أدى عجز أمريكا المزمن عن رؤية ما تراه بقية البشرية في غزة إلى تجدّد حيرة الرأي العام العالمي في أمر هذا الانحياز الأمريكي اللا ـ مشروط لإسرائيل: هل هو من أثر العمى أم التعامي؟ ومعروف أن لهذا الانحياز تفسيرين سائدين. أما التفسير الثقافي المتمثل في القول بغلبة الموروث التوراتي على العقيدة البروتستانتية، أي إيمان معظم الأمريكيين أن فلسطين التاريخية هي أرض الميعاد وأنها بالتالي ملك لليهود. أو التفسير السياسي المتمثل في القول بسطوة اللوبي الصهيوني وقدرته الفائقة على تمويل الحملات الانتخابية ومعاقبة الساسة الذين لا يجتهدون في خدمة مصالح إسرائيل. إلا أن ثمة تفسيرا غائبا يكاد لا ينتبه إليه أحد (ربما لأنه تفسير أعمّ): إنه سلبية موقف أمريكا من حق تقرير المصير، أي تاريخها الطويل في اللامبالاة بحرية الشعوب.
فقد اقترنت نهاية الحرب العالمية الثانية ببداية انتشار الوعي العالمي بوجوب تصفية الاستعمار، باعتبار أن احتلال بلدان الغير بالقوة وقهر شعوبها واستغلال ثرواتها جرائم تنافي منطق التاريخ المعاصر، وباعتبار أن الحق في تقرير المصير مسألة مبدأ أخلاقي وقانوني تتساوى فيه جميع الشعوب، تماما كما أن جميع البشر يولدون أحرارا ويتساوى جميعهم في الحقوق والكرامة. إلا أنه لم يكن لهذا الوعي العالمي أثر في سياسة أمريكا، ولهذا فإنها لم تتعامل مع تصفية الاستعمار على أنها مسألة مبدأ. ووجه المفارقة في هذا هو أن أمريكا هي التي بادرت منذ 1918 إلى مساندة حق الشعوب في تقرير المصير (!) في إطار المبادئ التي أعلنها الرئيس وودرو ويلسون. ذلك أن الدافع الأول لتأييد الولايات المتحدة لاستقلال بلدان آسيا وإفريقيا في الخمسينيات والستينيات إنما هو الرغبة في تعجيل تفكيك الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية في سياق تأمين شروط صعود القوة الجديدة، أي التفرد الأمريكي بزعامة العالم الغربي.
أدى عجز أمريكا المزمن عن رؤية ما تراه بقية البشرية في غزة إلى تجدّد حيرة الرأي العام العالمي في أمر هذا الانحياز الأمريكي اللا ـ مشروط لإسرائيل: هل هو من أثر العمى أم التعامي؟
ويتصل بهذا دافع آخر هو محاولة استمالة أكثر عدد ممكن من البلدان الإفريقية والآسيوية حتى لا تقع في حضن الاتحاد السوفييتي بعد نيلها الاستقلال. وقد نجحت أمريكا نجاحا كاملا في تحجيم بريطانيا وفرنسا ولكن نجاحا محدودا في استمالة الدول الإفريقية والآسيوية المستقلة حديثا. ومعلوم أنها سلكت مسلك اللامبالاة ذاته مع دول أمريكا اللاتينية، حيث لم تكن تقيم أي وزن لحق الشعوب في تقرير المصير، وإنما كان كل همها أن تدعم أي نظام حاكم يدين لها بالولاء ويعادي الاتحاد السوفييتي، ولا يهم إن كان النظام دمويا قهريا موغلا في ارتكاب المجازر وتبديد الثروات. ومشهور أن الرئيس روزفلت قال عن دكتاتور نيكاراغوا أناستازيو سوموزا «إنه ربما يكون ابن مومس (أي من الأنذال) ولكنه ابن مومسنا نحن» (أي لا يهم من هو وما هو طالما أنه خادم مطيع لنا). كما يروى أن شيئا شبيها قد قيل عن طاغية الفلبين فرديناند ماركوس.
وهذه المفارقة في الموقف الأمريكي (إعلان حق الشعوب في تقرير المصير إعلانا نظريا، والتعامل مع المسألة في الواقع تعاملا تكتيكيا محكوما بمنطق المقايضة المصلحية) إنما تذكّر بمفارقة أخرى هي أن الرئيس ويلسون نفسه، صاحب إعلان المبادئ الشهير، قد كان مناهضا لمنح الأمريكيين السود حقوقهم المدنية، أي رافضا طيلة حياته الاعتراف بمبدأ المساواة في المواطنة والحقوق والكرامة بين مواطني الشعب الأمريكي! كما أن هذه المفارقة تذكّر بأن جورج واشنطن وتوماس جيفرسون اللذين كانا زعيمين ملهمين، حيث اضطلعا بدور فعال في النضال في سبيل الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية وفي صياغة دستور بديع لا يزال فريدا بين الدساتير وفي تثبيت دعائم النظام الجمهوري الأمريكي، إنما كانا يملكان مئات العبيد ولم يفكر أي منهما في إعتاق حتى بعض منهم، ولو أن زميلهما جيمس ماديسون كان مترددا بين تأييد تحرير العبيد نظريا وبين الاقتناع بأن الرق ضرورة اقتصادية.
لكل هذا ترى اليوم أن أمريكا لا تؤمن إيمانا مبدئيا بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، بل إن أقصى ما تبذله مع إسرائيل، كما هو متكرر ومعروف في السر والعلن، هو أن تقول لها على سبيل الرجاء والإغراء: إن فتح «أفق سياسي» يعطي للفلسطينيين أملا في إمكان إقامة «دولتهم» ذات يوم إنما هو في صميم مصلحة إسرائيل لأنه يحفظ أمنها ويسحب البساط من تحت أقدام المنظمات «المتطرفة والإرهابية» ويعجل باستكمال مسلسل التطبيع مع الأنظمة العربية.
كاتب تونسي