ابن آوى حيوان من فصيلة الكلبيات يشبه الذئب ويعيش في افريقيا وآسيا، لهذا الحيوان قصة غريبة مع اللغة العربية، ذلك أنه إذا جمع لا يحافظ على تذكيره، بل يؤنث جمعه فلا يقال أبناء آوى، بل بنات آوى. لماذا هذا الانتقال في الجمع من التذكير إلى التأنيث؟ هل لهذا التحويل الفريد في اللغة أسباب لغوية أم تتجاوزها إلى الأسباب الإدراكية والاجتماعية؟
من المعلوم أن ابن يجمع على أبناء وبنت على بنات هذا هو أصل الأشياء في الكلام، لكن هذا التنظيم المقولي ينخرم إذا ما تحدثنا عن هذا الضرب من الجموع غير العاقلة، بما يعني أن العاقلية تؤثر في انتظام مقولة التذكير. فنحن من الممكن أن نجمع ابن إن كان عاقلا على أبناء، لكن ابن إن كان لا يحيل على عاقل في الواقع، استبدل ببنات لأن جمع المؤنث السالم يمكن أن يكون من العاقل (بنات عمتي) أو غير العاقل (بنات أفكاري). في هذا السياق أجري الجمع مجراه غير الأصلي في (بنات آوى) إذ كان لفظ الابن لا يحيل على بنوة عاقلة، بل على بنوة غير عاقلة.
تميز العربية بين جمع عاقل وجمع غير عاقل، فرجل وولد وملك وقائد، إذا جمعت كان جمعها جمعا عاقلا، لكن الأسماء إن أحيلت على ذات غير عاقلة كالحيوانات والجمادات والمجردات أنثت وأفردت لفظا: فإن كان من المقنن أن نشير إلى الجمع العاقل باسم الإشارة هؤلاء، فإن غير العاقل يفرد ويشار إليه باسم الإشارة (هذه) فيعود الجمع إلى الإفراد ويعود التذكير إلى التأنيث. من اليسير أن يتعلم الناشئة انقلاب القواعد على أعقابها إذا تعلق الأمر بغير العاقل: أن يصبح المذكر مؤنثا والجمع مفردا في الصيغة جمعا في المعنى. ففي قولنا (هذه أختي) تجمع على هؤلاء أخواتي لكن حين تقول (هذه برتقالتي) فعليك أن تجمع على هذه برتقالاتي. عبارة (هذه) الأولى التي تحيل على المفرد ليست هي نفسها (هذه) التي تحيل على الجمع، هذه في مقولة الجمع اسم إشارة دل لفظه على المذكر لكنه دل في المعنى والسياق على الجمع. لو تحدثنا عن اللغة من الناحية النظرية لكان كلامنا غير منظم لأن الناحية النظرية تدخل في تقديرات النحوي النظرية التي تتعامل مع قواعد من غير النظر إلى واقع الاستعمال، لكن الاستعمال أحيانا يكذب النظرية ويمثل استثناء لها، وعلى المنظر في النحو القديم أساسا أن يجد لها تعليلا، حتى إن كسرت نظامه وبلبلت اتساق نظريته.
انظر إلى عجب الاستعمال تجد فيه (ابن آوى) ولا تجد أبناء آوى، لا لأن هذا الحيوان لا ذكر فيه، بل لأنه لا عاقلية فيه، لقد تغلبت مقولة العاقلية/عدم العاقلية على الذكورة والأنوثة. المفرد المذكر العاقل يقبل بفضل العاقلية أولا، والتذكير ثانيا أن يصبح جمعا لكن المفرد المذكر غير العاقل يفقد تذكيره لفقدان عاقليته، وبالطبع لا يفقد ذكورته المرجعية. أنت تجد في الاستعمال ابن آوى، لكنك لا تجد بنت آوى؛ فعلى الرغم من أن هذا الحيوان يمكن أن يكون فيه الذكر والأنثى، فإن المتكلم غلب فيه المذكر على المؤنث واستعمل الصيغة الأولى استعمالا لتسمية الذكر المرجعي والأنثى المرجعية.
من اليسير أن نستنتج استنتاجات سريعة من نوع، أن العاقلية هي سمة المذكر، وأن غير العاقلية مناسبة للمؤنث، بدليل إجراء جمع غير العاقل من الأشياء على جمع المؤنث السالم، ومن اليسير أن نتهم الثقافة العربية، من خلال لغتها بأنها لا تقيم وزنا للمرأة العاقلة وبأن عاقليتها كعدم عاقليتها.
في الاستعمال منطق براغماتي كرسته في اللغة عادات ثقافية منها، أن الحاجة إلى التمييز في الحيوان بين ذكر وأنثى هي حاجة نفعية وهي تطبق على الحيوانات التي يستفيد فيها البدوي، من إجراء التمييز بين الذكر والأنثى، ولاسيما في الماشية وفي الحيوانات الآهلة التي يربيها المرء أو تعيش معه، لذلك ميز العربي بالاسم وليس بالمقولة بين بقرة وثور وبين جمل وناقة فكل هذا كان من المال الذي يعنيه التمييز فيه بين الذكر والأنثى عند التكاثر المخصب والمدر ربحا. وميز بالمقولة أي بإدخال علامة تأنيث على اسم يستعمل للمذكر مثل قط وقطة وكلب وكلبة، وهذه حيوانات لها وظيفة غبر ربحية، لكن الحيوانات غير الآهلة لا يحتاج فيها إلى التمييز بين ذكر وأنثى وإن وجد ذلك فمن باب البذخ اللغوي في غالب الأحيان، ونحن وإن كنا نعرف ما ذكر السلحفاة في اللغة، فإننا لا نعرف ذلك إلا على صعيد اللغة، وكثير منا إن صادف سلحفاة لا يعنيه أكانت ذكرا أم أنثى.
لكن أن يتسمى الحيوان باسم من نوع فأر وقط وتضاف إليه علامة التأنيث فهذا شيء وأن يسمى بأحد ألفاظ القرابة (ابن/ أبو) فذلك شيء آخر فهو يشبه في تسمية الأناسي ما يسمى الكنى، أي أن نكني عن صالح باسم ابنه فيقال له أبو صالح أو أن ننسب الابن إلى أبيه فيقال ابن الرومي، أو إلى لقب أبيه كابن المقفع.. وهذه تنويعات في التسميات معلومة لأسباب ثقافية تتمثل في ترك اسم الشخص إلى نسبته أو قرابته. من الناحية اللغوية ابن آوى هو اسم تعتمد فيه هذه الآلية في النسبة والتكنية، لكن هذه التسمية لا نسبة فيها ولا كنية فيها إلا من جهة اللفظ، ثم إنها تسمية لم تعوض اسما ثابتا كاسم صالح، بل هي كنية تعامل معاملة الاسم الأصلي، لذلك فإنه وعند الجمع لا يمكن أن تضاف إليها علامة تأنيث (ابنة) لأنه لو أنث هذا الجزء من الاسم مثلما نفعل في ابن صالح/ ابنة صالح فإن التأنيث سيكون مفيدا للتمييز على أساس الجنس بين ابنين. لكن ابن في ابن آوى هو كالجزء من الاسم ولذلك لا يمكن أن يؤنث، إلا في الجمع، وإذا أنث في الجمع لم يدل على انتقال من الذكورة إلى الأنوثة، بل يدل على تحويل ضروري يناسب فيه جنس المؤنث غير العاقل.
إن الانتقال من الإفراد إلى الجمع صاحبه انتقال من التذكير إلى التأنيث، فلكأن التذكير هنا تذكير يناسب الأصل في الأسماء: أن تكون الأسماء المذكرة هي الأصل مثلما يكون المفرد هو الأصل ويكون النكرة هو الأصل. إن إخراج الاسم من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع ينبغي أن يؤثر في مقولة التأنيث والتذكير لمفتاح أساسي هو عدم العاقلية.
من اليسير أن نستنتج استنتاجات سريعة من نوع، أن العاقلية هي سمة المذكر، وأن غير العاقلية مناسبة للمؤنث، بدليل إجراء جمع غير العاقل من الأشياء على جمع المؤنث السالم، ومن اليسير أن نتهم الثقافة العربية، من خلال لغتها بأنها لا تقيم وزنا للمرأة العاقلة وبأن عاقليتها كعدم عاقليتها. هذا تأويل مذموم في اللسانيات، لأنه يرجع معطيات لغوية إلى أشياء مبررة من خارج اللغة ونظامها. الأجدر بنا أن نتساءل لماذا أجري جمع غير العاقل مجرى جمع العاقل من النساء، وليس مجرى العاقل من الرجال.
بهذا السؤال يمكن أن ندخل إلى المسألة لسانيا من أكثر من باب أهمها، أن المتكلم هو من اختار أن يجري جمع غير العاقل من النساء على العاقل وهذا اختيار يمكن تسميته بإسقاط مقولة المحايد على مقولة جمع المؤنث السالم.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية