» فيها عودة إلى الوطن بعد شتات طويل، وتحقيق لحلم نبيل. وتدعم هذا الخطاب مقولات عنصريّة تؤكد للطلاب أن العربي يفضّل العيش على الأرض وليس في بنايات عالية. كما تصوّر الكتب الحواجز العسكرية الإسرائيلية التي تنفّذ سياسة الاحتلال، والتفرقة العنصريّة بشكل مخادع فتظهرها خالية من البشر، وتصفها بأنها ضرورية للأمن والحماية من الخطر الداهم.. ويغيّب الوجود الفلسطيني في تمثيلات الحيّز الجغرافي أيضاً، فلا تُظهِرُ الخرائط المستخدمة في الكتب المدن الفلسطينية، ولا تظهر الحدود الفاصلة بين الضفة الغربية وغزة، وبقية فلسطين التاريخية.. ويُمحى تاريخ غزة وأهلها وتغيب تفاصيل وأسباب وجود 1.4 مليون لاجئ فيها شرّدتهم إسرائيل، حين يذكر مخيّم جباليا، مثلاً، فإنه يظهر في صورة ملتقطة من قمر صناعي لا يظهر فيها أي بشر، ترافقها جملة عن الذين يعيشون باكتظاظ وفي فقر.
لا يتسع المجال هنا للكتابة عن تسخير الهولوكوست وتوظيفه لأهداف أيديولوجية في خطاب الكتب المدرسيّة الإسرائيلية. لكن لا بد من أن نذكر أن بيليد-إيلحانان تشير إلى أن هذا الخطاب يربط دائماً بين العنف الفلسطيني (وهو مقاومة لعنف الاحتلال) والعمليات الفدائية، والهولوكوست والنازيّة. والمحصلة الفعلية هي تحويل الغضب والرغبة في الانتقام من مرتكبي الهولوكوست الأصليين، أي الألمان، الذين أصبحوا أصدقاء وحلفاء، إلى الفلسطينيين والعرب، والمماهاة بينهم وبين النازيين.. ولم تتغير الأمور كثيراً منذ صدور الكتاب، حسب أكثر من حوار مع مؤلفته، بل إنها تدهورت. فقد كشف تقرير صدر في 2015 أن مشاكل العنصرية (التي تطال اليهود الشرقيين واليهود من أصول افريقية أيضاً، ناهيك عن الفلسطينيين) في المناهج لم تعالج بجديّة. فعلى سبيل المثال، في عام 2019، ألزمت وزارة المعارف الإسرائيلية الطلاب بالتسجيل في كورس بروباغندا واجتياز امتحان قبل سفرهم خارج البلاد في رحلات مدرسية. ويطلب الكورس مشاهدة عدد من الأفلام والإجابة على أسئلة مثل: كيف تستخدم المنظمات الفلسطينية وسائل التواصل؟ وكان الجواب الصحيح هو: للتشجيع على العنف. أما جواب السؤال حول جذور اللاسامية في العصر الحديث فهو «المنظمات المُسْلِمة وحركة المقاطعة الدولية ضد إسرائيل».
تتكفّل الكتب المدرسية الإسرائيليّة بنزع الإنسانيّة رمزياً وخطابياً عن الآخر الفلسطيني، وتصوّر وجوده مشكلة، أو عائقا أمام بقاء وتمدّد الدولة الصهيونيّة. لا حق له في أرضه التي استعادتها هي بمزيج من القوة والمعجزة الإلهية. وجوده خطر محدق ومقاومته إرهاب لا بد من محاربته. وترسّخ في ذهن الطالب الإسرائيلي أن الذات الإسرائيلية ضحيّة أبديّة، متفوّقة أخلاقياً ثقافياً، يجوز لها ما لا يجوز لغيرها. ولعل الجرائم في غزّة تطبيق عمليّ لما تعلّمه الجندي الإسرائيلي في المدارس من عنصرية.
كاتب عراقي