أفظع ما يمكن أن تصل إليه السياسة الأمريكية أن تَعْتَمد سياسة إرهابية، قلما يُنْتَبه إليها، لأنها مُدْغَمة في علاقات معقدة من مجالات متعددة ومختلفة، منها الواقعي الظاهر، ومنها المتواري الذي ينتظم في نسق شامل وعام، يحدث أثره السلبي ليس على أمريكا بالذات، بل على العالم بكامله. فعندما يرتقي الإرهاب كظاهرة إلى إرباك الوضع العالمي عبر سياسة دولية وخارجية محكمة، معنى ذلك أن الحكم في أمريكا يستند إلى إرهاب مطلق، يعد ويهيأ ويصاغ في تشريعات وسياسات تعبَّر عن الموقف الأمريكي المؤثر بالضرورة في وضعية العالم بأسره. فالإرهاب على ما تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقود هو إرهاب مطلق بالمعنى الذي يشير إلى أنه ليس ظاهرة يمكن محاربتها أو التحكم فيها، ويمكن تصفيتها وإيجاد حل سياسي لها.. الإرهاب على ما تمارسه أمريكا، هو سياسة مُتْقَنة مُلْتَفة على عمق التصرف السياسي الوطني المرشح دائما لإحداث تداعيات له في العلاقات الدولية.
ما تعرضت له أمريكا في يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 من أحداث ذَكَّرت العالم كله، وليس أمريكا فقط بيوم القيامة، على ما تعيشه أرض غزة اليوم على يد أعتى قوة إرهابية جاءت من أجهزة صنع الأسلحة الأمريكية ومخابراتها، وصلتها بالمال والأعمال التي لا تكف عن الاستثمار في الحروب والاغتيالات، وإرباك الأنظمة في كل العالم إلى حد إسناد وكلاء ينيبون عنها في شن الحروب وإحداث القلاقل وصناعة الأنظمة الفاسدة، ولعلّ الوكيل الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط أفظعهم، لأنه فعلا قائم على الحياة في الحروب والفوضى القاتلة وإرباك الأنظمة. عندما ترفض واشنطن التوقيع على «معاهدة أوتاوا» لمنع الألغام المضادة للبشر، في ديسمبر/كانون الأول 1997، فهي تساهم مباشرة في قتل البشر في كل البقاع التي مرت عليها قوات المارينز الأمريكية، وعندما ترفض التوقيع على إنشاء محكمة الجنايات الدولية في يوليو/تموز 1998، فهي تأبى فورا وحالا أي متابعة لجرائمها وجرائم وكلائها في العالم، على ما ظهر مؤخرا عندما أقدمت جنوب افريقيا على تحريك دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية لمحاكمة إسرائيل على جرائم حرب إبادة ترتكبها في حق الفلسطينيين في غزة، على مسمع ومرأى من العالم كله.
انفردت أمريكا بالحكم ومارست سلطتها العالمية كما تمارس سلطاتها الداخلية، وهي لا تستند إلى القانون الدولي العام ولا سياسة حكيمة مؤسساتية وأخلاق الأمم المتحدة
وكانت أمريكا هي البلد الوحيد في العالم الذي ساند الكيان الصهيوني في إنكار صفة حرب الإبادة، التي تجري في قطاع غزة، وبأنها حرب تطهير عرقي وحرب مناهضة للإنسانية. وكل هذا الرفض للانضمام إلى المعاهدات الدولية، والالتزام ببنود الاتفاقيات الدولية الشاملة هو الهامش السياسي الفادح الذي تتسلل منه السياسة الإرهابية، لأقوى دولة في العالم، ولم تتنبه صراحة إلى أنها لم تعد كذلك. هذا النوع من رفض الانضمام إلى ما يساعد الإنسانية على التآزر والتفاعل الإيجابي وإحكام سياسة عالمية، لأن العالم صار حقيقة قرية صغيرة، تأبى أي انفراد بالحكم وقيادة البشر. فقد انفردت أمريكا بالحكم ومارست سلطتها العالمية كما تمارس سلطاتها الداخلية، أي انفردت بسلطة رابعة هي السلطة العالمية، لا تستند إلى القانون الدولي العام ولا سياسة حكيمة مؤسساتية وأخلاق الأمم المتحدة، بل تعتمد التصرف الانفرادي، الذي تحقق لها منذ أن تلقت الضربة القاصمة في يوم مشهود وقّعه بن لادن في شهر سبتمبر 2001. احتكار السياسة العالمية وممارستها ضمن سلطة داخلية هو الذي أضفى صفة الإرهاب المطلق على السياسة الأمريكية، لأنها من إرهاب غير ظاهر لا يمكن تَعَقّبه وتَصْفِيَّته، بل يمارس ضمن سياسة داخلية متوافق عليها كمؤسسة وطنية يعبر عن السيادة الأمريكية، وتلك هي المعضلة الحقيقية: كيف يمكن محاربة الإرهاب بأدواته.. ولعلّ ذلك جعل واشنطن تمتنع عن تعريف الإرهاب بالإجماع الدولي، وراحت وحدها تحدده وفق نظامها الوطني، الأمر الذي يضيف تعقيدا آخر للإرهاب المطلق. عندما تنفرد أمريكا لوحدها بتحديد ما هو الإرهاب، ومن هم الإرهابيون، فهي في حقيقة الأمر ترفض من يزاحمها في هذه المجال، وتأبى من يقاسمها سلطة ممارسته كسياسة وطنية، أي كإرهاب مطلق لا يقوى عليه إلا من أوتي القوة العسكرية الغاشمة والاستثمار الفائق فيها. والإرهاب المطلق، يجب النظر إليه من ناحية صناعة السلاح والاستثمار فيه، واستغلال مَرْدُوده في الحروب والفوضى، والإخلال بالأمن وعدم الاستقرار وكل أنواع القلاقل والعصيان والتمردات، التي تستدعي أسلحة الردع المادي والإعلامي والمخابراتي.. وكلها من دوائر الصهاينة والرأسمال الفاحش والفاسد والجرائم غير المعلنة، يُحْتَفظ بها للتحرش والتَّربص والإيقاع التي تتطلب ترسانة من خبراء وأجهزة ومعاونين على الفساد في الداخل وفي الخارج.
وبالعودة إلى يوم من أيام بن لادن في أمريكا، اللحظة التي قدم فيها هديته إلى الرئيس الإنجيلي الجديد للبيت البيض جورج بوش الابن وعصابته اليمينية المتطرفة المتأهبة إلى ممارسة إرهابها المطلق، على صعيد سياستها الخارجية، كان يوم 11/ 09/2001 بمثابة حرب إرهاب استباقية، استعجلها بن لادن قبل أن تصل إليه، لأن العقل السياسي في واشنطن مصِرّ على عدم مزاحمته في هذا الامتياز، الذي هو الإرهاب كسياسة وطنية لا يمكن التنازل عنها. فقد كان الدَّمار الكبير الذي حل بمدينة نيويورك مع انهيار برجي مركز التجارة العالمية، وفق سيناريو بن لادن، بمثابة إرهاب مطلق تفتقت به عبقرية من خذلته واشنطن وتنصلت منه عند لحظة اغتنام نتائج تفكك الاتحاد السوفييتي وخروجه من أفغانستان. فقد راحت أمريكا إلى عدم التنازل عن امتياز الإرهاب المطلق وإبعاد كل من ساعدها على تحقيق نتائجه، لأنه الخاصية الوحيدة التي يمكن أن تنفرد به الدولة القوية في التاريخ المعاصر. الإرهاب المطلق قوة مدرجة في مؤسسات السيادة، وفي مصالح أمنية واقتصادية وعلاقات بينية بين السُّلط التقليدية والحديثة، الظاهر منها والمخفي وفي الإجماع السري والبروتوكول المعهود والمتداول بين رجالات الدولة وأعوانهم الذين يتداولون المال الفاسد. ما يعبر عن الإرهاب المطلق في السياسة الأمريكية صار واضحا للعيان وللرأي العام الدولي، بسبب ما يجري من إرهاب مطلق في قطاع غزة.. عنفوان وذروة الإرهاب ألا يُعتبر ما يعانيه الفلسطينيون حرب إبادة وتطهير عرقي وقتل على الهوية الجماعية… هذا الموقف هو لحظة وقف عندها الجميع، نعم الجميع إلا أمريكا وإسرائيل اللتين تمارسان الإرهاب المتلبس والمتسربل في أجهزة الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية والمدنية. وتلك هي واحدة من الانتصارات العظيمة التي حققتها المقاومة الفلسطينية في المنازلة الأخيرة، عندما كشفت أن ما يزعم على أنه إرهاب هو تداعيات ورجّات لإرهاب مطلق تمفصل في كيان عِبْري وفي نظام أمريكي، أصرّا معا على الاستثمار فيه والتعويل عليه في سياستها الداخلية. وبالنتيجة والتحليل الأخير، لا يمكن محاربة الإرهاب بأدوات إنتاجه.. ولكن بالوعي الجماهيري المعاصر الذي يجب أن يبدأ من الولايات المتحدة الأمريكية ولا ينتهي في إسرائيل.
كاتب جزائري