عالم اليوم… خطر على الأبواب

لم يترك اليمين المتطرف مكانا في أوروبا إلا وطرقه وسجل به صعودا لافتا تارة من خلال صناديق الاقتراع وتارة ثانية عبر الحراك الاحتجاجي ضد قضايا الهجرة واللجوء.
وفي مواجهة اليمين المتطرف بامتداداته العنصرية يقف سياسيا من جهة اليسار التقليدي الممثل في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية واليسار التقدمي الذي تجسده أحزاب الخضر وأحزاب يسارية شبابية حديثة التأسيس، ومن جهة أخرى اليمين المحافظ الذي تحمل رايته الأحزاب المسيحية الديمقراطية وتتداخل معها أحزاب ليبرالية صغيرة. أما الحراك الاحتجاجي لليمين المتطرف فيقارعه فقط باحتجاجات سلمية ترفض العنصرية وخطابات الكراهية ضد الأجانب واللاجئين اليسار التقليدي والتقدمي، بينما تسجل أحزاب اليمين المحافظ والأحزاب الليبرالية غيابا واضحا عن الشارع. غير أن الحضور الانتخابي والاحتجاجي لليمين المتطرف يواصل الصعود ويفرض على المجتمعات الأوروبية واقعا جديدا لم يعد بمجد إنكاره.
وقد وثقت استطلاعات الرأي العام التي تجريها المراكز البحثية الأوروبية للتعرف على أولويات المواطنين والقضايا الكبرى التي تشغلهم وتفضيلاتهم بشأنها حقيقة الصعود الانتخابي والسياسي لليمين المتطرف الذي يشكل اليوم الحكومة الائتلافية الجديدة في إيطاليا ويضمن الأغلبية البرلمانية لحكومة اليمين المحافظ في السويد.
حتى تسعينيات القرن العشرين والعقد الماضي، كانت استطلاعات الرأي العام تظهر اهتمام الأوروبيين الواسع بقضايا السياسة الداخلية مثل تمايزات برامج أحزاب اليمين واليسار، ومواقف الائتلافات الحاكمة فيما خص النظم الضريبية وتقليص فجوة الدخول بين الأغنياء والفقراء، وضمانات الرعاية الاجتماعية للعاطلين عن العمل وللأطفال ولكبار السن. وفي أوقات الأزمات الدولية كالغزو الأمريكي-البريطاني للعراق في 2003، ولحظات الصراعات الإقليمية كالحروب الأهلية في يوغسلافيا السابقة في تسعينيات القرن العشرين، كان الأوروبيون يتفاعلون مع السياسات الخارجية لحكوماتهم ويبدون التأييد أو الرفض إن في صناديق الانتخابات أو عبر الاحتجاجات العلنية، ولنتذكر على سبيل المثال التظاهرات الشعبية الواسعة في بريطانيا ضد تورط حكومة توني بلير في غزو العراق في 2003.
أما اليوم، فلم تعد تلك الصورة المتوازنة لاهتمامات الأوروبيين غير سراب لا وجود له في الواقع. تدلل استطلاعات الرأي العام المعاصرة على تحولات جذرية حدثت وتحدث في أوروبا التي صار المواطن بها غارقا في نوعين من القضايا، التنازع على الهوية الوطنية (المفترضة أو المتصورة) لبلده والصراعات العنيفة على تخصيص الموارد.

بقضيتي الهوية الوطنية وتخصيص الموارد يطرق اليمين المتطرف كافة بقاع القارة الأوروبية. وها هي الولايات المتحدة الأمريكية تواجه ذات الظواهر المجتمعية والسياسية المرتبطة بصعود اليمين المتطرف

فمن جهة، فرضت الموجة الجديدة لهجرة الشرق أوسطيين مع انهيار الدول الوطنية في سوريا واليمن وليبيا والآسيويين من المجتمعات التي تعاني من حروب أهلية مشتعلة منذ عقود والأفارقة من البلدان التي تفتك بها كوارث الفساد والفقر والبطالة، فرضت هذه الموجة قضايا الهوية على الأوروبيين وقسمتهم إلى معسكرين متنازعين. المعسكر الأول هو معسكر أنصار إغلاق أبواب أوروبا في وجه القادمين من خارجها والذين باتت أحزاب اليمين المتطرف واليمين الشعبوي تعبر عنهم وتحصد أصواتهم الانتخابية. أما المعسكر الثاني فهو معسكر دعاة الإنسانية المتسامحة المتمسكة بتمكين غير الأوروبيين من القدوم إلى القارة كمهاجرين وطالبي لجوء وباحثين عن فرص للعمل وللحياة الآمنة وهؤلاء تحمل برامج بعض أحزاب يمين الوسط واليسار التقليدي واليسار التقدمي قناعاتهم وتعبر عنها. وبين صعود اليمينيين المتطرفين ومشاركتهم في حكم دول أوروبية متزايدة العدد وتراجع الأحزاب الديمقراطية وتخلي بعضها عن سياسات فتح أبواب القارة للأجانب، تدور صراعات سياسية مريرة حول الهوية تستدعي أحيانا أسوأ ما في تاريخ الأوروبيين من مشاعر العنصرية والأفكار الفاشية. ولننظر إلى ما حدث قبل أيام قليلة في إيطاليا التي فاز بها الفاشيون الجدد بالانتخابات البرلمانية.
كذلك ينقسم الأوروبيون فيما خص قضايا الهوية الوطنية بين مؤيدين لبقاء الاتحاد الأوروبي ومشروعه الاندماجي الذي ضمن السلم والرخاء لعقود طويلة وبين راغبين إما في الخروج منه على النحو الذي قررته أغلبية البريطانيين قبل سنوات أو في تقييد سلطات واختصاصات الاتحاد وتمكين الدول الوطنية من استعادة سيادتها المفقودة التي استلبتها بروكسل ببيروقراطيتها صاحبة الصلاحيات الواسعة.
من جهة ثانية، تدلل استطلاعات الرأي العام الراهنة على أن الأوروبيين باتوا يقصرون اهتمامهم فيما خص قضايا السياسة الداخلية إذا ما استثنينا مسألة الهوية الوطنية على توزيع موارد بلدانهم على أولويات مثل المعاشات والرعاية الصحية والتعليم ودعم كبار السن ودعم الأسر ذات الأطفال ومساعدة المهاجرين واللاجئين وشؤون البيئة. بل أن الأوروبيين أضحوا يتعاملون مع أمر توزيع الموارد على نحو صفري بحيث تنظر مجموعات المواطنين المختلفة لتخصيص الموارد كأمر لا يقبل القسمة أو المشاركة أو تغليب المصالح العامة. ولذا يدفع اليمين المتطرف في اتجاه إلغاء الموارد المخصصة لمساعدة المهاجرين واللاجئين طارحا على ناخبيه رؤية صراعية تدعي أن ما يذهب للسوريين وللأفغان وللمسلمين الآخرين، وليس للأوكرانيين، إنما يخصم من مخصصات المعاشات والرعاية الصحية ودعم كبار السن ويقلل أيضا من الموارد المخصصة لتجديد البنى التحتية في العديد من المدن والقرى الأوروبية. وإزاء ذلك، تشعر أحزاب يمين الوسط واليسار التقليدي واليسار التقدمي بالضغط المتصاعد للناخبين الغاضبين من فتح أبواب أوروبا للأجانب وتتراجع عن سياساتها السابقة وتقلل الموارد المخصصة لهم مهما كانت مقولات اليمين المتطرف غير موضوعية ومهما كان دمج المهاجرين واللاجئين في سوق العمل أنفع اقتصاديا واجتماعيا من تهميشهم في مجتمعات شاخت وتحتاج للعمالة الشابة. فقط أحزاب الخضر واليسار التقدمي، وقليل من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، هي التي تواجه غضب المواطنين المتأثرين بشعارات ومقولات اليمين المتطرف بتكثيف طرح سياسات وبرامج لدعم كبار السن والأطفال والأسر محدودة الدخل دون تراجع عن دمج المهاجرين واللاجئين.
وبقضيتي الهوية الوطنية وتخصيص الموارد يطرق اليمين المتطرف كافة بقاع القارة الأوروبية. وها هي الولايات المتحدة الأمريكية تواجه ذات الظواهر المجتمعية والسياسية المرتبطة بصعود اليمين المتطرف، ويتصدر دونالد ترامب المشهد الانتخابي 2024 مجددا. اليوم، يحشد اليمين المتطرف أنصاره انطلاقا من تلك الأمور ويروج في سياقها لنظرة شوفينية للاقتصاد العالمي والتجارة الدولية تدعي أن السبيل الوحيد للحفاظ على فرص العمل والاستثمارات الوطنية داخل الدولة المعنية إنما يتمثل في إغلاق أبواب الأسواق المحلية أمام المنتجات والاستثمارات الخارجية ولتذهب حرية حركة البضائع ورؤوس الأموال واليد العاملة إلى الجحيم. في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، خرجت الأجندة الحمائية من رحم الحزب الجمهوري وحزب المحافظين بعد أن اختطفت الحزبين قوى اليمين الشعبوي. بعبارة أخرى، خرج الاندفاع في اتجاه الانقلاب على منظومة الحرية للتجارة الدولية من رحم حزبين عرفا تقليديا بالدفاع عنها وبرفض تدخل مؤسسات الدولة في الأسواق أو في النشاط الاقتصادي وبازدراء الأجندات الحمائية، الحزب الجمهوري الأمريكي الذي جاء في ثمانينيات القرن العشرين برونالد ريغان رئيسا وحزب المحافظين البريطاني الذي تزعمته مارغريت ثاتشر وحكمت بلادها سنوات طويلة حتى بدت كرئيسة وزراء أبدية. لا يقتصر الترويج للانقلاب على المنظومة الحرة للتجارة الدولية على قوى اليمين المتطرف والشعبوي، بل يتداخل في الأمر أيضا وبمقترحات سياسية مشابهة اليسار التقدمي والراديكالي صاحب الخطاب المتخوف من «العولمة الاقتصادية والتجارية» والموقف الغائم من الأجندة الحمائية على النحو الذي عبر عنه عضو مجلس الشيوخ الأمريكي بيرني ساندرز خلال السباق التمهيدي للانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016 و2020 حيث نافس ساندرز في السباق التمهيدي للحزب الديمقراطي مرتين وخسره في المرتين. وفي المساحة الفاصلة بين إغلاق أبواب الأسواق في وجه المنتجات والاستثمارات الخارجية وبين إغلاق أبواب البلدان الغربية في وجه غير الغربيين تظهر ملامح قضية كبرى أخرى، هي قضية الهجرة، تلك القضية التي تشغل الرأي العام الأمريكي والأوروبي وتجر من وراءها مسألة اللجوء والموقف من اللاجئين.
صار عالمنا المعاصر، وبعيدا عن الشرق الأوسط المأزوم، في لحظة خطر كبرى لا حدود لاحتمالات تفاقمها.

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية