في البدء كانت قصة حب هي التي قادتني إليه، ولعي بقراءة الروايات دفعني لتشكيل مجموعة قرائية مع أربع صديقات، نتبادل الكتب في ما بيننا ونتناقش ما نقرأ، واحدة من المجموعة كانت مغرمة بأديب يقترح عليها أحيانا كتبا تقرأها ولنسم ذلك حبا ثقافيا إذا شئتم. ويوما ما رشح لها رواية «شرفات بحر الشمال» للكاتب الجزائري واسيني الأعرج ارتأت لمعرفتها بذوقي في القراءة أن الرواية من النوع الذي يستهويني، ولم أعرف من هو حبيبها، إلى أن جمعني لقاء به وقادنا الحديث إلى واسيني الأعرج وروايته المذكورة، فسألني إن كنت قد حصلت عليها من فلانة، فتيقنت أنه حبيبها المثقف الذي يرشح لها الكتب.
لم أكن قد سمعت بواسيني قبل أن تدلني صديقتي على «الشرفات» وكان ذلك تقصيرا مني، وأنا التي كنت يومها أقدم برنامجا ثقافيا، ومتابعةً للشأن الثقافي وقارئة نهمة للروايات. أذهلتني الرواية فأنهيتها في ليلة، ووافقت هوى في نفسي لأن فيها ما يصلح للاقتباس والحفظ، وهذه إحدى العلامات التي تشدني في الكتاب، فسجلت في دفتري جملا عدة حفظت بعضها كقوله «لماذا في نهاية المطاف لا تشتهي المرأة إلا من يكذب عليها؟». وبلغ من إعجابي بها أن اقتنيت من الرواية نسخا عديدة كنت أهديها لمن أريد لفت انتباهه إلى هذا الاكتشاف الجميل بالنسبة لي، وفي بحثي للاستزادة من التعرف على كاتبها، عرفت أنه روائي جزائري مشهور، وله روايات أذْيَع من «شرفات بحر الشمال» مثل «ذاكرة الماء» و«سيدة المقام» فقررت أن أستضيفه في برنامجي «نلتقي مع بروين» علما أنني افتتحت هذا البرنامج بلقاء مع مواطنته الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي.
أعددت العدة للقائه بقراءة كل ما وصل إلى يديّ من رواياته، وشاهدت ما أجري معه من حوارات تلفزيونية ولقاءات صحافية، إضافة إلى ما كنت أسمع عنه في جلساتنا الشعرية من الشاعرة حمدة خميس، التي كانت معجبة بكتاباته وآخرين غيرها. إلى أن حانت فرصة اللقاء الشخصي، ذلك أنني كنت أسافر باستمرار لحضور مهرجان القرين الثقافي ومعرض الكتاب في الكويت، لمتابعة المستجدات الثقافية واختيار ضيوف برنامجي، وفي إحدى زياراتي علمت أن واسيني الأعرج سيكون ضيف المهرجان، غير أنه يصل صباح الليلة التي كنت سأغادر فيها الكويت، فقررت اغتنام الفرصة وتأجيل سفري لليوم الموالي، ولم يكن الوقت يسعفني للالتحاق برحلتي سوى للتسليم عليه بعد ندوته، فوجدته شخصا لطيفا متواضعا، وحين صافحته قلت له مقتبسة من «شرفات بحر الشمال» «جميل أن تستيقظ ذات صباح وأنت تكتشف فجأة أن الدنيا ليست مغلقة، وأن الذين أعطيتهم شِعرا ذات ليلة يهدونك اليوم أجمل هدية في الحياة: الرغبة في العيش» فضحك مسرورا من هذه الإعلامية الخليجية التي تحفظ فقرات من روايته، ويومها عرضت عليه استضافته في برنامجي «نلتقي مع بروين» فرحب بذلك.
في تواصلنا الهاتفي في ما بعد تواعدنا على حلقة في ليلة عيد ميلاد سنة 2005، ورغم أنه عادة ما يقضي هذه الليلة مع عائلته في باريس وافق على القدوم لليلة واحدة نجري فيها الحلقة ويعود إثرها إلى فرنسا. وهذا ما حصل وكان البرنامج في ذلك الوقت مباشرا. ومضت الحلقة أفضل مما توقعت، أو هكذا ظننت، فقد أجاب بأريحية على أسئلتي واجتهدت في تقديمه للجمهور الخليجي في أفضل صورة، غير أن ما حدث في اليوم التالي أزعجني فقد التقيت في ممرات التلفزيون بمدير القناة يومها، وكان قد حضر جزءا من اللقاء، فسألني معلومات بنبرة ساخرة عن ضيفي (البوهيمي) أي صاحب الشعر الكثيف المهمل، وحين أخبرته بقيمته الأدبية، وكنت أعتقد أنني قدمت «سكوب» باستضافة روائي مميز لم يظهر إلا نادرا في قناة خليجية، أجابني المدير ببرودة بأني كنت أحاور نفسي في مرآة، فحلقتي النخبوية لن يستمع إليها سوى أنا وضيفي. فاستأت لهذا التقييم المتعجل، لكن ما جبر خاطري حجم الاتصالات التي وردتني بعد الحلقة من العالم العربي، فكثير من المشاهدين كانوا قد قرأوا له وسعدوا بمشاهدة لقائه، ناهيك عن كونه حكاء بامتياز، يعرف كيف يأسر مستمعه بسيل من الحكايات التي لا تنتهي راكمها بذاكرة لاقطة وسفر متواصل. وكنت قد مازحته عن شخصيته اللطيفة جدا المخالفة للتنميط المعروف عن الجزائريين بحدتهم وعنفوانهم، وعزوت ذلك إلى الفترة الطويلة للدراسة في بلاد الشام مدة عشر سنوات، فابتسم موافقا أو كالموافق. غادر الفندق فجرا تاركا مجموعة من كتبه بحجم كتب الجيب وفيها رسالة تنضح رقة علق فيها معجبا بأبيات من ديواني «رجولتك الخائفة طفولتي الورقية» الذي أهديته له. وكم وددت لو رددت عليه بمثلها علنا نحيي ذلك الفن الجميل المتمثل في أدب الرسائل.
ومن ترتيبات الأقدار أني كنت أكتب في مجلة «دبي الثقافية» فأخبرني رئيس تحريرها حينذاك ناصر عراق بأنهم ينوون طبع رواية «أنثى السراب» لواسيني الأعرج، فاتصلت به واستأذنته في قراءتها مخطوطة لأجري معه لقاء عنها، وكان قبل ذلك بقليل قد حصل على جائزة الشيخ زايد سنة 2007 عن كتابه «كتاب الأمير مسالك أبواب الحديد» وأثناء اجتماعي مع مسؤولي القناة للاتفاق على ضيوف الدورة البرامجية الجديدة طلب مني مدير القناة استضافة الروائي الجزائري، الذي زغردت زوجته في القاعة يوم فاز بجائزة الشيخ زايد، فأجبته بأنه الشخص نفسه الذي علقتَ على لقائي به قبل سنتين بأنني (كنت أحاور نفسي في مرآة، فحلقتي النخبوية لن يستمع إليها سوى أنا وضيفي) حينها شعرت بأنني انتصرت لذوقي وصوابية اختيار ضيوفي، وعليّ أن أدافع بروح قتالية عن قناعاتي. كان واسيني الأعرج دائما متعاونا جدا، فلم يتبغدد على دعواتي للقاءاتنا التلفزيونية يوما، بل لم تكن له أي شروط مسبقة عن مكان إقامته، أو المقابل المادي للحلقة، كما كان يتعبني بعض الضيوف بطلباتهم التي تخرج عن اللياقة أحيانا. وقد سرني جدا حين اتصل بي من لبنان بعد حلقتنا عن روايته ليخبرني أن نسخ «أنثى السراب» نفدت في معرض الكتاب في بيروت نتيجة مشاهدات الحوار.
هذه الدماثة في التعامل والوفرة في الإنتاج والقدرة على إثراء الحوارات بالمعلومات والحكايات والتأملات، دفعتني لاستضافته في جميع برامجي مثل «أهل المعرفة» و«حلو الكلام». وبتكرر اللقاءات في المهرجانات الثقافية والفعاليات والندوات ومعارض الكتب، علاوة على أصدقائنا المشتَركين الكثر، نشأت بيني وبينه صداقة شخصية ومراسلات، بل أغرتني رسائله المترفة الأسلوب بكتاب مشترك بيننا في أدب الرسائل، غير أنه بقي حلما مؤجلا مثل كثير من أحلامنا. وكان آخر لقاء تلفزيوني بيننا يوم استضفته قبل سنة في برنامجي «ما بين السطور» في مكتبة محمد بن راشد مع زوجته الشاعرة زينب لعوج، وفي هذا الحوار أعطيتُ مساحة أكبر لزينب وقد تألقتْ بثقافتها وحضورها وردودها الذكية، وقدما معا صورة الثنائي المبدع المتجانس، وبدا يومها خوفها عليه من الأسفار المتواصلة والكتابة التي لا تنقطع، فقد أصدر سبعا وعشرين رواية وست مجموعات قصصية وأربعة كتب متنوعة، وهو إنتاج أدبي وفير، خاصة إذا علمنا أن بعض رواياته بلغت قرابة الألف صفحة، كما أن له روايات مكونة من جزأين مثل «الليلة السابعة بعد الألف» و«رماد الشرق» و«ليليات رمادة».
في سنة 2015 كنت في لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) وكانت برئاسة الشاعر المرحوم مريد البرغوثي، وتقدم في تلك الدورة واسيني الأعرج برواية «مملكة الفراشة» الصادرة عن دار الآداب، ورغم صداقتي معه، حرصت على أن أكون محايدة في حكمي، فلم أدافع عن الرواية، بل رأيت أن المتوقع من واسيني نص أفضل منها، وتوافق رأيي مع رأي مريد البرغوثي الذي كان يرغب في إعطاء فرصة للتجارب المختلفة والدماء الجديدة في جسد الرواية، قائلا بصراحته المعهودة «نوقف جشع الروائيين الكبار» ولم تدخل «مملكة الفراشة» سباق البوكر. وحين أصبحت أسماء لجنة التحكيم علنية لم يعاتبني واسيني الأعرج، بل لم يثر موضوع الجائزة معي مطلقا رغم تعدد لقاءاتنا، لأنه يعلم أنها أمانة وكنا مسؤولين عن أدائها محيدين عواطفنا وأهواءنا. استضفته في بيتي مع عائلته في لقائنا الأخير بعد فوزه بجائزة «نوابغ العرب» أو نوبل العرب كما وصفها الكثيرون، وحين هنأته بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وبعدها جائزة «نوابغ العرب» أخبرني بأنه لم يرشح نفسه يوما لجائزة، بل كانت الدور الناشرة له تفعل ذلك، ولم يكتب نصا بالمطلق وفي ذهنه الجوائز.
لقد حفظتْ لنا كتب الأدب القديم أسماء شعراء أُطلق عليهم لقب النابغة، مثل النابغة الذبياني – وهو أشهرهم – والنابغة الجعدي والنابغة الشيباني، وستحدثنا حتما الكتب التي ستؤرخ للرواية في المستقبل عن واسيني الأعرج «النابغة التلمساني» الذي كان أول كاتب يفوز بجائزة نوابغ العرب.
شاعرة وإعلامية من البحرين